إريتريا.. “جوكر” قادم في القرن الإفريقي؟
يحتار كثير من المراقبين في فهم آليات عمل النظام القائم في إريتريا، كما يحتارون في فهم تقلّـباته السياسية إزاء جيرانه.
فهذه التقلبات، أقل ما تُـوصف به، أنها حادّة، تتقلّـب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أي من العداء المستحكم إلى الهدوء والسكينة، وفى مدى زمني قصير.
شق من أسباب الحيرة، أن النظام عديم الشفافية، يقف على قمَّـته رئيس مُـحنّـك، هو أسياسي أفورقي، أتى من زمن الثورة ضد الحكم الإثيوبي، وحمل أحلاما تراوحت بين الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة، ولكنها أبدا لم تصل إلى حد الإيمان بالحرية والتعددية السياسية، ومن هنا، ذاق معارضوه ويلات كثيرة. أما شعبه، فيرزح تحت حُـكم حزب واحد لا يعرف الرحمة إذا كان رأى في أي تحرك شُـبهة التعرض بالنظام.
ظل أفورقي في السلطة منذ الاستقلال عن أثيوبيا وإلى الآن متمتِّـعا بقوة استثنائية في الاستمرارية وفي ممارسة التقلبات السياسية، وهذه الاستمرارية ترافقت مع خطّـين عريضين: أولهما، العداء مع أثيوبيا في ظل قيادتها، التي كانت أيضا ثورية من قبل، وثانيهما، التخلّـص من كل رفاق الثورة السابقين.
تقلبات في كل اتجاه
التقلبات الإريترية لا تقتصر على بلد واحد من دول الجوار، فهي وجهت من قبل وما زالت موجهة إلى كل دول الجوار تقريبا، إما تحت عنوان النزاع الحدودي البري، كما هو الحال مع إثيوبيا في منطقة بادمي الفقيرة والمعدومة من كل شيء تقريبا، والبحري كما كان الحال مع اليمن حين أقدمت القوات الاريترية نهاية ديسمبر 1995 على احتلال جزر حنيش اليمنية، والتي عادت إلى سيادة الوطن الأم بعد قرار محكمة العدل الدولية، بعد عام تقريبا من واقعة الاحتلال، وإما تحت عنوان قيام النظام الجار كالسودان وإثيوبيا أيضا بدعم المعارضة الإريترية، تمهيدا لإسقاط النظام الذي شحذ همّـته بكل ما يستطيع، رغم فقر موارده لمواجهة محاولات الإسقاط هذه، سواء كانت مزعومة أو حقيقية. وأخيرا، تحت عنوان البحث عن دور إقليمي يعطي الهيبة للبلد ويوفّـر مكانة لها.
سمعة إريتريا عبر 15 عاما، هي زمن الاستقلال، ليست جيِّـدة في نظر الكثيرين، فلا الاقتصاد عرف تنمية طالما حلم بها الإريتريون قبل الاستقلال، ولا عرف ديمقراطية أو تعددية أو حرية، مما ينعم بها بعض شعوب دول الجوار. كذلك، فالعلاقة مع القوة الأكبر في العالم، أي الولايات المتحدة، تتعرّض لمدّ وجذر، حسب الحالة.
وفي اللحظة الجارية، ثمة اتهامات أمريكية مُـعلنة لأسمرة بأنها قامت بتسليح قوات المحاكم الإسلامية في الصومال، مُـتجاهلة بذلك قرارا دوليا يعود إلى عقد ونصف مضى، يحُـول دون تصدير أو بيع السلاح إلى أي قوة محلية في الصومال.
مثل هذه الاتهامات الأمريكية لاريتريا، ليست جديدة في حد ذاتها، فقد تكرّرت من قبل، حيث حملت الاتهامات آنذاك ما يُـفيد بأن أسمرة تتجاهل الأمم المتحدة وتسعى إلى توتير علاقاتها مع جيرانها، وتؤمّـن الملاذ لحركات معارضة مسلحة ضد نُـظم حاكمة في المنطقة، كما أنها لا تحترم بعثة الأمم المتحدة التي تراقب منطقة بادمي الحدودية مع إثيوبيا، والتي قررت أسمرة طردها قبل عام ونصف، في خطوة عكست رغبة آنذاك في تصعيد الأزمة مع إثيوبيا.
احتضان كل أنواع المعارضة
إريتريا من جانبها، لديها رؤيتها وخططها الخاصة، وكثيرا ما لا تهتم بما يقال عنها أو الاتهامات التي توجّـه إليها، وتعمل على ردّ الاتهامات بأخرى مماثلة أو ربما أشد. فهي تنفي مثلا تسليح قوات المحاكم الإسلامية، وترى الاتهامات الأمريكية بمثابة تغطية على الفشل الذي يلاحق سياستها في المنطقة.
وما يُـلفت النظر هنا، أن أسمرة منذ الاستقلال، كان وما زال لديها سلوك سياسي لم يتغير أبدا، وهو احتضان كل حركات المعارضة، التي تنشأ في دول الجوار، سواء حملت توجّـها إسلاميا أو علمانيا أو تقدميا، توفّـر لها الملاذ السياسي والإعلامي والأسلحة والتدريب، وربما التخطيط للقيام بهجمات مُـعينة في أوقات مختارة بدقّـة، تُـساعد أسمرة على تحقيق هدف أو توجيه رسالة معيَّـنة للنظام الجار.
وكان نصيب حركات المعارضة السودانية كبير من دعم أسمرة، لاسيما بعد سُـطوة نظام الإنقاذ على البلاد منذ يونيو 1989، وربما يساعد هذا التوجّـه الأصيل لدى أسمرة على فهم دوافعها في تأييد قوات المحاكم الإسلامية الصومالية، والتي تناوئ الحكومة الانتقالية برئاسة الرئيس عبد الله يوسف، والتي تمثل التوجّـه المُـضاد القائم على الاستناد على دعم إثيوبيا ومساندتها، سياسيا وعسكريا.
والدافع الإريتري هنا مزدوج، فهو من ناحية تأمين قدم في الشأن الصومالي، الذي تميل كفّـته إلى صالح المحاكم الإسلامية على نحو بارز، ومن ناحية ثانية، هو توجيه ضربة إلى النفوذ الإثيوبي في الصومال عبر الضغط على الحكومة الانتقالية.
الحالة السودانية.. نموذجا
هذا الهدف المزدوج في حالة الصومال يتردّد صَـداه في الحالة السودانية بطريقة تبدو معكوسة إلى حدّ ما.
فالخرطوم، التي قبلت منذ أشهر قليلة فقط أن تتولى أسمرة ملف الوساطة مع جبهة الشرق المعارضة وقبلت ما أسماه الدكتور مصطفى إسماعيل، مستشار الرئيس البشير والمسؤول عن ملف المفاوضات مع جبهة الشرق، انحياز الوسط الإريتري، هي نفسها التي كانت في توتر شِـبه دائم مع إريتريا منذ مطلع التسعينات، وهي نفسها التي تُـدرك أن أسمرة استضافت ولا زالت كل فصائل المعارضة السودانية المُـنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي المعارض، وهي نفسها التي كانت تدرّب وتسلّـح عناصر جبهة الشرق وساعدتهم مِـرارا في توجيه ضربات مُـؤلمة للقوات السودانية في شرق البلاد، كاحتلال بلدة همشكوريب، ومع ذلك، قبلت الخرطوم أن ترعى أسمرة مُـفاوضات مع جبهة الشرق ـ انتهت بتوقيع اتفاق يبدو محلا لرضاء نسبي من الأطياف السودانية المختلفة.
ولعل السبب هنا أن الخرطوم أرادت أن تختبر مدى نفوذ إريتريا على المعارضة التي تحتضنها، ويبدو أن الاختبار جاء لصالح أسمرة بدرجة كبيرة، وربما أرادت الخرطوم أيضا أن توجّـه رسالة إلى الاتحاد الإفريقي وأيضا الأمم المتحدة بأن لديها بدائل أخرى لاحتواء الموقف المتوتر في دارفور.
سمتان بارزتان
ويدل على ذلك أمران: الأول، أن الخرطوم ترى في الأسلوب الإريتري في رعاية المفاوضات، أسلوبا أكثر نجاعة وتأثيرا من أسلوب الاتحاد الإفريقي، مثلا في حالة دارفور، والذي انتهى باتفاق أبوجا المتعثر عمليا، وأيضا أفضل من أسلوب الإيجاد وشركاء الإيجاد الذين رعوا المفاوضات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، وانتهت باتفاق نيفاشا، الذي أسس لسودان جديد، عما كان عليه الحال إبّـان الحرب الأهلية.
السمة الأبرز في أسلوب إريتريا، تبدو في أنها لم تضع هذه المفاوضات تحت الإعلام والشدّ والجذب بين المتفاوضين، كما أنها مارست ضغوطا غير معلنة على الطرفين ومنعت تدخلات الإيجاد أو شركاء الإيجاد أو حتى الاتحاد الإفريقي. كما أن المدّة الزمنية لم تكن طويلة ولم تتعدَّ أشهر محدودة، على عكس حالتي دارفور والجنوب السوداني، التي استمرّت سنوات عصِـيبة ومتوتِّـرة.
سببٌ آخر لا يمكن تجاهُـله في نجاح الأسلوب الإريتري، كما بدا في حالة شرق السودان، وهو أنه وظّـف بدرجة ما التَّـداخلات الاجتماعية والقبلية القديمة، قدم التاريخ بين أهل شرق السودان وأهل إريتريا نفسها. فالقبائل واحدة والتداخلات كبيرة. بعبارة أخرى، قدّمت أسمرة نموذجا فعّـالا في المفاوضات وفي التوصل إلى حلّ سريع لا يُـثير الكثير من الجلبة، كما هو الحال في اتفاق أبوجا بشأن دارفور.
ترحيب مثير من الجميع
هذا النجاح، وكما هي العادة، يغري بأن يُـتّـبع في حالات أخرى، وهو ما يفسِّـر لماذا يرحِّـب الفرقاء في دارفور بوساطة إريترية تكمِّـل ملف السلام الناقص في هذا الإقليم، الذي لم ينعم بعدُ بعوائد اتفاق أبوجا.
فالأخير ليس مقبولا من حركات معارضة، شكّـلت فيما بينها جبهة الخلاص الوطني، والتي تطالب بمفاوضات جديدة مع حكومة الخرطوم تنهي معاناة أهل دارفور، شريطة أن يتم التعامل مع الإقليم كوحدة واحدة، وأن يمنح حق تقرير المصير وأن يزيد حجم التعويضات المقرّرة للدافوريين، تعويضا عن مُـعاناتهم والأضرار التي تحمَّـلوها نتيجة الحرب في قُـراهم ومدنهم وأماكن اللجوء اللا إنسانية، التي فُـرضت عليهم.
عبء مزدوج
علينا هنا أن نلاحظ أمرين. الأول، أن إريتريا تحتفظ بعلاقات وثيقة مع زعماء جبهة الخلاص، وهم عبد الواحد محمد أحمد النور، رئيس حركة جيش تحرير السودان واحمد عبد الشافع، رئيس جناح حركة جيش تحرير السودان المنشق عن جناح عبد الواحد النور، ودكتور دريج ودكتور شريف حرير وإسماعيل نواي، الذي كوّن حركة حديثة تنادي بالديمقراطية في كل السودان، وهو من الذين شاركوا في مفاوضات أبوجا سابقا، وهؤلاء جميعا، رحّـبوا بدور جديد لأسمرة، يكمِّـل النواقص التي يرونها موجودة في اتفاق أبوجا.
الثاني، أن الهدف العام من هذه المفاوضات، هو تحقيق السلام لدارفور، لكن يبدو من بعض تصريحاتٍ لزُعماء الجبهة، أنهم يفتقرون لرُؤية موحّـدة في طبيعة آلية التفاوض ولا في المنتج النهائي لها، هل هو ملاحق لاتفاق أبوجا أم اتفاق جديد تماما؟
هاتان الملاحظتان تضعان عِـبئا مُـزدوجا على أسمرة، فإلى جانب توظيف علاقاتها الجيِّـدة مع هؤلاء الزعماء وفضلا عن التحسّـن النِّـسبي في علاقاتها بالخرطوم، فعليها أن تثبت أن نموذجها في الشرق السوداني يُـمكن أن ينجح أيضا في الغرب. هذا الأمر إن حدث وبدت بشائر السلام والاستقرار تلوح في سماء دارفور، سيحق لإريتريا أن تكون “جوكر” القرن الإفريقي عن جدارة.
د. حسن ابوطالب – القاهرة
تقع إريتريا عل الشاطئ الغربي للبحر الأحمر في نقطة حاكمة عند مدخله الجنوبي وعلى مقربة من مضيق باب المندب ذي الأهمية الإستراتيجية البالغة؛ فهي تشبه مثلثا محصورا بين إثيوبيا والسودان وجيبوتي.
تبلغ مساحتها حوالي 120 كم2 تتنوع فيها التضاريس والمناخ، وتمتلك شاطئًا يمتد ألف كيلومتر على البحر الأحمر، يمتد من “رأس قصار” على الحدود السودانية شمالا إلى باب المندب في “رأس أرجيتا” في جيبوتي جنوبًا، ويقع في هذا الساحل أهم موانئ البحر الأحمر وهما: “عصب” و”مصوع”.
تتبع إريتريا (126) جزيرة، أهمها أرخبيل (مجموعة جزر) دُهلك وبه نحو (25) جزيرة، أهمها من الناحية الإستراتيجية جزيرتا “فاطمة” و”حالب”. ويزيد عدد السكان عن أربعة ملايين نسمة. 78% منهم مسلمون، والباقي ينتمون إلى تسع مجموعات دينية وعرقية ولغوية أخرى.
ترجع تسمية إريتريا إلى الرومان الذين أطلقوا تسمية “سينوس أريتريوم” على البحر الأحمر وشواطئه التي سيطروا عليها عندما خضعت “عدوليس” على الشاطئ الإريتري لسلطانهم، وعندما احتل الإيطاليون هذه الشواطئ في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي أطلقوا اسم “إريتريا” عليها إحياء للتسمية الرومانية القديمة، وذلك بمرسوم أصدره الملك الإيطالي “أومبرتو الأول” في يناير 1890.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.