مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أصداء متباينة لـ “دعوة جريئة”

المفكر السويسري المسلم طارق رمضان (صورة من الأرشيف) swissinfo.ch

تباينت ردود فعل علماء وفقهاء إزاء الدعوة التي أطلقها المفكر السويسري الدكتور طارق رمضان، لـ "تجميد العمل بمبدأ العقوبات الجسدية وعقوبة الرجم وحكم الإعدام".

ففيما استحسنها فريق من العلماء، واعترض فريق ثان على توقيت نشرها مطالبين رمضان بالتريث، أعلن فريق ثالث رفضه التام للدعوة معتبرا أنها نوع من “الافتئات على الأمة”.

أطلق الدكتور طارق رمضان، المفكر الإسلامي السويسري يوم الأربعاء 30 مارس 2005 “دعوة عالمية” لتعليق العمل بالحدود أو ما يُـطلق عليه “قانون العقوبات” في الشريعة الإسلامية، مُـعتبرا أنها “دعوة لضمير كل فرد لكي يُـدرك أن ثمة استخداما لتعاليم الإسلام يؤدّي لإهانة وإخضاع النساء والرجال في بعض المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، وفي ظل صمت جماعي وفوضى آراء فقهية”.

وأكّـد رمضان على ضرورة تفهّـم مقصده وإحسان النية به في دعوته، محذرا من أن يفسر البعض هذه الدعوة على أنها “محاولة تحريضية للتقليل من شأن المصادر النصية في الإسلام”، موضحا أن “العكس هو الصحيح، فالنصوص الفقهية يجب قراءتها في ضوء المقاصد التي شُـرِّعت من أجلها”.

الدعوة إلى تعليق فوري

ودعا رمضان في دعوته إلى “تعبئة عموم المسلمين في كل أنحاء العالم لأن يطلبوا من حكوماتهم تعليق تطبيق الحدود، وفتح باب النقاش النقدي والجاد والعقلاني داخل المجتمعات الإسلامية بين العلماء والمفكرين والقادة وعموم المسلمين”، كما طالب بـ “مساءلة العلماء حتى يجرءوا على مكاشفة مجتمعاتهم بالممارسات غير العادلة التي تُـرتكب باسم الإسلام”، داعيا في الوقت نفسه إلى تدشين حركة “ديمقراطية تُـخرج الجماهير من الهوس بما يُـعاقب عليه القانون إلى ما يجب أن يحميه القانون، وهو بالأساس ضميرهم وحريتهم وحقوقهم وكرامتهم”.

ويشير رمضان في النداء الذي توجه به إلى أن العالم الإسلامي اليوم تتنازعه “تيارات متنوعة، والاختلافات بينها لا حصر لها، وهي اختلافات عميقة ومتكررة”، فهناك تيار يمثل “أقلية صغيرة” يطالب “بالتطبيق الفوري والصارم للحدود”، وتيار آخر يؤمن بالحدود، وبأنها منصوص عليها في القرآن والسنة، لكنه يعتبر أن تطبيقها يستلزم توفير شروط تتعلّـق بوضعية المجتمع”، وتيار ثالث، وهو يمثل أقلية أيضا، يرفض النصوص المتعلقة بالحدود”.

ويقول رمضان، إن غالبية جمهور العلماء عبر التاريخ “يُـجمعون على رأي واحد، وهو أن هذه العقوبات بمُجملها وعلى عمومها إسلامية”، ولكنهم يرون أن “الشروط اللازم توافرها” لتطبيق هذه العقوبات، هي ضرب من المستحيل عمليا أن تجتمع في آن واحد. وبالتالي، فهي “تقريبا غير قابلة للتطبيق”، معتبرا أنه يمكن النظر للحدود باعتبارها “موانع”، هدفها تنبيه ضمير الفرد المؤمن لخطورة الفعل الذي قد يؤدّي إلى هذه العقوبة.

وقال رمضان إنه “لابد من تعليق فوري لمبدأ العقوبات الجسدية تأسيا بالقدوة التي أرساها الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)”، الذي قام بإيقاف العمل بحد السرقة على السارقين، حينما علق العقوبات المفروضة بحقهم خلال أوقات المجاعة، وذلك رغم كون النص القرآني قاطعا شديد الوضوح حول هذه العقوبة”.

