إتلاف وثائق في قضية تجسس نووي يثير زوبعة سياسية وانتقادات قانونية
أثار اعتراف رئيس الكنفدرالية باسكال كوشبان بإتلاف ملفات متعلقة بتورط عائلة سويسرية في قضية التجسس النووي لصالح أب القنبلة النووية الباكستانية تساؤلات واسعة حول الدوافع الحقيقية للحكومة السويسرية في هذه القضية ومزاعم عن احتمال رضوخها لضغوط أمريكية.
وفيما أوردت وسائل الإعلام السويسرية المزيد من الدلائل عن وجود اتصالات سابقة بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وجهاز الاستخبارات السويسري بخصوص هذه المسألة، لوحت أطراف سياسية بإمكانية فتح تحقيق برلماني حول ما حدث.
التصريحات التي أدلى بها رئيس الكنفدرالية السويسرية باسكال كوشبان يوم الجمعة 23 مايو أمام وسائل الإعلام في برن لم تعمل على تهدئة الأوضاع عقب تسريب بعض الصحف السويسرية لمعلومات تشير إلى إقدام الحكومة الفدرالية على إتلاف جزء هام من محتويات أكثر من 200 ملف متعلق بقضية تجسس نووي تورط فيها ثلاثة أفراد من عائلة سويسرية واحدة، كانوا يزودون البروفسور عبد القدير خان، أب القنبلة النووية الباكستانية بمعلومات تقنية عن كيفية تخصيب اليورانيوم وصنع قنبلة نووية وتوجيه الصواريخ.
وفي تدخله، برر الرئيس السويسري إقدام الحكومة على اتخاذ قرار بإتلاف وثائق هامة، بأن المعلومات المتضمنة في مخططات مفصلة “قد تشكل خطرا على أمن سويسرا وعلى سياستها الخارجية”، وأضاف “إن الاحتفاظ بهذه المعلومات يتعارض مع التزامات سويسرا بموجب معاهدة منع الانتشار النووي، وأنها قد تسقط بين أيدي مجموعات إرهابية أو دول غير مرخص لها بذلك. لذلك تم تحطيمها تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.
لكن هذه التصريحات قوبلت بتساؤلات أخرى صدرت عن جهات إعلامية وبرلمانية وقانونية تتعلق بالخصوص بمدى الشرعية القانونية لإتلاف وثائق مدرجة ضمن ملف قضية دقيقة لا زالت العدالة بصدد النظر فيها، وبالدور الحقيقي الذي لعبته وكالة الاستخبارات الأمريكية في هذه القضية. كما طُـرحـت استفسارت أخرى حول ما إذا كان هذا التسرع للتخلص من الوثائق قد جاء للتغطية على مدى تورط وكالة الأستخبارات الأمريكية في هذه العملية تحديدا.
القضية كما تم تصويرها في البداية
في عام 2004 اكتشفت السلطات السويسرية تورط الأخوين ” ت ” ووالدهما من مدينة سانت غالن (شرق البلاد) في عملية تهريب معلومات عن كيفية صنع أسلحة نووية لصالح ليبيا وفي اتصال مع أب القنبلة النووية الباكستانية عبد القدير خان.
إثر ذلك، فتحت برن تحقيقا في حق الثلاثة بموجب تهمة انتهاك القانون السويسري المتعلق بتصدير المعدات الحربية، وفي السياق نفسه تم توقيف سويسري مقيم في جنوب إفريقيا وألماني مقيم في سويسرا قبل طرده إلى بلده. كما صادرت الشرطة كمية من الوثائق من منزل العائلة السويسرية المقيمة في مدينة سانت غالن.
وعقب جلسة سرية عُقدت يوم 14 نوفمبر 2007، حسبما أوردته صحيفة بازلر تسايتونغ (تصدر في بازل)، قررت الحكومة الفدرالية إتلاف قسم هام من تلك الوثائق. وهي العملية التي تمت تحت إشراف مدير المكتب الفدرالي للعدالة ورئيس جهاز الاستخبارات الإستراتيجية السويسري.
أغلاط وهفوات ومساءلات
ويبدو أن هذه العملية التي أطلق عليها اسم “الليل والضباب” لم تتم في وضوح تام بالنسبة لعدة جهات. فقد أوردت بعض الصحف السويسرية بأن قاضي التحقيق الفدرالي الذي أحيل له ملف محاكمة الاخوين ” ت ” في الفاتح من فبراير 2008 من قبل النيابة العامة الفدرالية قد صرح في 13 مارس بأن “الملف تنقصه بعض الوثائق المدونة في فهرس الوثائق المرفق والذي لم يتم تعديله”.
من جهة أخرى، أفادت صحيفة بازلر تسايتونغ بأن تقدم أحد الأخوين “ت” بطلب الإفراج عنه في شهر أبريل 2007 (وهو الطلب الذي رفضته المحكمة الجنائية الفدرالية في بلنزونا في شهر يوليو 2007 ثم المحكمة الفدرالية في لوزان في اكتوبر 2007)، قد سمح بإرسال نسخة كاملة من ملف القضية (متضمنة لنسخ إضافية من الوثائق التي جرى إتلافها فيما بعد) إلى المحكمتين للنظر في طلب الإفراج.
في سياق متصل، قُوبلت تصريحات الرئيس باسكال كوشبان بأن الحكومة الفدرالية قد أطلعت اللجنة البرلمانية المكلفة بالقضايا الأمنية على سير العملية بانتقاد رئيس هذه اللجنة الذي أشار إلى أن المعلومات التي حصلت عليها اللجنة “كانت بطلب منها” وأكد أن ذلك لم يتم “إلا في شهر مارس 2008″، وهو ما دفع بعض الأطراف السياسية (الخضر والإشتراكيون) إلى المطالبة بضرورة فتح تحقيق برلماني في هذه القضية.
