مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“إخلاء السجون”: أسباب متعددة وأهداف متقاربة

مندوبون من اللجنة الدولية للصليب الأحمر يستمعون على انفراد إلى أحد السجناء (مصدر الصورة: موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر) swissinfo.ch

سيبقى عام 2006 في سجلات التاريخ المغاربي مرادفا لانعطاف حاسم على سكة طي صفحة الإعتقال السياسي في غالبية بلدان المنطقة، في الأقل بالنسبة للحركات السياسية السلمية التي لا تُصنف في خانة "الإرهاب".

ومع ذلك، لا شيء يضمن أن فصول النقلة من مرحلة تاريخية إلى أخرى قد اكتملت وأن شبح الإنتكاس بات قصيا..

ففي الجزائر التي أثخنتها جراح الحرب الأهلية أخليت السجون بموجب “العفو الشامل” من المعارضين الإسلاميين بمن فيهم الذين يوصفون بـ “المتشددين” أمثال علي بلحاج نائب رئيس “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” المحظورة وعبد الحق العيايدة مؤسس الجماعة الإسلامية المسلحة.

وفي ليبيا اضطر العقيد القذافي لإطلاق عشرات من السجناء الإسلاميين الذين مازال يعتبرهم عدوه الألد، وفي تونس تم الإفراج عن مئات من السجناء السياسيين على دفعات في السنوات الأخيرة بالرغم من استمرار السلطات على موقفها الذي يعتبرهم إرهابيين وينفي عنهم صفة المعتقلين السياسيين.

أما في المغرب وموريتانيا فطُويت صفحتا الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس المخلوع معاوية ولد الطايع، وغادر السجن معارضوهما الذين أمضوا زهرة شبابهم خلف أقبية رطبة.

سياقات داخلية وظروف خارجية

ويُخيَل للناظر لهذه اللوحة المغاربية أن الإتحاد الذي تعذر تحقيقه في الأسواق والعملات والتعليم والنقل تجسد في أبواب السجون المفتوحة أو نصف المفتوحة، ومن خلال هاجس مشترك لحل معضلة السجناء السياسيين نزولا عند ضغط عوامل خارجية وداخلية متضافرة.

ولو لم يكن بعض البلدان المغاربية في قطيعة مع بعضها الآخر، ولو كانت المؤسسات المغاربية تعمل كما كان مخططا لها أن تعمل لقيل إن خطوة الإفراج عن السجناء السياسيين أتت ثمرة للقاءات القمة أو لتوافق سياسي بين الأطراف المعنية. لكن الواقع مختلف تماما إذ لكل بلد سياقه الداخلي الخاص الذي قاد إلى فتح بوابات المعتقلات.

ففي ليبيا أتى الإفراج عن أربعة وثمانين سجينا من جماعة “الإخوان المسلمين” يوم 2 مارس الماضي في إطار احتفال أقيم أمام سجن طرابلس بحضور أهالي المفرج عنهم، بعدما سبق أن أخلي سبيل زميل لهم في الشهر السابق بسبب وضعه الصحي الخاص.

وأعطت السلطات دورا لمؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية التي يرأسها سيف الإسلام معمر القذافي كي تبدو واسطة خير في الإفراج عن بعض المساجين “بدوافع إنسانية”، لكن هذا الإجراء أنهى في الحقيقة صراعا دمويا بين السلطات والجماعة المحظورة بلغ قمته في سنة 1998 عندما قُبض على 152 شخصا من الجامعيين والكوادر المتعلمة وأحيلوا على “محكمة الشعب” التي قاضتهم في سنة 2002 وقررت إعدام اثنين منهم وحكمت بالمؤبد على ثلاثة وسبعين آخرين وبرأت ستة وستين ونال الباقون أحكاما بأكثر من عشر سنوات سجنا.

غير أن الظروف الدولية والداخلية تغيرت في الأثناء واضطر العقيد القذافي الذي تصالح مع الغرب إلى إدخال التحسينات التي طلبتها أمريكا وأوروبا على أداء نظامه، فألغى “محكمة الشعب” في سنة 2004، ثم أمر قاض ليبي في أعقاب تلك الخطوة بإعادة محاكمة أعضاء جماعة “الإخوان المسلمين”، مما اعتُبر تمهيدا لإطلاقهم بعد إيجاد الثوب القانوني المناسب.

ولوحظ أن “مؤسسة القذافي” أوصت في يونيو 2005 بالإفراج عن جميع المساجين المتشيعين للتنظيمات الأصولية ما عدا المجموعات التي تدعو للعنف. وألقى القذافي نفسه قناع المؤسسة التي يرأسها نجله ليعلن في يناير الماضي عن تشكيل لجنة للتحقيق في أماكن “الإيواء القضائي” (السجون) للتأكد من عدم وجود سجناء رأي أو ضمير فيها.

في تونس … إغلاق للملف بالتقسيط

ويُحيل اللجوء لصيغة لجان تقصي الحقائق إلى المبادرة التي اتخذتها اللجنة الدولية للصليب والهلال الأحمر (مقرها في جنيف) بإيفاد لجان تحقيق إلى بلدان مغاربية بالإتفاق مع سلطاتها لاستطلاع أوضاع السجناء بمن فيهم السياسيون.

وفي معلومات المكتب الإقليمي للمنظمة في تونس الذي يغطي أربعة بلدان (هي المغرب وليبيا وموريتانيا إضافة إلى تونس)، فإن السلطات التونسية تجاوبت مع فكرة إرسال لجان لتقصي الحقائق إلى السجون لمعرفتها بأن أسلوب المنظمة يقوم على التكتم على النتائج ورفض نشر فحوى تقاريرها في وسائل الإعلام. ولعل ذلك ما حمل المدير الإقليمي للمنظمة السيد برنار بفافيرلي على تفادي الجواب على أسئلة مندوب “سويس أنفو” الذي طلب مقابلته خشية جرَه إلى مناطق يُفضل أن تبقى بعيدة عن الضوء الإعلامي.

وكان وزير العدل التونسي بشير التكاري هو من أعلن أن بعثة من “الصليب الأحمر” استكملت زيارات للسجون التونسية مؤكدا في تصريحات علنية أن “جميع التسهيلات أُعطيت لأعضاء البعثة” من دون تقديم تفاصيل عن السجون التي زارتها ولا أصناف المساجين الذين أتيح لها ملاقاتهم. غير أن “سويس أنفو” علمت من ذوي سجناء أدينوا بالإنتماء لحركة “النهضة” المحظورة أن البعثة التقت بسجناء سياسيين من ضمنهم القيادي في الحركة الدكتور الصادق شورو واستفسرتهم عن ظروف اعتقالهم وإقامتهم في السجن.

وأتت فكرة إرسال البعثة إلى السجون تلبية لطلب قدمه وفد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي زار تونس في السنة الماضية وعرض الأمر على الرئيس بن علي فتجاوب مع طلبه.
ودلَ التجاوب على رغبة السلطات بإغلاق ملف السجناء النهضويين لكن بالتقسيط أو “بالقطارة” كما كتب بعض المعلقين. فتونس تبدو البلد المغاربي الوحيد الذي لا يستعجل التخلص من سجنائه السياسيين، على رغم أن الصراع في هذا البلد الصغير لم ينزلق دوما إلى مسالك الصدام العنيف مثلما حدث لدى جاريه.

مع ذلك تغيَر تعاطي السلطات مع ملف السجناء السياسيين نسبيا، إذ تم اتخاذ قرارات إفراج جماعية في أكثر من مناسبة وطنية، أهمها في خريف 2004 عندما أطلق ثلاثون من هؤلاء المساجين بينهم الناطق الرسمي باسم “النهضة” علي العريض، ثم في فبراير الماضي لما أفرج عن سبعين سجين رأي بينهم ستة من المسجونين في قضايا الإنترنت والقيادي في “النهضة” حمادي الجبالي ومدير صحيفتها الأسبوعية المُحتجبة “الفجر”.

الخطوات الجزائرية

بالمقابل بدت الخطوات التي قطعتها الجزائر الجارة لطي هذا الملف أكثر جرأة وعمقا من خلال مبادرة “العفو الشامل” التي أطلقها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة والتي عُرضت على استفتاء شعبي في 29 سبتمبر 2005 بعنوان “ميثاق السلم والمصالحة” ونالت أغلبية ساحقة، على رغم الملاحظات التي سُجلت على سير الإقتراع.

وعلى إثر ذلك طلبت وزارة العدل من المجالس القضائية والمحاكم في مطلع السنة الجارية سحب كل القضايا المتعلقة بالإنتماء إلى الجماعات الإسلامية المسلحة أو تقديم دعم لها من جداول الدورة الجنائية، وتُعد تلك القضايا بالمئات وهي تخص عناصر محبوسة وأخرى في حال فرار وثالثة مقيمة في الخارج.

ويمكن القول أن غالبية التيارات السياسية بما فيها الحركات الإسلامية تجاوبت مع “ميثاق السلم” عدا مجموعات قليلة من المتشددين في مقدمتهم عناصر من “الجماعة السلفية للدعوة والقتال” التي اتخذت موقفا رافضا على عكس مؤسسها حسان حطاب الذي دعا مؤخرا أعضاء جماعته إلى “القبول بالعفو الحكومي”، حسب بيان أرسله بالفاكس إلى وسائل إعلام جزائرية ودولية يوم 29 مارس.

ومع وجود تلك التحفظات باشرت السلطات اتصالات مع قياديين في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” المحظورة في الخارج لإقناعهم بالإستفادة من الأمر الرئاسي بشأن بدء إجراءات تطبيق ميثاق السلم والمصالحة، وخاصة قرار سحب القضايا المتُعلقة بهم من المحاكم، وبالتالي “ترغيب قادة الجبهة وغيرهم من الجماعات السلفية في الإستفادة من تلك الإجراءات الجديدة بغية فتح صفحة جديدة للسلم والمصالحة في الجزائر”، على حد تعبير الجهات الرسمية.

“شيء ما”.. بصدد التغير

ويمكن اعتبار المغرب البلد الأول الذي سار على هذه الطريق مغاربيا، فهو لم يكتف بإخلاء السجون من جميع المعتقلين السياسيين وإنما أطلق مسارا شاملا للإنصاف والمصالحة في سنة 2004 لطي صفحة المظالم التي لطخت حقبة الملك الراحل الحسن الثاني. واشتُرط على ضحايا الإضطهاد الذين أدلوا بشهاداتهم ألا يذكروا أسماء الذين قاموا بتعذيبهم مما اعتُبر حماية لهؤلاء وخاصة من مازالوا يعملون في الأجهزة الأمنية.

كما لوحظ أن الملك محمد السادس امتنع في الخطاب الهام الذي ألقاه في السادس من يناير الماضي، قبيل الإحتفالات بمرور نصف قرن على استقلال المغرب، عن إدانة حقبة والده مشددا على فكرة “التواصل” بين العهدين، ومُعلنا في الوقت نفسه عن “الغلق النهائي” للملفات السوداء المتعلقة بالفترة الماضية.

وأتت التجربة الموريتانية في هذا المشهد المغاربي مزيجا من المسارات الأخرى فهي وُضعت تحت عنوان تصفية تركة الرئيس المخلوع ولد الطايع، لكنها لم ترق إلى مستوى العمل الذي أنجزته هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب. وأبصر البلد مسارا شبيها بالمسالك التي سلكتها البلدان الأخرى للتخلص من إرث الملاحقات والمحاكمات السياسية. وانتفع من ذلك المسار السجناء المنتمون لحركات معارضة سلمية ولكن أيضا العسكريون المتهمون بتدبير محاولات انقلابية على ولد طايع وأشهرهم العقيد صالح ولد حنانا الذي أخلي سبيله بعد أسابيع من عزل غريمه.

وفي معلومات مصادر حسنة الإطلاع أن جميع المساجين السياسيين في موريتانيا أفرج عنهم بعد وصول الطاقم الحالي برئاسة العقيد أعل ولد محمد فال إلى سدة الحكم عدا عشرين عنصرا من المنتمين إلى “السلفية الجهادية” الذين مازالوا رهن الحبس منذ عهد ولد طايع ويطالب أهاليهم ومحاموهم بإطلاقهم أو محاكمتهم لكن السلطات لم تستجب للطلبات المتكررة بهذا الشأن.

في ضوء هذه اللوحة المغاربية التي تطغى عليها الإفراجات إن كانت شاملة أم جزئية، سريعة أم وئيدة الخطى، يتساءل المراقبون: هل نحن اليوم بإزاء مغارب فتحت أبواب معتقلاتها كي يغادرها نهائيا سجناء الرأي؟ وهل نحن مقبلون على مرحلة تنتفي منها ظاهرة الإعتقال السياسي والمحاكمات من أجل الأفكار والإنتماء لتنظيمات سياسية أسوة بما هو مألوف في المجتمعات التعددية الغربية؟

لا شيء يضمن أن فصول النقلة من مرحلة تاريخية إلى أخرى اكتملت وأن شبح الإنتكاس بات قصيا، فتداخل عناصر دولية وداخلية ضاغطة هو الذي أفرز الوضع الجديد، غير أن الثابت مع ذلك أن شيئا ما بدأ يتغير تحت السماء المغاربية.

رشيد خشانة – تونس

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية