أمريكا والإسلاميون العرب.. من التردد إلى التضارب
تشهد دوائر أمريكية عديدة نوعا من النشاط الفكري والسياسي حول ما يمكن تقديمه لحركات إسلامية عربية، بحيث تنضوي في إطار الإستراتيجية المعلنة للتغيير والإصلاح في البلدان العربية.
لكن الحال حتى اللحظة، يعكس نوعا من التردد وكثيرا من التضارب، ونوعا من قلة الخبرة في قراءة تضاريس المشهد السياسي العربي.
في بعض جلسات الاستماع في ا لكونغرس الأمريكي، والتي حضرها باحثون عرب، كانت التوصيات واضحة بأن تقدم الولايات المتحدة على خطوة كبيرة للتعامل مع بعض هذه الحركات التي تدخل تحت تصنيف الحركات السلمية البعيدة عن العنف، والقادرة على المشاركة في إحداث التغيير المطلوب أمريكيا.
لكن الحال حتى اللحظة، يعكس نوعا من التردد وكثيرا من التضارب، ونوعا من قلة الخبرة في قراءة تضاريس المشهد السياسي العربي، ومن هنا، تأتى الإشارات الأمريكية فاقدة للثقة والمصداقية ومحلا للرفض.
تضارب.. حتى في العراق
إذا كان الأمريكيون ليسوا على مسافة قريبة من كثير من المجتمعات العربية، ومن ثم يمكن تبرير فشلهم وأخطائهم، فإن وضعهم في العراق يقدّم دليلا عن أن الخطأ الأمريكي في قراءة الواقع العربي هو نتيجة لأسباب هيكلية، وليست مصادفات عابرة.
فمشهد اعتقال السيد محسن عبد الحميد، رئيس الحزب الإسلامي العراقي يمثل أكثر من مجرّد خطأ تقني وقعت فيه قيادة القوات الأمريكية. فالرجل معروف بكونه من الرموز السُـنة المعتدلين والذين قبلوا مبكّـرا جدا الانخراط في العملية السلمية التي تتم في العراق تحت إِشراف القوات الأمريكية، وكان من بين أعضاء مجلس الحكم العراقي في عهد الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر، كما أنه لم يدع إلى مقاطعة انتخابات الجمعية الوطنية العراقية التي جرت في يناير الماضي كشأن قوى سُـنية أخرى.
والدلالة الأكبر في هذا الاعتقال، ثم الإفراج عن الرجل بعد عدة ساعات بعد تدخلات من قيادات عراقية وثيقة الصّـلة بالقوات الأمريكية، أن هناك عدم وضوح رؤية كامل لدى صنّـاع القرار الأمريكيين حول الخريطة السياسية في العراق، ومن يقف مع من، ومن يقف ضد من، وما هو موقف هؤلاء جميعا من الدور الأمريكي نفسه؟
إن هذا الالتباس لا يقف عند حد الحالة العراقية التي يديرها الأمريكيون بصورة ميدانية مباشرة، بل يطُـول الواقع العربي ككل بكل ما فيه من تعقيدات وتيارات لا يَـعرف حجمها أو تأثيرها ومدى انتشارها إلا من يطّـلع اطّـلاعا دقيقا على كل حالة عربية على حدة.
وإذا كانت زيارة كوندليزا رايس المفاجئة للعراق منتصف مايو الماضي قد صبّـت فى محاولة إقناع الحكومة العراقية التي يرأسها إبراهيم الجعفرى بإفساح المجال أكبر أمام مشاركة السُـنة العراقيين في العملية السياسية، وفي الحكومة، وفى لجنة صياغة الدستور، وأن يكون هناك نوع من العفو والمصالحة المحسوبة مع البعثيين غير المتورّطين في جرائم حرب، وهي كلها مطالب تدل على فهم أكثر دقّـة لما يجري في العراق، فإن واقعة اعتقال رمز سُـني عراقي كبير مثل محسن عبد الحميد بعد الزيارة بوقت وجيز، من شأنها أن تنسف أي معنى إيجابي من ذلك الذي عبّـرت عنه رايس.
حالات عربية عديدة
هذا التضارب بين المواقف الأمريكية المعلنة، وتلك المتخذة على الأرض، لا يقف عند حد الحالة العراقية، بل يمتد إلى حالات عربية أخرى عديدة يشكّـل فيها الإسلاميون رقما مُـهمّـا، وإن كانوا مستبعَـدين من مظلة المشروعية القانونية التي تتيح لهم العمل ضمن القانون والنظام القائم.
ففي حين أثار التصريح الشهير لرايس نفسها بأن “ثمة تفكيرا في إجراء حوار مع الجماعات الإسلامية العربية التي ترفض الإرهاب والعنف”، الكثير من التعليقات والمخاوف شبه الرسمية بأن يكون ذلك مقدمة لتعاون أمريكي مع قوى إسلامية نشطة من أجل الإطاحة بالنظم القائمة في أكثر من بلد عربي، جاءت المواقف العملية الأمريكية على النقيض تماما، بل تكاد تخلو من أي لمسة تعاطُـف عابرة.
فبينما أقامت المؤسسات الأمريكية، بما فيها البيت الأبيض ووزارة الخارجية والكونغرس، الدنيا على مصر حين أقدمت على القبض على النائب أيمن نور لأسباب جنائية وليست سياسية، لم يخرج تصريح أو تعليق صحفي واحد على واقعة القبض على أكثر من 700 ناشط وعضو في جماعة الإخوان المصرية لقيامهم بمظاهرات في عدد من المدن المصرية للمطالبة بالمشروعية القانونية، ومطالب سياسية إصلاحية، وتم تمديد اعتقالهم لمدة تزيد عن الشهر ونصف.
وهؤلاء المعتقلون ينطبق عليهم الاعتقال لأسباب سياسية تماما كالناشطين السعوديين الثلاثة الذين حُـكم عليهم بالسجن لعدة سنوات، نظرا لمطالبتهم أولى الأمر علنا بخطوات إصلاحية، وهو الحكم الذي لم يجد أي صدى لدى الإدارة الأمريكية.
والأمثلة على تضارب المواقف الأمريكية تجاه الحركات الإسلامية العربية عديدة، ومنها غضّ الطرف على ما يجري داخل ليبيا إزاء الإسلاميين، وما يحدث بالنسبة للإسلاميين التونسيين والجزائريين وغيرهم.
سببان للتفسير
ولعل التفسير في ذلك التضارب بين تصريحات أمريكية غامضة تحمل شبهة الانفتاح على التيارات الإسلامية، وبين المواقف العملية يكمُـن في سببين رئيسيين: أولهما، أن مؤسسات صُـنع القرار الأمريكي لم تصل بعد إلى التوافق على استراتيجية معيّـنة ومحدّدة الملامح بشأن التعامل مع الحركات الإسلامية العربية، وما هو موقعها في الإستراتيجية المعلنة بشأن الإصلاح والتغيير السياسي.
صحيح القول هنا أن بعض الدراسات والتقارير الرسمية أو في الكونغرس الأمريكي أو التي تخرجها بعض مراكز الدراسات الأمريكية تنادى بشيء من الانفتاح المقنّـن على حركات إسلامية معيّـنة يُـنظر إليها كحركات بديلة، وذات نفوذ في الشارع العربي، وكنوع من التحسّـب لمفاجآت التغيير في المستقبل.
لكن في الوقت نفسه، فإن هذه النصائح لم تتحوّل إلى سياسة محددة، نظرا لوجود تيارات أخرى ذات نفوذ ترى الأمر بشكل عكسي، وتعتقد أن أقصى ما يمكن توظيفه في هذا الصدد أن يتمّ التلويح بالانفتاح على هذه الحركات الإسلامية كنوع من ابتزاز النظم الحاكمة الصديقة تاريخيا، ودفعها إلى تقبّـل المطالب الأمريكية بأقل قدر ممكن من الممانعة، وترى نفس هذه التيارات أنه في حالات محددة، يمكن فتح قنوات اتصال مع الحركات الإسلامية، إذا كانت في المعارضة خارج البلد المعني، كما هو الحال في الاتصال بحركة الإخوان المسلمين السورية، وكجزء من إستراتيجية الضغط على نظام الرئيس بشار الأسد.
شكوك الإسلاميين
على صعيد الإسلاميين العرب أنفسهم، بعيدا عن الحالتين السورية والعراقية، والذين هم خارج السلطة في بلدانهم، وكذلك خارج الإطار القانوني، فإن نظرتهم إلى الدعوات الأمريكية بالحوار مليئة بالشكوك الكبيرة.
فهم يُـدركون أن الهدف الأمريكي في النهاية ليس إصلاحا سياسيا شاملا، وإنما نوعا من الانفتاح المغلق والمحسوب على نخب بعينها لا تتردد في التعامل مع واشنطن وفقا لمطالبها ورؤيتها للأمور.
كما أن صورة الولايات المتحدة السلبية لدى الشعوب العربية، خاصة في شقها المتعلق بالموقف من الإسلام، تجعل الأمر صعبا على الحركات الإسلامية قبول الانخراط في أي إستراتيجية أمريكية لتغيير النظم الحالية، وتفضل بالتالي، العمل وفق الأطر القانونية، رغم ظلمها البين أحيانا، وقبول التضحيات أكثر من قبول مساندة أمريكية سوف ترتد عليها مزيدا من الخسارة السياسية والمعنوية والتاريخية.
الأكثر من ذلك، فإن كثيرا من رموز الحركات الإسلامية العربية يرون أن التوجهات الأمريكية بغموضها المقصود تهدف إلى ابتزاز مزدوج لكل من النظم والحركات معا، في وقت يصعب فيه التوصل إلى ضمانات حقيقية بأن دعوات الانفتاح أو الحوار الأمريكي مع هذه الحركات ستكون سياسة مستمرة، وليست مجرّد مناورة عابرة، ومن هنا، يبدو تفضيل هؤلاء رد الدعوات إلى صاحبها، والاستمرار في الاعتماد على الذات.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.