أي دستور على مقاس كل الأطياف العراقية؟
أصبح موضوع الإعداد لأول دستور عراقي بعد عهد الرئيس المخلوع صدام حسين مثار خلافات وتجاذب كبير بين الأطراف المعنية بالموضوع
ويعتبر خبراء القانون الدستوري أن صياغة دستور يراعي حساسيات جميع الأطياف العراقية أمر عسير في الظروف التي تعيشها البلاد.
كان أحد أعضاء مجلس الحكم الانتقالي العراقي بالغ الصراحة والجُـرأة حينما قال “إن الخلافات بشأن موضوع الدستور قد تُـغرق البلاد في لجة حرب أهلية”.
ومع أن هذا المسؤول العراقي آثر السلامة بطلبه عدم الإفصاح عن اسمه، إلا أنه كان دقيقا جدا في تحليله وهو يحاول أن يتلمَّس مواضع الخطر التي يُـمكن أن تندلع منها نيران حرائق، لا تبدو أنها في مصلحة أحد، لا في العراق ولا خارجه.
ولا يُـمكن الإحاطة بالتجاذب السياسي المحيط بمسألة الدستور دون استعراض مواقف القوى والتيارات العراقية الرئيسية بشأن الموضوع.
كما تجدر الإشارة أولا إلى أن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول قال في رده على مطالبة فرنسا وروسيا وألمانيا بضرورة عودة الحكم إلى العراقيين في أقرب فرصة إنه يأمل في “إعداد دستور عراقي خلال ستة أشهر”.
وتقول واشنطن إنه فور إعداد دستور يُـمكن إجراء انتخابات لاختيار حكومة عراقية بإمكانها تولّـي السيادة في البلاد.
ومن المقرر أن يُـحدد مجلس الحكم الانتقالي في العراق أفضل السّـبل لوضع الدستور، لكن المسؤولين العراقيين يقولون إنه إذا تعيّـن انتخاب الهيئة التي تُـعـد الدستور، فإن هذه العملية يُـمكن أن تستغرق وقتا أطول بكثير من ستة أشهر.
اعتراضات بالجملة
لم يعُـد سـرّا في العراق أن الشيعة، وهم أكبر الطوائف الدينية في البلاد، أبدوا من الاعتراضات على طريقة اختيار اللجنة التحضيرية المُـكلّـفة بالإعداد للمؤتمر الدستوري ما من شأنه أن يُـعيق الجهود المبذولة لحدوث توافُـق حول مسألة صياغة الدستور، إذ أن المَـرجع الديني الشيعي الأعلى في العراق، آية الله علي السيستاني، طالب بقوة بضرورة اختيار أعضاء المجلس المكلّـف بكتابة دستور العراق الجديد عبر الانتخاب السري المباشر، رافضا مبدأ تعيين الأشخاص لهذه المهمة التي من شأنها أن ترسم مستقبل العراق للسنوات المقبلة.
ومع أن مقترح السيد السيستاني شديد الواقعية، وهو ضروري جدا لضمان عدم الطعن في شرعية ما سيصل إليه المجلس الدستوري من نتائج، إلا أنه من الناحية العملية يبدو أقرب إلى الاستحالة، وذلك لانعدام كل البنى الأساسية الكفيلة بإجراء الانتخاب، فضلا عن أن انعدام وجود حكومة مقبولة من السيد السيستاني شخصيا يزيد من وضع العراقيل على هذا الطريق.
واللافت للنظر أن أعضاء مهمين في مجلس الحكم الانتقالي العراقي أبدوا مواقف مماثلة. فقد أعلن السيد عبد العزيز الحكيم، العضو البارز في المجلس وزعيم أحد أكبر الفصائل الشيعية في العراق، أن الدستور الجديد للبلاد لابُـد وأن تُـعدّه لجنة مُـنتخبة، وهي خطوة قد تؤدي إلى إطالة هذه العملية لفترة تزيد عما تريده واشنطن.
وقال السيد الحكيم إنه “فور صياغة الدستور، لابد وأن تتم الموافقة عليه في استفتاء عام”. وأضاف في كلمة في النجف في حفل لتأبين شقيقه، إنه يطالب بدستور دائم تقوم بإعداده لجنة مُـنتخبة من قبل الشعب، ويقره استفتاء.
الثقل الديني في إعداد الدستور
ويبدو موقف أبناء السنة في العراق قريبا من موقف السيد السيستناني في رفضهم لمبدأ التعيين. ومع أن الحزب الإسلامي العراقي الذي يمثل الواجهة السياسية لأكبر التيارات الدينية السنية في العراق مُـمثَّـل في مجلس الحكم الانتقالي العراقي وفي اللجنة التحضيرية للمؤتمر الدستوري، إلا أن الجهة الدينية التي تمثل المرجعية الأساسية وهي هيئة علماء المسلمين في العراق والتي تضم أبرز رجال الدين السنة، تُـحذّر من خطورة التدخلات الأمريكية، والإملاءات الخارجية في كتابة الدستور، وتُـشدّد على ضرورة أن يتولّـى الأكفّـاء من العراقيين إعداد دستور البلاد وعرضه على الشعب العراقي في استفتاء عام.
وتُـبدي التيارات السياسية العراقية قلقها الكبير من أن تؤدي الظروف الشاذة التي يعيشها العراق تحت الاحتلال إلى إعداد دستور هزيل لا يِـفي بمُـتطلّـبات الشعب العراقي، ولا ينسجم مع تطلّـعاته بعد ثلاثة عقود ونصف من هيمنة وطُـغيان حكم الحزب الواحد، أو إلى فرض نموذج أمريكي، وكلاهما مرفوض بشدة.
أما اعتراضات التيارات الدينية ذات الصفة الأكثر تشددا في المذهبين السني والشيعي، فإنها تتخوّف من احتمال أن يكون دستور البلاد المُـقبل علمانيا ينفي عن دولتهم صبغتها الإسلامية، وهم يُـصرّون على ضرورة أن يكون الإسلام دين الدولة الرسمي، بما يجعل من القرآن الكريم مصدر التشريع الأساسي. ويُـبدون قلقهم الحقيقي من كون الدستور المقبل سيكون خاليا من النص على ذلك، خاصة أن العديد من أعضاء لجنة كتابة الدستور لا يُـعرف عنهم انتماؤهم الديني، حسب أنصار هذا الموقف، فضلا عن الضغوط الأمريكية التي يتوجَّب عدم إغفالها في هذا الصدد.
ويُـشير رجال دين شيعة من أمثال النجم الشيعي الآخذ بالبروز، مقتدى الصدر، إلى ضرورة أن يستلهم الدستور الجديد مبدأ ولاية الفقيه المتّـبع حاليا في إيران، ويُـطالبون بأن يتولى أعلى المراجع الدينية قيادة البلاد، في انصهار كامل للدين والسياسة في بوتقة واحدة، وهو أمر يعترض عليه المثقفون والسياسيون العراقيون بكافة أطيافهم بشكل عام.
ويقول مثقفون وسياسيون من المذهب السني في العراق إنهم يسعون إلى بناء دولة أساسها العدل والقانون، وأنهم تبعا لذلك، لا يريدون إقامة نظام حكم ديني إسلامي في العراق، لأن من شأن قيام حكم ديني أن يفتح أبواب الصراعات المذهبية والدينية على نحو غير مسبوق.
المعادلة الكردية
أما أكراد العراق، فهم وحدهم المطمئنون، على ما يبدو، ليس لأنهم ممثلين في مجلس الحكم وفي اللجنة التحضيرية للمؤتمر الدستوري بأكثر من نسبتهم العددية الحقيقية فحسب، ولكنهم، وبحكم علاقاتهم المسبقة مع الطرف الأمريكي الحاكم في العراق فعلا، وبحكم الوعود الممنوحة لهم والتي طالما تم التأكيد عليها من أقطاب الإدارة الأمريكية، قادرون على توجيه مسار الأمور لصالح تصميمهم الأكيد على إقامة نظام حكم فدرالي في العراق يسمح لأكراده بإقامة كيان وإدارة مدنية تتمتّـع بأكبر قدر ممكن من الحكم الذاتي.
وتُـبدي كل الطوائف والأقليات الأخرى اعتراضاتها على الملامح العامة المتسربة عن الدستور العراقي الجديد. فالمسيحيون، واليزيديون، والآشوريون، والتركمان، والصابئة، لا يخفون قلقهم من احتمال أن يهضِـم الدستور المُـرتقب حقوقهم التي كان جانب منها مكفولا في ظل النظام السابق، بل أن قلقهم هذا بات معبّـرا عنه بشتى الصيغ السلمية بالطبع. لكن هذا لا يعني أن إعداد دستور يغمط حقوق هذه الأقليات والطوائف قد لا يزيد في حدّة المواقف.
ومما ساهم في زيادة حدة الاعتراضات على الدستور حتى قبل إعداده، الغموض الذي يلف التحضيرات الجارية بشأنه، فضلا عن الشائعات المتسربة التي تُـشير إلى أن ثمة مُـسودّة أُعِـدّت في الولايات المتحدة من قِـبل أكاديميين يهود من أصول عراقية، وهو أمر يُـبدي العراقيون مزيدا من الحساسية الشديدة إزاءه.
الفدرالية
ويبدو موضوع الفدرالية، المُـرتقب اعتمادها كنظام سياسي وإداري في مشروع الدستور العراقي تُـمثّـل إحدى أهم الاعتراضات المثارة بشأن الدستور.
ويجهل كثير من العراقيين الأسُـس التي سيتِـم اعتمادها لتقرير النظام الفدرالي في البلاد، بمعنى أنه هل سيتِـم اعتماد الفدرالية على أساس ثقافي، أم قومي، أم ديني، أم طائفي؟ ثم ما هو مصير القوميات أو الطوائف الأخرى التي تعيش في ظل فدرالية تتمتّـع بأغلبية من قومية أو طائفة أخرى؟
ومن بين الشواهد على ذلك، الجهود المبذولة الآن لإضفاء الصبغة الكردية على مدينة كركوك التي يتعايش فيها مزيج فريد من القوميات والأديان والمذاهب يضم في إطاره العرب والأكراد والتركمان المسلمين السنة والشيعة والكلدوآشوريين المسيحيين، فضلا عن أن الفدرالية المنشودة كرديا، يُـمكن أن تتّـسع لتشمل المُـوصل، أكبر مدن الشمال العراقي، وهي مدينة تضم غالبية عربية سنية، وأقليات كردية ومسيحية ويزيدية وطوائف أخرى.
التقسيمات الطائفية والعرقية
ومن بين أهم الاعتراضات التي يثيرها المثقفون والسياسيون في العراق على الدستور، نظام “المحاصصة” الطائفية الذي تمّ اعتماده على صعيد مجلس الحكم الانتقالي العراقي، والوزارة واللجنة الدستورية. فتركيبة المجلس والوزارة واللجنة الدستورية المشكَّلة من شخصيات شيعية وسنية عربية، وشخصيات كردية سنية، وشخصية تركمانية، وشخصية مسيحية واحدة، عـزَّزت ورسَّـخت نموذجا طائفيا وعرقيا يسعى مُـعظم العراقيين من شتى الأصول والمنابت إلى عدم الرضوخ إليه أو قبوله.
ويبدو أن هذه التركيبة القسرية باتت سابقة لا يُـمكن الفكاك منها في أي ترتيبات مُـستقبلية ذات صفة تتّـسم بقدر من الاستقرار والثبات، وليس أدلَّ على ترسيخ هذا النموذج من اعتماده في الوزارة وفي اللجنة الدستورية، إذ من المؤكّـد أن أيا من التنظيمات السياسية أو التكوينات الطائفية والعرقية التي يزخـر بها المجتمع العراقي سوف لن يتنازل عن نسبته التي يرى انها (حق مُـقدّس له، انتزعه نضالا) عندما يتم التقدم لانتخابات عامة تُـسفر عن تشكيل حكومة وطنية.
ويقول عراقيون إنه “حتى لو قبلنا بمبدأ “المحاصصة” الطائفية والعرقية، فإن هناك اعتراضا حول نسب التمثيل المتاحة أمام كل طائفة وقومية”. ويُـشير أصحاب هذا الموقف إلى مجلس الحكم الانتقالي العراقي وإلى الوزارة، حيث لا يحظى المسلمون السنة من العرب سوى بأربعة مقاعد من بين مقاعد المجلس أو الوزارة الـ 25 مع أنهم يأتون في المرتبة الثانية عدديا بعد الشيعة، في حين يحظى أكراد العراق، وهم في الدرجة الثالثة من التسلسل، بـ 5 مقاعد، بعد أن تم لأغراض مقصودة سلخهم من انتمائهم الديني، حيث أن غالبية الأكراد هم من السنة.
وهناك من بين العراقيين من يرى أن خفض نسبة التمثيل السني في المجلس والوزارة ولجنة الإعداد للدستور، جاءت عقابا على مواقف السنة المقاومين للاحتلال الأمريكي، وخاصة في مناطق ما بات يُـعرف باسم “المثلث السني” الذي يُـقاوم لوحده، تقريبا، الاحتلال الأمريكي.
أما الشريف علي بن الحسين، راعي الحركة الملكية الدستورية في العراق، فيرى أن اللجنة التحضيرية لمؤتمر الدستوري “مُـسيـَّسة”، وستُـؤدّي بالتالي إلى تشكيل مجلس دستوري مُـعين، ثم تنتهي لاحقا إلى إنجاز صيغة دستور أمريكي.
وأضاف الشريف، أنه وتبعا لذلك، هناك خياران مطروحان الآن أمام الشعب العراقي وهما: القبول بدستور أمريكي غير عراقي، أو رفض هذا الدستور وبقاء الاحتلال. ويؤكد أن هذين الخيارين مرفوضان من قبل العراقيين الذين لن يقفوا مكتوفي الأيدي. ويشير إلى أن الحركة الملكية لن تبقى متفرجة حيال ذلك!
وبذل الشريف علي بن الحسين جهودا كبيرة في هذا الصدد، حيث أجرى في الأسابيع الأخيرة مشاورات واتصالات مكثفة مع قوى سياسية ووجهاء عشائرية ونقابية، وشخصيات وطنية، وأساتذة جامعات، ورجال دين، وقادة عسكريين سابقين، أسفرت عن بلورة قرار بتنظيم حملة سياسية سلمية هدفها عودة السيادة إلى الشعب العراقي عن طريق انتخابات حُـرّة ومُـباشرة لمجلس دستوري.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.