ويدعو رمضان إلى “نشر المعرفة بين الشعوب الإسلامية، حتى لا ينخدعوا بالمظهرية والفكر الحرفي”، معتبرا أن “تطبيق الإجراءات القمعية والعقوبات لن يجعل المجتمع أكثر إيمانا بالتعاليم الإسلامية، وإنما هي بالأحرى القدرة على الترويج لمبدأ العدل الاجتماعي والحفاظ على الأفراد رجالا كانوا أو نساء، فقراء أو أغنياء”، معتبرا أن “حركة الإصلاح من الداخل، التي يتولاها المسلمون والمصادر النصية، يجب ألا تغض الطرف عن الاستماع لما يقوله الآخرون، وكذلك الاهتمام بالتساؤلات التي تدور في عقول غير المسلمين حيال الإسلام”، نافيا أن يعني هذا “الانحناء أمام الاستجابات الآتية من الآخر- الغرب، وإنما من أجل أن تظل أمام نفسها تُـدرك أن إيمانها بنّـاء”.

ويناشد رمضان، “الذين يلتزمون بهذه الدعوة أن يصطفّـوا، ويرفعوا أصواتهم مطالبين بالتعليق الفوري لتطبيق الحدود في العالم الإسلامي”، قائلا: “نقول باسم الإسلام وباسم نصوصه ورسالة العدل: لا يمكننا الاستمرار بقبول تعرُّض النساء والرجال للعقوبة والموت، بينما نظل ملتزمين الصمت، ونكون شركاء في عملية تتّـسم بالخسة”.

ويقول رمضان إن “واقعا كئيبا يرزح تحت وطأة خطاب إسلامي يختصر واقع الأمور، في هذا الواقع، يُعاقب الرجال والنساء ويُـضربون ويُـرجمون ويُـعدمون باسم الحدود، وكأن المرء لا يعرف أن ثمة خيانة تُـرتكب بحق التعاليم الإسلامية”، منتقدا “الممارسات غير العادلة”، حينما “يقتصر التطبيق على النساء دون الرجال، والفقراء دون الأغنياء، والضحايا دون الحكام القاهرين”.

شجاعة فكرية وطرح جرئ

في سياق ردود الفعل الأولية على النداء، أثنى الشيخ محمد بن المختار الشنقيطي، مدير المركز الإسلامي بمدينة لباك بولاية تكساس على الدكتور طارق رمضان، واصفا إياه “بالشجاعة الفكرية، والعُـمق المنهجي، وحمل الهم الإسلامي أينما حل وارتحل، وهي فضائل يعز نظيرها اليوم، وقد يضيق ضميره المتوثب بالهوان الذي يعيشه المسلمون، وبالفجوة المتّـسعة بين مثالهم المُشرق وواقعهم المزري..” على حد قوله.

وأكّـد الشنقيطي على أنه “لا ينبغي أن تنقص هذه الآراء الغريبة من تقديرنا لجُـهد الرجل وجهاده، وعطائه العلمي الثري، ولا أن تنقص من ترحيبنا بطرحه الجريء ومقولاته المستحدثة، فهي في الغالب مقولات تستفِـز العقل المسلم بجرأتها، وتستحثّـه إلى مراجعات آلياته، والارتفاع إلى مستوى تحدياته”.

وندّد الشنقيطي مع رمضان “بما يتّـسم به بعض فقهاء ومثقفي المسلمين اليوم من خوف وديماغوجية، ومجاراة للعوام والدهماء، بحيث أصبحوا يتجنّـبون الخوض في بعض الأمور الحساسة التي يطرحها الناس حول الإسلام يوميا، أو يقدِّمون إجابات تلفيقية لا تحق حقا ولا تبطل باطلا، أو يعترّضون بشدة على كل رأي مخالف للمعهود، وإن كان له ركن من الشرع مكين”، معتبرا أنه “قد آن الأوان للعقل المسلم أن يتحرّر من الديماغوجية، وآن الأوان لفتح حرية التفكير والتعبير دون كوابح” حسب قوله.

واستحسن الشنقيطي إلحاح رمضان “على تحقيق العدل والحرية والكرامة للإنسان المسلم قبل أي شيء آخر. فالذي يريد تطبيق الحدود دون بناء النظام السياسي والاجتماعي المنصف، مثل الذي يرسم حدود دولة لا وجود لها أصلا”، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن “مفهوم تطبيق الشريعة قد تشوّه في أذهان العديد من المسلمين اليوم، فاستحال مفهوما جنائيا، مما جعل الشريعة الإسلامية مجرّد حشد من العقوبات والحدود والقيود، بدلا من وضعها في موضعها الصحيح: نظاما إيجابيا للحياة يحقق الخير والعدل والحرية، تحميه حدود زاجرة”، معتبرا أن “ذلك أثر من آثار انحطاطنا الحضاري”.

