مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

أمهات مدمنات.. وأطفال منسيون

بعض المآسي الأخيرة لفتت أنظار الرأي العام السويسري إلى معاناة أطفال يعيشون مع آباء أو أمهات مدمنات على استهلاك المخدرات swissinfo.ch

لم تكن حياتها لتستحوذ على اهتمام الكثيرين، ولعلها كانت ستعيش وتموت كسطر من ماء لا أثر له. لولا أنها، الطفلة ذات الخمسة عشر شهرا، ماتت جوعا وعطشا.. مسجونة في شقتها، متروكة من أمها المسجونة المدمنة على المخدرات، ومنسية من السلطات السويسرية.

قصة الطفلة التي وجدت جثتها متعفنة في الفاتح من شهر يونيو حزيران في شقة بضاحية ميرين في مدينة جنيف، صدمت الرأي العام بقوة لبشاعة ما حدث لها، وتصدرت آنذاك عناوين الصحف السويسرية وتناولتها وسائل الأعلام بالتغطية المكثفة.

ولم تتوان الكثير منها عن توجيه أصابع الاتهام إلى ألام المدمنة على المخدرات، التي خشيت، عند إلقاء القبض عليها بتهمة السرقة في الثامن من شهر مايو أيار، أن ُتنتزع وصاية أبنتها منها، فكذبت على السلطات. قالت لهم إن الرضيعة تقيم لدى صديق لها رغم أنها تركتها في شقتها عند خروجها. و اعتقدت أنها أوصلت أبنتها إلى بر الأمان عندما طلبت من ذاك الصديق، في حديث هاتفي، أن يذهب لإحضارها من الشقة. ولم يتمكن الصديق من الإيفاء بالطلب لغموض حديثها. فماتت الطفلة منسية.

كل هذا تناولته وسائل الأعلام آنذاك بحثا ودراسة، التي اكتشفت، فجأة على ما يبدو، أن هناك في سويسرا عددا كبيرا من أطفال لأمهات مدمنات على المخدرات، وأنهم يعيشون في أوضاع مأساوية، وأن خطأ مثل ذاك الذي حدث، ممكن الحدوث في بلد مثل سويسرا.

ثم بعد ذلك.. غاب الحدث، وتراجعت حداثته، وانطوت بشاعته، لتبتلعه طاحونة الأحداث. لكن واقع أولئك الأطفال ظل باقيا.. لم يتغير.

الأرقام لا تخطئ

وفقا لتقديرات الإدارة الفيدرالية للصحة لعام ستة وتسعين، يتعاطى في سويسرا ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف شخص المخدرات الثقيلة. ووفقا لدراسة أجراها المستشفي النسائي في زيوريخ فإن من بين 425 طفل وليد شملتهم الدراسة كان لواحد وثلاثين منهم أمهات مدمنات على المخدرات، أي نحو ستة في المائة.

ويقدر بعض الخبراء أعداد الأطفال ممن يعيشون في سويسرا مع أمهات مدمنات على المخدرات بنحو ثلاثة آلاف طفل. لكن هذا التقدير كما يؤكد الكثير من الباحثين يظل ضئيلا مقارنة بالعدد الفعلي في الواقع لاسيما وان العديد من هذه الحالات لا يتم الإبلاغ عنها.

حجم هذه الظاهرة في الكونفدرالية يظل صغيرا مقارنة، على سبيل المثال، مع الوضع في الولايات المتحدة التي تصل فيها نسبة الأمهات المدمنات على المخدرات أو الكحول إلى نحو عشرين في المائة من العدد الإجمالي للأمهات فيها. بيد أن هذا لا يقلل من أبعاد وتداعيات هذه الظاهرة.

