إسرائيل تدخل مرحلة “ما بعد لبنان”
لا زالت الأجواء في إسرائيل ملبدة وقاسية بعد أكثر من أسبوع من بدء تطبيق وقف إطلاق النار. فمواضيع الحديث واحدة في كل مكان، وتظل أحداث الحرب أو على الأدق أداء الجيش والحكومة في الحرب هو الموضوع الأساسي في ما يتداوله الإسرائيليون.
أما جنود الاحتياط العائدون من لبنان فهم يزيدون الطين بلة عندما يبدؤون في الكلام..
كوبي وقف أمام فرنه لخبز المعجنات في أحد أحياء القدس الغربية في ساعات الصباح من يوم الأربعاء (16 أغسطس) الماضي، المقهى خلا من الزبائن تقريبا.. على إحدى الطاولات جلس رجل أجنبي له ملامح أوروبية وعلى الأخرى جلس عجوز إسرائيلي متقاعد في سنوات السبعين من عمره، يدعى حاييم الذي يتردد على المقهى والمحال التجارية المحيطة للمساعدة وتمضية الوقت..
صوت المذيع المنطلق من جهاز الراديو في الخلف تحدث عن “فضيحة رئيس هيئة الأركان” دان حالوتس الذي وجد لديه متسعا من الوقت ليتصل في الثاني عشر من تموز ببنكه، ساعات قليلة بعد اختطاف الجنديين الإسرائيليين على الحدود مع لبنان ومقتل ثمانية آخرين لبيع ملف أسهمه المالية المودع في البنك.
حاييم أخذ بإطلاق الشتائم على “الفاسدين الذين سيدمرون كل ما بنيناه في هذه الدولة” .. “كان يجب عليه أن يخجل قبل أن يعطي التعليمات لبنكه لبيع الملف في مثل هكذا يوم” .. “لقد سقطت مقولة بن غوريون إن كل أم يهودية تستطيع أن تنام مرتاحة عندما يذهب أولادها إلى الجيش لأنهم بأيدي ضباط أمينة” .. “أي أيد وأية أمينة” أضاف حاييم. “هدئ من روعك حاييم”، أجابه كوبي .. “الموضوع ليس موضوع ملف أسهم حالوتس وحتى وان كان كذلك فحقه أن يبيعه ويشتريه ولكن على ما يبدو من سرب هذا الخبر للصحافة يريد إبعاد نار الانتقادات عنه ويبحث عن ضحية سمينة لتقديمها إلى الشارع”.
كوبي غمز إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع الإسرائيليين اللذين كانا أيضا في مركز الهجوم المكثف للصحافة الإسرائيلية ثلاثة أيام بعد وقف إطلاق النار. كلاهما لم يعقبا في اليوم الأول على “الفضيحة” .. مستشاروهما نصحوهما بالابتعاد عن الموضوع وفقط بعد يومين اتصلا برئيس هيئة أركانهما لتشجيعه.
الفشل فظيع
في مقهى أخر وعلى بعد ساعتين سفر من مقهى كوبي في القدس وفي مدينة حيفا جلس موشه ران يتحدث عن الحرب التي حطت أوزارها قبل أيام.. “هذه الحرب لا تشبه أيا من حروب إسرائيل الماضية”.. “عام ستة وخمسين في الحرب مع مصر وعام سبعة وستين في الحرب مع كل الجيوش العربية وحتى في حرب يوم الغفران لم نشعر هنا في حيفا بالحرب”.. “صحيح أن صدام حسين أطلق صاروخا أو اثنين نحو المدينة في حرب الخليج الأولى ولكن الموضوع انتهى سريعا ولم نشعر به ولكن هذه المرة الوضع كان مختلفا. لقد ضربت المدينة بشكل متواصل خلال الحرب. الناس تركت المدينة هربا، أنا لم اترك ولكن إن قلت لك أني لم أكن خائفا فاني اكذب عليك”.. “هناك من قام بارتكاب أخطاء قاتلة ويجب أن يدفع ثمن خطئه”.
وفي مقهى أبو عيسى الشعبي في مدينة يافا بالقرب من تل أبيب جلس شابان يهوديان يتحدثان ويدخنان النارجيلة التي أصبحت رائجة لدى العديد من الإسرائيليين.. “زوج زميلة زوجتي في العمل عاد من الاحتياط، لقد كان في لبنان، إنه يروي أمورا فظيعة، ما يكتب في الصحافة عن الفضائح هناك لا يعكس بتاتا ما حدث، يقول إنه قضى أياما دون أكل أو شراب .. معدات الاتصال اللاسلكي لم تعمل .. الذخيرة والوقود لم تكن تصلهم كما يجب وأرسلوهم إلى مواقع دون أن تكون هنا أية معلومات استخباراتية عن المكان.. لقد فقدوا تسعة من زملائهم في كمين نصبه لهم حزب الله، الفشل يبدو فظيعا لا يمكن أن تصدق ما حدث هناك”..
الأجواء في إسرائيل ما زالت قاسية هذه الأيام، على الرغم من مرور قرابة الأسبوع على بدء تطبيق اتفاق وقف اطلاق النار مواضيع الحديث واحدة في كل مكان ويبدو أن أحداث الحرب أو على الأدق أداء الجيش والحكومة الإسرائيلية في الحرب هو الموضوع الأساسي.
الجنود الاحتياط العائدون من لبنان يزيدون الطين بلة عندما يبدؤون في الكلام، الصحافة الإسرائيلية (التي تجندت بالكامل خلال النزاع لتروج للحرب وتدعم الجيش والحكومة) بدلت أجندتها .. القنوات الإسرائيلية المركزية الثلاث تنتظر الجنود القادمين من لبنان على الحدود لتبث مباشرة ما حدث معهم هناك، والأصوات المطالبة بلجنة تحقيق رسمية أخذت بالازدياد والخوف المرافق لهذه اللجان بدا واضحا على وجوه القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل.
غضب الجمهور
فهذه اللجان كانت تقطف العديد من الرؤوس في كل مرة تشكلت فيها في الماضي. وحجم الفشل هذه المرة قد لا يبقي أيا من القيادات عند تقديم مثل هذه اللجنة (إن تشكلت) لتوصياتها وكأن أيهود ولمرت لا تنقصه إلا المزيد من المشاكل بعد أن تدهورت شعبيته لدى الجمهور الإسرائيلي. فمستوى الرضا عن أداءه وصل في الاستطلاعات (أي قبل قرابة الأسبوع ) إلى أكثر من سبعين بالمائة واليوم – أي بعد أسبوع فحسب – وصل إلى الحضيض بأقل من أربعين بالمائة.
خطة الانسحاب آحادي الجانب تبدو وكانها ذهبت أدراج الرياح. فبعد ما حصل في لبنان لم تعد المواجهة مع الفلسطينيين على رأس أولويات الإسرائيليين ومن أيد ولمرت خليفة لشارون في طرح “خطة الانطواء” كما سماها اولمرت بدا يتراجع عنها هذا الأسبوع.
فمن ناحية هذه “البضاعة” تعتبر اليوم كاسدة عند الإسرائيليين ولن يجرؤ أحد من السياسيين على السباحة بعكس مجرى التيار في الشارع الاسرائيلي. ومن ناحية اخرى، يبدو أولمرت للبعض كذئب عجوز في أيامه الأخيرة يتربص به ذئب آخر سيصرعه عما قريب خصوصا وان البعض بدا يطالب بانتخابات برلمانية مبكرة لانتخاب قيادة جديدة بعد أن نقل عن اولمرت بان خطته التي انتخب على أساسها “لم تعد قابلة للتنفيذ في هذه المرحلة” وأن “الأجندة التي انتخب على أساسها لم تعد موجودة”.
عضو الكنيست بروفسور ارييه الداد (من القائمة اليمينية الموحدة للمفدال والايحود لئومي) قال: “إن اولمرت يحاول سد أفواه مليون إسرائيلي في شمال إسرائيل نسيوا في الملاجئ خلال الحرب من خلال الإعلان عن تخصيص أربعة مليارات شيكل لترميم شمال إسرائيل بعد الحرب”.
الداد المعارض ليس الوحيد الذي يهاجم اولمرت وحكومته. أحزاب اليمين بدت كمن يتنفس الصعداء بعد أن تحطمت تقريبا في الانتخابات الأخيرة، إذ أن فشل اولمرت قد يعيد إليها ثقة الشارع الإسرائيلي وربما قد يعيدها إلى الحكم خصوصا وأن فرص حزب كاديما بالحياة بعد الحرب تبدو ضعيفة.
ومع قرار حاييم رامون الاستقالة (بعد قرار المستشار القضائي للحكومة بتقديم لائحة اتهام ضده على خلفية فضيحة جنسية)، فان هذا الانطباع يتعزز خصوصا وان رامون اعتبر المنظر العقائدي لكاديما وأحد الشخصيات الأكثر قوة في السياسة الإسرائيلية وغيابه سيشكل ضربة لاولمرت ولكاديما.
ومع قرار آخر للمستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية بتقديم تساحي هنغبي، أحد الأشخاص الأقوياء في كاديما والذي يشغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست (تعتبر اللجنة البرلمانية الأهم في إسرائيل) إلى القضاء ومع الأخبار التي تسربت حول نية موفاز وزير الأمن السابق المنافسة على رئاسة كاديما واستمرار الوزير شمعون شطريت بانتقاد اولمرت علنا وبالإضافة إلى الأجواء المتوترة بين اولمرت ووزيرة خارجيته تسيبي لفني، فأحوال اولمرت وكاديما تبدو في غاية السوء. وبحسب الاستطلاعات فكاديما ستحصل على اقل من عشرين مقعدا إن جرت الانتخابات اليوم.
“تغيير سياسي ما”
الاستطلاعات ذاتها تمنح حزب العمل اثني عشر مقعدا أي ما يعني تحطم الحزب أو محفزا لمعارضي عمير بيرتس (الذي انخفضت نسبة الرضا عن أدائه في استطلاعات نهاية الأسبوع إلى نسبة سبع وعشرين بالمائة) للتخلص منه.
غير أن ما يدعو اولمرت وبيرتس للارتياح – ولو لبرهة من الزمن – الإجماع الحاصل لدى السياسيين والمراقبين في إسرائيل على أن “الانتخابات ليست قريبة” لان الأحزاب الإسرائيلية لم تلتقط بعد أنفاسها من الانتخابات التي جرت في شهر مارس الماضي ولأن جزءا من هذه الأحزاب (كحزب المتقاعدين مثلا) قد يختفي نهائيا إذا ما كانت هناك انتخابات جديدة.
ولعل الأهم في تقدير المراقبين أنه لا يوجد حاليا أشخاص في الخارطة السياسية والجماهيرية في إسرائيل يمكن لهم أن يكونوا بدائل بحجم بن غوريون أو رابين أو شارون لإنقاذ إسرائيل.
أحد الدبلوماسيين الأجانب العاملين في إسرائيل قدر أن الأمور لن تبقى على حالها وان تغييرا سياسيا ما قد يحدث في إسرائيل عما قريب بجانب التغييرات في المستويات القيادية المختلفة في الجيش الإسرائيلي.
أحاديث المقاهي والتلفزيونات فقط ستزيد من الاحتقان في الشارع الإسرائيلي.. وكل جندي عائد من خط الجبهة سيحدث أصدقاءه وزملائه وجيرانه عن الفشل، وهؤلاء سينقلون حديثه مصدقين ومقتنعين بكل ما قيل إلى معارفهم.
إن الحرب التي انتقلت إلى طاولات المقاهي ستضخم حجم الفشل في صفوف الرأي العام في إسرائيل لذلك فإن أيام العقاب للثنائي أولمرت – بيرتس (وحتى لمن سبقهم خلال السنوات القليلة السابقة في مناصبهم) تبدو قادمة لا محالة.
قاسم الخطيب – القدس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.