من جانبه، لم يُخف قاضي التحقيق الفدرالي أندرياس موللر المكلف بالقضية رغبته في استخدام جميع الصلاحيات التي يكفلها القانون وقد يذهب إلى حد توجيه مطالب تعاون قضائي مع جهات خارجية للحصول على الوثائق الناقصة (بعد إتلافها من طرف الحكومة) من الملف.
توضيحات جديدة وتغطية محتملة
وفي تطور آخر، أوضحت صحيفة سونتاغس تسايتونغ الأسبوعية الصادرة يوم الأحد 25 مايو 2008 بأن ما صرح به رئيس الكنفدرالية بخصوص دوافع تحطيم هذه الوثائق “ما هو إلا نصف الحقيقة”، إذ ترى الصحيفة الصادرة في زيورخ أن الحكومة الفدرالية “رغبت أيضا من خلال إتلاف تلك الوثائق إلى إخفاء دلائل تعاونها مع جهاز المخابرات الأمريكي وتغطية تورط جهاز المخابرات الداخلي السويسري ووزير العدل والشرطة السابق كريستوف بلوخر” في القضية.
وتشير سونتاغس تسايتونغ إلى أنها اطلعت على وثيقة تابعة لجهاز المخابرات الداخلية السويسري تفيد بأن الجهاز توصل في 19 فبراير 2004 من ضابط المخابرات المكلف بمنطقة ماليزيا بمعلومات ضبطها عبر شبكة الإنترنت تشير الى “إنتاج غير مشروع لقطع لصالح برنامج تخصيب اليورانيوم في ليبيا”. وأشار التقرير الى أن فريدريش و أورس ” ت ” يعدان من بين مزودي أب القنبلة النووية الباكستانية عبد القدير خان ودول مثل ليبيا وإيران بتكنولوجيا الإنتاج النووي.
وفي تقرير جهاز المخابرات السويسرية الذي تم إتلافه يقول ماركو “ت” أن ثالث كبار ضباط إدارة المخابرات السويسرية اتصل به ضابط وكالة المخابرات الأمريكية “جيم” العامل في ماليزيا هاتفيا بعد يوم من نشر الخبر في الانترنت لإطلاعه على أن “مكتب وكالة المخابرات الأمريكية في برن على اتصال بالسلطات السويسرية”.
وتقول الصحيفة إن الشخص المشار إليه بـ “جيم” هو جيمس دابليو كينسمان، رجل اتصال المخابرات الأمريكية مع عائلة “ت” الذي أبرم معها في عام 2003 صفقة بمليون دولار لكي تتعاون مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
واستنادا إلى تأكيد مصدرين وصفتهما الصحيفة بأنهما “حسنا الإطلاع”، فقد أثمرت اتصالات المخابرات الامريكية حيث اتضح أن وزير العدل والشرطة السابق كريستوف بلوخر أكد أمام ممثلي المخابرات السويسرية وممثلي النيابة العامة الفدرالية والمكتب الفدرالي للشرطة بأنه “لن يسمح بفتح تحقيق في قضية التجسس”.
وتساءلت صحيفة سونتاغس تسايتونغ عما إذا كان باب الملاحقة القضائية في هذه القضية ما زال مفتوحا بعد إتلاف هذه الوثائق المهمة، مستشهدة بقول القانوني البارز نيكلاوس أوبرهولتسر الذي وصف ما حدث بأنه “غير معقول”.
وتذهب الصحيفة أيضا إلى أن إتلاف هذه الوثائق راجع لكون أفراد عائلة “ت” قد أوضحوا في مجريات التحقيق حول تورطهم في عملية تهريب معدات نووية بأنهم “تصرفوا في مرحلة من المراحل لصالح وكالة المخابرات الأمريكية بحيث عملوا على تزوير بعض القطع بحيث لا يمكن لمحطات تخصيب اليورانيوم أن تشتغل بشكل صحيح”، واختتمت الصحيفة بالقول “وهذا ما لا يمكن لمحكمة التأكد منه إلا عبر توفر هذه الوثائق التي يبدو أنه تم إتلافها”…
سويس إنفو – محمد شريف – جنيف
يسمح الدستور الفدرالي السويسري في بعض مواده للحكومة الفدرالية الحق في اتخاذ قرارات ضرورية عندما تفرض مصلحة البلد ذلك وفي سياق مراعاة “الأمن الخارجي” لسويسرا.
ويبدو أن هذه الإجراءات تشكل القاعدة القانونية التي استندت إليها الحكومة في قرارها بإتلاف نصف الملفات الجنائية في التحقيق الذي تورط فيه ثلاثة سويسريين ضمن شبكة تهريب معدات نووية لصالح أب القنبلة النووية الباكستانية عبد القدير خان.
وكانت روت متسلر، وزيرة العدل والشرطة السويسرية في عام 1999 قد أثارت موضوع الحفاظ على المصالح الوطنية من أجل طرد موريس بابون الموظف السامي السابق في حكومة فيشي الفاشية الفرنسية المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بعد أن لجأ إلى سويسرا بصورة سرية.
ولو لم تتصرف السيدة ميتسلر بتلك الطريقة لتطلب الأمر إجراءات قانونية مطولة من أجل إعادته الى فرنسا، لذلك يمكن القول بأن قرارها ساعد على تجنيب تدهور العلاقات الفرنسية السويسرية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.