قصص مأساوية ولكن…

يكفي أن نطلع على قصص حقيقية لأوضاع يعايشها بعض هؤلاء الأطفال. منهم ذلك الطفل ذو الرابعة من العمر الذي ظل حبيسا في غرفته مع أمه يتعرض مرارا وتكرارا للضرب كلما تجرأ على اللعب أو رفع صوته. أو تلك الطفلة ذات العامين التي ُعثر عليها وحجمها لا يزيد عن حجم طفل رضيع بسبب إصرار أمها على بقائها إما في السرير أو في عربتها، وكلما حاولت التحرك، عمدت إلى إعطاءها أدوية لتخديرها. أو أولئك الاخوة الأربعة، أكبرهم في السادسة من عمرها، الذين وجدتهم السلطات.. نصف مجانين.. وجوعى …جوع دفعهم إلى أن يقتاتوا من برازهم.

قصص رهيبة وأثارها مرعبة. بيد أن التحفظ يظل واجبا. فمثل هذه الحالات لا يمكن أن تكون مقياسا لكل الأوضاع التي يعايشها أطفال المدمنات، لاسيما وأن النماذج تتباين تبعا لوضع المرأة المدمنة، وللمساعدة التي تلقاها من أسرتها أو من الجهات الرسمية، وتبعا لدرجة إدمانها في حد ذاته.

ومسئوليتهم على الجميع…

التحفظ في دمغ المرأة المدمنة كان واضحا في ردود الطبيب النفسي المصري الدكتور يحى الرخاوي الذي أصر على ضرورة التعامل مع قصة طفلة جنيف باعتبارها حالة فردية. فهو يخشى إن فعل غير ذلك أن يقفل الباب أمام وجوه الأمهات ممن لازلن في بداية مرحلة الإدمان أو قطعن شوطا وسطا فيه، خاصة وأن الأمومة غريزة لا يقضي عليها حتى الجنون.

الشيء المؤكد، يضيف الدكتور الرخاوي، هو أن الإدمان على المخدرات الثقيلة يؤدي إلى غياب الوعي وانفصال عن الواقع وهبوط في درجة تحمل المسئولية، كما أنه يفسد مقدرة المدمن على الحكم على الأمور. وعلى الصعيد ذاته، فإن الدراسات التي أجريت في سويسرا أظهرت أن إدمان ألام يترك أثارا نفسية قوية على طفلها يصعب تقييم أبعادها المستقبلية، وأن كان هذا الطفل في أغلب الأحيان يبدو قادرا على التكيف مع المتغيرات التي يعايشها وعلى إخفاء الجروح النفسية التي يعايشها.

من هذا المنطلق، تبدو أهمية المساعدة التي يقدمها المجتمع لأسرة المدمنة. إحدى الإجراءات المتبعة في سويسرا، عند اكتشاف حالة الإدمان وعدم مقدرة ألام على رعاية أطفالها، هو إبعادهم لفترة لدى أقربائهم الذين يبدون استعدادا لتولى هذه المسئولية. وفي حالة استمرار الوضع وعدم تمكن المرأة من التخلص من إدمانها، فإن المعمول به عادة هو إحالة الأطفال إلى دار للرعاية يعيشون فيها إلى أن تتحسن الأوضاع.

محور السياسة المتبعة هو عدم قطع علاقات الأطفال بذويهم في مثل هذه الحالات.. خاصة وأن الهدف هو إعانة ألام على اجتياز محنتها دون الأضرار بأبنائها. وإذا كانت إمكانية المساعدة متوافرة، فإن الدور الأكبر يقع على عاتق من يعيشون في ذات الحي السكني الذي تعيش فيه مثل هذه الأسرة، في إبلاغ السلطات المعنية أو تنبيه ألام، وفي قيام تلك السلطات بدورها كما يجب. فطفلة جنيف، ذات الستة عشر شهرا، ما كانت لتموت جوعا وعطشا في تلك الشقة، لو أن أحد الجيران كلف نفسه التحري عن سبب بكائها المستمر… و لو أن سلطات جنيف سارعت إلى تفقد المكان بعد أن قام رجل، مر صدفة بالشقة، بالإبلاغ عن بكائها.

إلهام مانع

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية