إصلاح الجامعة العربية بين التسريع والتعطيل
يبدو أن القمة العربية المقبلة فى الجزائر قد تُحدّد سقف إنجازاتها السياسية الخاصة بإصلاح الجامعة العربية قبل فترة مبكرة من انعقادها.
فلن يكون هناك مجلس أمن عربي، ولا محكمة عدل عربية. فكلاهما سيتأجل البت فيهما إلى قمة أخرى بعد قمة الجزائر..
من غير المؤكّـد أيضا، أن يمر مشرُوعَـا هيئة متابعة تنفيذ قرارات الجامعة أو نظام التصويت الجديد، فكلاهما، حسب نتائج الاجتماع الاستثنائي الأخير لوزراء الخارجية العرب، وتلميحات عمرو موسى، أمين عام الجامعة العربية، بحاجة إلى تعديلات مُـهمة قبل أن يُـعرَضا مرة أخرى على الوزراء العرب فى اجتماعهم التمهيدي قبل عقد القمة في شهر مارس المقبل.
وحتى إذا تمّـت هذه التعديلات في الفترة المتبقية التى تزيد عن شهرين بقليل، فليس هناك أي ضمان بأن يتم اعتمادهما أو أحدهما على الأقل. فكافة السوابق تقول إنه في اللحظات الأخيرة عادة ما يُقدّم أحد الأطراف على تقديم تحفّـظ أو وجهة نظر جديدة كليّـة، وتكون كفيلة بتغيير المُعطيات، ومن ثم اللّـجوء إلى التأجيل بحُـجة الحاجة إلى مزيد من الدراسة.
توافق وحيد
في مقابل هذه التأجيلات على أربعة مشروعات مُـهمة من المشاريع المُـقترحة لتعديل الميثاق، كان التوافق الوحيد على إقامة برلمان عربي مؤقّـت لمدة أربعة سنوات، على أن تمثل فيه كل دولة بأربعة أعضاء، ويكون مقَـره دمشق، على أن يجتمع مرّتين في العامين، ويُـناط إليه البحث في المواضيع المتوافقة مع ميثاق الجامعة، وتعزيز العمل العربي المشترك في كافة المجالات، وهي صيغة أقرب إلى منتدى لتبادل الآراء والأفكار، وليس القيام بمهامّ ذات صفة تشريعية أو رقابية كما هو الحال مثلا فى البرلمان الأوروبي.
كما أن صيغة اختيار ممثلي الدول ستَـخضع لنُـظُـم كل دولة، وليس من بينها الانتخابات المباشرة. وبينما لا تقدم مثل هذه الصيغة الكثير على صعيد التفاعل العربي، شعبيا وجماهيريا، مع القضايا العربية الجماعية، يراها المتفائلون تقدّما مُـهمّا، على الأقل من زاوية الاعتراف بأن هناك بُعدا شعبيا في التفاعلات العربية لابُـد من تنظيمه وتأطيره، وربطه هيكليا بمؤسسات الجامعة العربية، مع ترك الفرصة له لكي ينمو من حيث الدور والأداء.
وأيا كان الموقف السياسي من هكذا برلمان عربي محدود الصلاحيات، فإن عملية الإصلاح المأمُـولة فى الجامعة العربية، تبدو عسيرة وعصية في الآن نفسه.
وحتى الأفكار التي سبَـق تداولُـها ودراستها لسنوات طويلة خلَـت، وتحوّلت بالفعل إلى مشروعات بروتوكولات قانونية مكتملة الأركان والقواعد الشكلية المعمول بها، كمشروع محكمة العدل العربية، وآلية التصويت بالأكثرية بدلا من الإجماع، إضافة إلى مشروع مجلس الأمن العربي، وهيئة متابعة تنفيذ قرارات القمم العربية، وبعد كل الجُهد الذي بُـذل فيها، والاتصالات التي تمّـت بشأنها، جاءت المُـحصّـلة بتأجيل الحسم أو مطالبة بإعادة نظر جذرية أو دعوة بالتخلي عن هكذا مسعى.
ومثل هذه الدورة العبثية من هدر الإمكانات والموارد، فضلا عن تجاهل عامل الزمن وما يحمله من أعباء وتحدّيات إضافية، تُـعد مسؤولة بالدرجة الأولى عن تجميد إصلاح الجامعة، أو على الأقل جعله مشروعا محدود الإمكانات والموارد.
تقاليد للرفض والتعطيل
والظاهر، أنه تشكّـلت تقاليد باتت معروفة فيما يتعلق بتأجيل القرارات الجماعية المطلوبة، ومن أبرزها استغلال قاعدة الإجماع المعمول بها لتمرير أي تعديل، من أجل بلورة موقف مُـعاكس، لا يتمتّـع بالإجماع المطلوب.
وعادة ما تأتي المواقف الناقدة أو الرافضة، أو حتى التي تحمل أفكارا مُمتازة في حد ذاتها فى ربع الساعة الأخير، مما يستدعي عدم البت في الأمر وتأجيله إلى اجتماع قمة آخر.
ففي الاجتماع الاستثنائي لوزراء الخارجية العرب، أقدَمت الجزائر على تقديم أفكار مُـهمّـة لتعديل الميثاق فى جوانب شتّـى، ومن بينها تدوير منصب الأمين العام، ولكن لم يسبق التداول بشأنها، فيما اعتُـبر أنها جاءت لتُـعطّـل ما تم التوصل إليه بالفعل من اقتراحات.
وكان مثيرا، أن تقدم سَـلطنة عُـمان على تقديم مذكّـرة اعترضت على ما وصفته “تسريع وتيرة إصلاح الجامعة دون رَويّـة وتأنّ” أو “تقديم أفكار نظرية نابعة من خبرات منظمات أخرى”.
كما اتّـسمت المذكرة بالحدّة والنقد الصارخ لمشروعات إنشاء مجلس أمن عربي، وآلية متابعة تنفيذ القرارات، وإنشاء محكمة عدل عربية، حيث اعتبرت أن لا حاجة إلى مجلس أمن عربي، حتى لا يُـقال أنه تم إنشاء هيكل جديد وكُـفء، ولن يعمل بصورة مناسبة، وأن إنشاء آلية تحكيم للمنازعات، أفضل من إنشاء محكمة قد تُـثير نزاعات وخلافات عربية عند تشكيلها.
أما آلية المتابعة، فكان نصيبُـها الدعوة إلى تخفيف ما فيها من عقوبات على المُـمتنعين عن تنفيذ القرارات.
وبالرغم من أن القاعدة، التي لا خلاف عليها، أن من حق أي دولة أن تُـقدم المقترحات والمشروعات لتعديل الميثاق، أو تطوير بعض الأمور الإدارية والتنظيمية، فمن الظاهر أن هذا الحق يُـستخدم، ليس لإثراء عملية الإصلاح والدفع بها إلى الأمام، بقدر ما هو تعطيل هذه العملية وإثارة الغُـبار بين الحين والآخر على ما تَـبذله الأمانة العامة من جهد قانوني في بلورة أفكار تمّ تقديمها في مراحل سابقة.
إجماع غائب
والظاهر أيضا، أن إصلاح الجامعة العربية ليس محل إجماع عربي، وذلك بالرغم من كل الكلمات الطيبة التى تُـقال بشأن ضرورة الإصلاح وأهميته. فهناك ثلاث مواقف كبرى في هذا السياق.
الأول، الرافضون لأي مستوى من مستويات الإصلاح، وهؤلاء ينطبق عليهم مقولة، أنه ليس في الإمكان أبدع ممّـا كان، حيث يرون إبقاء الجامعة على حالها، باعتبار أنه لا يُـحمل عليهم أي أعباء كبرى، كما لا ينتقص من سيادتهم، ولو بوصة واحدة. وهؤلاء يعتقدون أن تفعيل الجامعة من شأنه أن يصطدم بالكثير من مصالحهم الذاتية المباشرة، كما أنه سيُحرمهم عُـذرا كان دائما موجودا ويتم تحميله بكل أوزار الفشل والخيبة، دون أن يَـمسَّـهم بسوء أو لوم أو نقد مباشر.
ومثل هؤلاء، يعتبرون أن الجامعة لا يجب أن تتطَـوّر، وأن تتحوّل إلى منظمة إقليمية بالمعنى المُـتعارف عليه دوليا، بل تظل منظمة معنوية، يُمكن اللجوء إليها وقت الحاجة، وتجاهُـلها أيضا عند الضرورة. ويدخل في هؤلاء الذين يُـصرّون على منع الجامعة من الحصول على مُـخصصاتها المحدّدة، ويقفون موقف الرافض لأي تعديل كان في آليات عمل الجامعة.
والموقف الثاني، الوسطيون، وهم من يقولون بالإصلاح علنا، ويطالبون بالحدّ منه في الآن نفسه، وهم أنصار نظرية الإصلاح المتدرّج والجزئي، ولديهم في ذلك حجة فلسفية، قوامها أن من الضرورة استيعاب التغييرات خُطوة بخُطوة، وترك مساحة زمنية لهضم ما يتم التوصل إليه في لحظة ما، ويرون أن جُـزءا من الإصلاح يكون بتفعيل المؤسسات الموجودة بالفعل، وليس باستحداث مؤسسات جديدة يتطلّـب قيامها وعملها موارد مالية إضافية. وقسم من هؤلاء لا يضعون أولويات مُـعيّـنة للإصلاح، ويُـصرّون عليها، ويتركون الأمر برُمّـته إلى التوازنات الكُـلية، الموجودة داخل الجامعة. وباختصار، فإن هؤلاء مع أي إصلاح، شريطة أن يتوافق مع مصالحهم الذاتية أولا.
أما الثالث، هم الهيكليون، أي أنصار الإصلاح الهيكلي، وهؤلاء قليلو العدد جدّا، ويرون أن الجامعة بحاجة إلى عملية مُـراجعة شاملة، سواء تفعيل ما هو قائم، أو إلغاء وتغيير بعضه، أو استحداث آليات ونُـظم عمل جديدة أو مؤسسات جديدة مُحددة المهام والوظائف والصلاحيات. وهؤلاء، يأخذون على الجامعة أنها ليست منظمة إقليمية، وإنما مجرد مظلّـة معنوية يمكن بكل سهولة التهرُّب من التزاماتها دون عناء أو دفع أي ثمن.
هذه الاتجاهات الثلاثة تتفاعل فيما بينها، سياسيا وإعلاميا، لكنها تظل عاجزة عن التقدم من خانة التمني إلى خانة الفعل الجاد. وهنا، تبرز قاعدة الإجماع التي يتمسّـك بها الصغار وبعض الكبار، ويرون أنها قارب النّـجاة لهم من الخُضوع إلى إرادة التغيير والتطوير. فهي قاعدة المساواة في غير محلّها، وقاعدة التحفّـظ والرّفض التي تُـعطل كل شئ.
وإذا ما قدّر للجامعة أن تعرف آلية تصويت تقوم على الأكثرية البسيطة أو النسبية، حسب نوعية الموضوعات، فالكثير من معادلات إصلاح الجامعة يمكن تفعيلها على الأقل. فهؤلاء الذين سيُـشكلون أغلبية، سيمكنهم تمرير قرارات مُـلزمة لمن يرغب. وليبقى رافضو الإصلاح في مواقعهم كيف شاءوا.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.