وأثنى الشنقيطي على تنديد رمضان “بالتوظيف السياسي لتطبيق الشريعة من طرف بعض الحكام المستبدين، الذين جعلوا الشريعة خادمة للسلطة، لا العكس المفترض”، واصفا أمثال هؤلاء بأنهم “حكام ظَـلَـمَـة يعبدون الله على حرف، فهم مع الشريعة في خدمة أهوائهم وظلمهم، وهم ضدّها في دعوتها إلى القِـسط والعدل والحرية واحترام الكرامة الإنسانية”، موافقا ما ذهب إليه رمضان من أن “أسلوب المناكفة والمجانبة المطلقة مع الغرب موقف سلبي”، وإن كان الشنقيطي قد سجّـل بعض الملاحظات حول الدعوة .

ومن جهته، اتفق الدكتور صلاح سلطان، عضو المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث مع رمضان في أنه “عند تطبيق الحدود في بلد ما، قد يكون هناك ظلم واقع على الفقراء، حيث قد يطبّـق الحكم على الفقراء بينما يترك الأغنياء والحكام والظالمين”. لكنه اعتبر أن “طرحها قد يضاعف الخلاف والشقاق حول قضية ليست من أولويات الأمة في هذا الوقت”، و”سيعطي الذين يكرهون الإسلام والمسلمين فرصة للنّـفاذ من تطبيقات خاطئة لبعض المسلمين إلى حرب الإسلام نفسه”، مطالبا رمضان بالتريُّـث “وطرح الأمر على المجامع الفقهية المعتبرة أو على علماء الأمة الثقات لتدارسه”.

تقليعة جديدة لا تستند لأساس فقهي

غير أن هناك عدد من العلماء رفضوا دعوة رمضان، وانطلقت اعتراضاتهم من اعتبارهم أن الدعوة “لا تستند إلى أساس فقهي”، أو أنها “خرجت من شخص غير متخصّص في الفقه والأصول”، أو لأنه “لا جدوى لإثارتها في هذا التوقيت”، أو أنه “ما الذي يعود على الإسلام من إثارتها”، إلى اعتبارها دعوة “تضر ولا تنفع”.

حيث وصف الدكتور طه جابر العلواني، رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، دعوة رمضان بأنها “افتئات على الأمة غير مقبول”، وأنه كان الأولى به أن يرد القضية “إلى أولي الأمر، وهم الفقهاء والعلماء والمجامع الفقهية”، مفرقا بين “الشريعة بمفهومها الشامل، وبين العقوبات أو الحدود”، موضحا أن الأمة الإسلامية تواجه “عملية تفكيك وتخريب تستهدف فك الارتباط بينها وبين دينها”، معتبرا أن “عرض مشروع لتعطيل الحدود، ما هو إلا محاولة لكسر الحواجز بين الليبرالية والإنسان المسلم بهدف إخراج العقيدة والشريعة من رأسه”.

من جانبه، اعتبر الدكتور أحمد الراوي، رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، “الدعوة إلى تعليق الحدود” التي تنطلق من سويسرا، “تقليعة جديدة”، تأتي في إطار سلسلة من التقليعات التي تستهدف شغل المسلمين عن قضاياهم الأهم، بعد (إمامة المرأة للرجال) التي أثيرت في أمريكا، وتقليعة تخصيص (مسجد خاص للنساء) التي انطلقت من هولندا، معتبرا أن “طرح الموضوع في هذه الصورة “لا يحقق خيرا للإسلام والمسلمين، فضلا على أنه يثير اللّـغط وينشر الخلاف، وبالجملة، فإنها تضر الإسلام ولا تنفعه”.

في المقابل، رأى المفكر الإسلامي المستشار “طارق البشري” أن “الدعوة الواردة في هذا البيان، لم تستند إلى أسس فقهية ولا إلى أسس تتعلق بالتفسير القرآني أو تفسير الحديث، وإنما استندت إلى الاعتبارات العملية والواقعة التي يلقاها صاحب البيان في مواجهته مع الظروف والأوضاع الإعلامية والثقافية التي تُـحيط به في الغرب”، معتبرا أنها “دعوة لا تطاق بهذا الأسلوب الذي جرت به، وبهذه الخفة التي صدرت بها”، وقال: “لا نملك ما بقينا في الإطار الإسلامي أن نهدم شيئا من شريعته”.

همام سرحان – القاهرة

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية