إذا عُـرف السبب بـطـُـل الـعـجـب!
تعوّدت الشعوب العربية منذ منتصف القرن العشرين على انحياز الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل.
لكن الموقف الأمريكي الأخير المتواطئ مع الحرب الشرسة التي تشنها الدولة العبرية على على لبنان، جعل الجميع يتساءل مجددا عن أسباب ذلك الموقف الذي يكاد يرقى إلى مستوى التطابق التام بين أهداف إسرائيل وسياسة أمريكا.
تعوّدت الشعوب العربية على انحياز الولايات المتحدة إلى جانب إسرائيل، ولكن الموقف الأمريكي الأخير المتواطئ مع العدوان الإسرائيلي الغاشم على لبنان، ومعارضة واشنطن للنداءات العربية والدولية بوقف سريع لإطلاق النار، جعل الجميع يتساءل عن أسباب ذلك الموقف الذي يرقى إلى مستوى التطابق التام بين أهداف إسرائيل وسياسة الولايات المتحدة.
بمجرد عودة الأمين العام للأمم المتحدة من جولته الأوروبية، طرح مقترحات وخطوات محددة على مجلس الأمن بهدف التوصل إلى وقف فوري وسريع لإطلاق النار في لبنان، غير ان السفير الأمريكي في الأمم المتحدة جون بولتون سارع إلى رفض مطلب وقف إطلاق النار بحجة أن المطلب البديل يجب أن يكون خلق ظروف جديدة تضمَـن استمرار وقف العُـنف بشكل كامل ومحدد من خلال نزع سلاح حزب الله، وفرض سيطرة الجيش اللبناني على منطقة الجنوب وإطلاق سراح الجنديين الإسرائيليين المختطفين.
كما أعلن شون ماكورميك، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية بلا استحياء، أنه بينما يريد الجميع وقفا لإطلاق النار، فإن إدارة الرئيس بوش لا تريد وقفا لإطلاق النار يسمح لحزب الله بالتقاط أنفاسه واستجماع قواه ليعود من جديد ويشكّـل خطرا على استقرار المنطقة! فيما واصل الرئيس بوش في كل مناسبة خلال أيام العدوان المتواصل، التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن أراضيها ووجّـه اللوم إلى حزب الله، وطالب سوريا بالضغط عليه لوقف (القرف) – حسب التعبير الذي استعمله بوش في حديثه مع بلير في موسكو – الذي يمارسه ضد إسرائيل.
وبرر المتحدث باسم البيت الأبيض توني سنو العدوان الإسرائيلي بقوله “إن إسرائيل تفعل في لبنان ما تراه ضروريا لحماية حدودها”، ولا يخفى على أي عاقل أن الجسور والطّـرق ومحطات توليد الكهرباء ومنازل ومحال المدنيين اللبنانيين، لا تشكل تهديا لأمن إسرائيل.
إذا عُـرف السبب بطل العجب
ولم يقتصر الأمر على التواطؤ والمماطلة والتبرير، بل كشفت وسائل الإعلام الأمريكية عن اتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل بمنح القوات الإسرائيلية فرصة أسبوع إضافي من الهجمات الجوية والأرضية، لتجهز على قوات حزب الله في جنوب لبنان، وتقيم شريطا عازلا يمتد 19 كيلومترا على الحدود مع إسرائيل، والتمهيد لنشر قوات دولية في الجنوب اللبناني.
كما أصرت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس على عدم تحديد موعد قريب لجولتها في المنطقة بهدف التوصل إلى ما وصفته بشروط لوقف العنف بشكل دائم، وتناست أن العدوان الإسرائيلي لم يستهدف تدمير حزب الله، بل طالت سطوة السلاح الأمريكي لإسرائيل معظم المدن اللبنانية ومرافق البنية التحتية، بل ووحدات من الجيش اللبناني الذي يُـفترض أن إسرائيل والولايات المتحدة تضغطان من أجل نشر قواته في الجنوب اللبناني.
أما الكونغرس الأمريكي، فحدّث ولا حرج. فقد سيطر أنصار إسرائيل في الكونغرس بمجلسيه على النقاش حول مشروعي قرارين يساندان إسرائيل في عملياتها ضد حماس وحزب الله ويؤكدان حقها في الدفاع عن مواطنيها، بينما لم يطالب القراران إدارة الرئيس بوش ببذل أي جهود لوقف إطلاق النار أو حث إسرائيل على العودة إلى مائدة المفاوضات لتحقيق تسوية عادلة تُـنهي الصراع وتُـزيل مبررات المقاومة المسلحة للاحتلال.
أما شبكات التليفزيون الأمريكية فلم تقصر في إظهار تحيّـزها الواضح للعدوان الإسرائيلي وعدم الاكتراث بالمعاناة الإنسانية للشعبين، اللبناني والفلسطيني، وتعجّـب مقدم برنامج فُـكاهي يومي من أن تلك الشبكات قلصت أثر الحرب التي شنتها إسرائيل في المنطقة على الشعب الأمريكي في جانب واحد، هو زيادة أسعار البنزين! إذن، فالمشهد الأمريكي كله يدعو إلى التعجب، ولكن إذا عُـرف السبب بطل العجب!
إسرائيل وأمريكا معا ضد الإرهاب
فمنذ هجمات 11 سبتمبر 2001، نجح اللوبي اليهودي المُـوالي لإسرائيل والمعروف باسم لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) في إقناع الشعب الأمريكي والمشرّعين الأمريكيين بأن إسرائيل والولايات المتحدة لا تتقاسمان فقط المصالح والقيم، وإنما تتشاطران نفس العدو وهو الإرهاب الذي يقوده إسلاميون متطرفون في العالم العربي، ولذلك، فإن إسرائيل والولايات المتحدة يقفان في نفس الخندق في الحرب الأمريكية على الإرهاب.
ورفع ناتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل السابق في لقائه بأعضاء الكونغرس في أعقاب تلك الهجمات شعار: “لماذا يكرهوننا”؟ هذا الشعار الذي ظل المسؤولون الأمريكيون يردّدونه كالببّـغاوات منذ ذلك الحين. لذلك، لم يكن مفاجأة لأحد أن يُـظهر أحدث استطلاع لآراء الشعب الأمريكي أن 68% من الأمريكيين يحملون مشاعر إيجابية طيّـبة لإسرائيل ولا يساند الفلسطينيين إلا 15% من الأمريكيين.
لم يحدث هذا بين ليلة وضحاها. ففي عام 1941 قدم ديفيد بن غوريون، مؤسس دولة إسرائيل على أرض فلسطين، إلى واشنطن ليعرض ما وصفه بقضية الدولة اليهودية على الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، وكان كل أمله أن يقتنص من وقته ربع ساعة فقط، ورغم محاولات دامت شهرين ونصف لاستخدام سكرتيرة الرئيس اليهودية الجميلة ميريام كوهين في إقناع الرئيس ترومان بمقابلته، لم تُـسنح له فرصة مقابلته.
ولكن بن غوريون نجح في إرساء أساس لنفوذ المنظمات اليهودية الأمريكية، حين أوضح أنه ليس المهم من يجلس في البيت الأبيض إذا أمكن لليهود الأمريكيين التأثير بقوة على أعضاء الكونغرس بمجلسيه، والذين يبلغ عددهم اليوم 535 نائب.
ووفقا لتلك النصيحة، ركز اللوبي اليهودي نشاطه منذ إنشائه في الخمسينات من القرن العشرين على التأثير في صُـنع القرار الأمريكي من خلال تأييد مرشحي الكونغرس الذين يتعاطفون مع إسرائيل ويناصرونها، والنيل من المرشحين المناهضين لإسرائيل أو الذين يتبنّـون مواقف متوازنة أو تدعو إلى حل عادل للقضية الفلسطينية.
واستهدف اللوبي اليهودي الأمريكي جماعات الضغط التابعة لصناعة البترول والتي ترى مصالح استراتيجية لأمريكا مع العالم العربي، كما استهدف كذلك من وصفهم بالدبلوماسيين الأمريكيين ذوي التوجهات التي تميل نحو العرب في وزارة الخارجية الأمريكية، بل ووصل استهدافهم إلى السناتور وليام فولبرايت، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ لإيمانه بأن التأييد الأمريكي لإسرائيل يُـعَـدّ خطأً جسيما يُـهدد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
ترهيب أعضاء الكونغرس
حافظ اليهود الأمريكيون على انتماء واضح للحزب الديمقراطي، فانضمت إليه غالبيتهم، ولكن عندما تولى مناحم بيغين، من يمين الوسط، منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي في أواخر السبعينيات، كوّن علاقة تحالف عملي مع القس الأمريكي اليميني جيري فالويل وعدد من زعماء الكنائس المسيحية المحافظة في أمريكا، يستند إلى قناعة هؤلاء المسيحيين اليمينيين بأن مساعدة اليهود في السيطرة على الأرض المقدسة ستكون مقدّمة لعودة السيد المسيح الثانية إلى الأرض، كما نص على ذلك العهد القديم.
وعندما تولى الرئيس ريغن الرئاسة، وجد في إسرائيل حليفا استراتيجيا ضد النفوذ السوفيتي في المنطقة، خاصة في سوريا والعراق، وسرعان ما أعلن الرئيس ريغن منح إسرائيل وضع الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة من غير الدول الأعضاء في حلف الأطلسي، وتم توقيع سلسلة من اتفاقيات التعاون الاستراتيجي بين البلدين.
وفي تلك الأثناء، وجد اللوبي اليهودي الموالي لإسرائيل في واشنطن الفرصة لترهيب أعضاء الكونغرس، الذين يتجاسرون على الحديث ضد إسرائيل أو يتّـخذون مواقف تعاطف مع الجانب العربي أو المطالبة بسياسات أمريكية متوازنة في الصراع العربي الإسرائيلي، وجعل اللوبي الإسرائيلي ثلاثة من الأعضاء البارزين في الكونغرس الأمريكي عبرة لمن يعتبر، فشَـن حملة لا هوادة فيها على النائب الجمهوري بيت ماكلوسكي في كاليفورنيا، والنائب الجمهوري بول فيندلي، والسناتور تشارلس بيرسي في إيلينوي، ونجحت الأموال التي تبرّع بها اليهود الأمريكيون في إقصائهم عن قبة الكونغرس في الانتخابات التشريعية، لأنهم تجرؤوا على إبداء آراء تنم عن التعاطف مع الجانب الفلسطيني في الصراع العربي الإسرائيلي أو وجّـهوا انتقادات للمارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.
وكانت تُـهمة بول فيندلي، أنه تقابل مع الرئيس عرفات ووصفه بأنه بطل من أبطال الدفاع عن حقوق الإنسان، ولم يشفع لفيندلي أنه خدم دائرته الانتخابية ونجح في الانتخابات التشريعية 11 مرة قبل أن يُـطيح به اللوبي اليهودي، وكانت خسارة المشرعين الثلاثة، رسالة تهز أبدان المرشحين للكونغرس إلى يومنا هذا مفادها: “إذا سولت لك نفسك أن تعارض إسرائيل، فقل وداعا لمقعدك في الكونغرس”.
ولعل استخدام لغة الأرقام، يُـظهر عدم التكافؤ بين العرب الأمريكيين واليهود الأمريكيين في التأثير على المشرّعين الأمريكيين. فطبقا لإحصاءات مركز السياسات المستجيبة، وهو مركز غير حزبي، قدم أنصار إسرائيل تبرعات فردية وجماعية للمرشحين الفدراليين وللجان الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، وصلت منذ عام 1990 إلى حوالي 57 مليون دولار، فيما لم تزد تبرعات العرب الأمريكيين وأنصار التجمعات الإسلامية الأمريكية في نفس الفترة عن 297 ألف دولار!
وتبلغ ميزانية اللوبي الموالي لإسرائيل 47 مليون دولار سنويا، ويعمل فيه حوالي مائتين من النشطين المتمرّسين في الضغط السياسي على أعضاء الكونغرس من الحزبين، والتي تتضمن نشاطاتهم تنظيم زيارات سنوية لعشرات من أعضاء الكونغرس إلى إسرائيل وإعداد دراسات وأوراق عمل تعكس مصالح إسرائيل وتقديمها لمكاتب أعضاء الكونغرس بمجلسيه، بينما ينتمي لعضويته أكثر من مائة ألف من النشطين اليهود الأمريكيين لا يملون الكتابة لوسائل الإعلام الأمريكية، ومناشدة ممثليهم في الكونغرس مواصلة مساندتهم لإسرائيل، بالإضافة إلى تحالفات أقامها لكسب تأييد منظمات لا علاقة لها بالشرق الأوسط، ولا ناقة لها ولا جمل في الصراع العربي الإسرائيلي لزيادة تأثير اللوبي اليهودي في صناعة القرار الأمريكي.
صحيح أن بن غوريون لم يحظ بلقاء الرئيس الأمريكي في واشنطن، إلا أنه حصل من البيت الأبيض في 14 مايو عام 1948 على أول اعتراف بدولة إسرائيل بعد 14 دقيقة من إعلان قيامها في السادسة من مساء ذلك اليوم.
مصلحة إسرائيل أولا
وفي ضوء التأثير المتنامي للوبي الموالي لإسرائيل، خاصة في كنف المحافظين الجدد الذين أطلّـوا برأسهم في فترتي رئاسة الرئيس بوش، واتفقت أجندتهم الخاصة بالشرق الأوسط مع الأهداف الإسرائيلية المعلنة والخفية على حد سواء، خرج المرشح السابق للرئاسة الأمريكية بات بيوكانن بأول انتقاد للتأييد الأمريكي للحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان، يعكس صحوة الضمير الأمريكي فقال: “إنه تأييد لا يعبّـر، لا عن القيم الأمريكية ولا عن القيم المسيحية. فهو تأييد لعقاب جماعي لمدنيين أبرياء، ولعل المحافظين الجدد يريدون أن تخوض الولايات المتحدة حرب إسرائيل ضد حزب الله، ثم سوريا ثم إيران، ليس لمصلحة الولايات المتحدة، ولكن لمصلحة إسرائيل إذ لم يسبق لأي من الأطراف الثلاثة شن هجوم على الولايات المتحدة، ولقد نفذ لهم الرئيس بوش حتى الآن كل مخططاتهم”.
في سياق متصل، التقت سويس إنفو بالسيد يوغين بيرد، رئيس المجلس الأمريكي للمصلحة القومية CNI وسألناه عن تفسيره للموقف الأمريكي من العدوان الإسرائيلي على لبنان فقال: “إنه يعكس مناورة منظمة من ضغوط اللوبي الإسرائيلي على الولايات المتحدة لمنح إسرائيل وقتا كافيا لمزيد من الهجمات على حزب الله، والمطالبة بشريط حدودي عازل، فيما تستغل انشغال العالم بما تحدثه من دمار في لبنان لتوسع أنشطتها الاستيطانية في الضفة الغربية. ولكن أي مغفّـل لا يتوقّـع أن تتمكن إسرائيل من القضاء على حزب الله في أسبوع، بينما لم تتمكّـن قوات الاحتلال الإسرائيلي من تحقيق ذلك الهدف خلال 18 عاما من الوجود العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان؟”.
وأعرب السيد يوغين بيرد عن اعتقاده بأن إدارة الرئيس بوش غير معنية تماما بالمصلحة القومية الأمريكية، وقال “إنه يتلقى التقييم للموقف من إسرائيل وأنصارها في اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، والذين يقنعونه بأن الهجمات ستقوّض حزب الله، وليس الحكومة اللبنانية”، وأضاف إنه “بينما يردد الرئيس بوش أن من مصلحة أمريكا، تحقيق استقلال لبنان كبلد ديمقراطي ويحث على تشجيع حكومة السيد السنيورة، فإنه يغمض عينيه عما ترتكبه إسرائيل من فظائع ستقوّض في نهاية المطاف الحكومة اللبنانية”.
وقال السيد بيرد “إن اللبنانيين والعرب سيتذكّـرون شيئا واحدا، هو أن الأسلحة التي دمّـرت لبنان من جديد هي أسلحة أمريكية، ولن يكره العرب والمسلمون حزب الله، بل سيكرهون الولايات المتحدة، وهو شيء خطير جدا بالنسبة للمصالح القومية الأمريكية”.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.