إضراب مدرسين أم ثورة نقابية؟
يمثل إضراب أساتذة التعليم الثانوي المستمر منذ 8 أسابيع في الجزائر مشكلة مركبة للحكومة باعتباره ممرا للمزيد من الإنفاق العام الذي يُرهق الميزانية.
غير أن الإضراب كشف عن تراجع قبضة الإتحاد العام للعمال الجزائريين والسلطات على الطبقة العاملة وما قد يترتب عنه تدهور حظوظ الرئيس الجزائري للفوز بعهدة رئاسية ثانية.
لم تتوقع الحكومة الجزائرية، أن تكون شعبية النقابات المستقلة لعمال التربية، أكبر من شعبية نقابة الاتحاد العام للعمال الجزائريين الموالية لها، الأمر الذي تسببب في إخفاق رئيس الحكومة في رسم استراتيجية واضحة المعالم، تمكنه من توقيف إضراب الأساتذة من ناحية، ومن تجنب دفع ملايين الدولارات إلى الأساتذة الغاضبين، من جهة أخرى، كي ينجح في ضمان توازن الإنفاق الحكومي، الذي شكل هدفا ثابتا للحكومات الجزائرية المتعاقبة، لدرجة أنه أصبح المثال الاقتصادي الأوحد، الذي يجب أن يقتدي به كل مسؤول جزائري.
من الناحية النظرية، تمثل النقابات الداعية للإضراب العام، كل التوجهات السياسية التي لا تريد الحكومة أن تراها تنشط أمام الرأي العام الجزائري، أو التي تسعى إلى تقزيمها داخل الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الموالي لها، بحيث يُصبح العمل النقابي، مجرد خطابات إيديولوجية، تنتهي بقرار رئيس النقابة، سيدي سعيد، بتأييد الحكومة ورئيس الجمهورية على سياستهما الاقتصادية الموفقة.
غير أن مثل هذه الحيل، لم تعد لتنطلي، على الجيل الجديد من النقابيين، لسبب بسيط جدا، يتلخص في فشل الحكومة الذريع في الإيفاء بالحاجيات الاقتصادية للعمال، وخاصة من خلال تبنيها لفلسفة “الأجور المتدنية” التي تتبعها السلطات منذ استقلال البلاد عام 1962.
نهاية مرحلة؟
وتمثل الأجور المتدنية، حالة نادرة جدا، في بلد بترولي مثل الجزائر. فالأستاذ سواء كان جامعيا أو غير جامعي، لا يتعدى دخله المائة وخمسين دولارا (150 دولار) ولا توفر له الحكومة لا المسكن و لا وسائل النقل، ثم تريد منه أن يدرّس بكل ما أوتي من قوة، في مخالفة صريحة لأبسط حقوق العمال المتعارف عليها دوليا.
في نفس الوقت، يمثل إضراب أساتذة التعليم الثانوي، ثورة في مفاهيم العمل النقابي، وحركة في الاتجاه الذي لا تريده الحكومة، وهو وعي الطبقة السياسية والعمال وطلبة الجامعات، بحقهم وواجبهم في العمل النقابي ضمن توجهاتهم الفكرية، أي أن فترة الفراغ التي عاشتها الجامعات الجزائرية، طيلة اثني عشر عاما، قد شارفت على الانتهاء، لأن النقابات التي أعلنت الإضراب وطالبت بحقها تنتمي إلى ثلاث تيارات فكرية تتراوح بين اليسارية والإسلامية والوطنية.
فهناك نقابة أساتذة التعليم الثانوي، في العاصمة الجزائرية، اتجاهها يساري محض وتدافع عن مصالح عمال التربية والتعليم بشراسة يرفضها الرئيس الجزائري، الذي وقع في ورطة أخرى، تتمثل في النقابة الوطنية لعمال التربية والتعليم، التي يتقاسم النفوذ فيها، الوطنيون والإسلاميون، وكلاهما متفق على رفض وصاية الاتحاد العام للعمال الجزائريين، التابع للحكومة.
وقد جلبت هذه التطورات، مصاعب جمة للرئيس الجزائري، الذي وجد نفسه بسبب رفضه رفع أجور الأساتذة، وجها لوجه أمام مصالح الأمن، التي اتهمته، بإحياء بعبع النقابات الإسلامية، التي هددت مصير الاتحاد العام للعمال الجزائريين، قبل عشرة أعوام، عندما كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ حزبا سياسيا مشروعا.
كما أظهر إضراب الأساتذة لا مبالاة المعلمين بتهديدات رئيس الوزراء (رغم جديته في ما يعرف بالعقوبات القذرة) أن تغيرا كبيرا تشهده الجزائر في ميدان العمل النقابي، سيكون له الأثر الكبير على طريقة تحرك الجامعات الجزائرية ومراكز صنع الأفكار والتوجهات الاجتماعية الكبرى.
“سباحة ضد التيار”
المثير في هذا الوضع، أنه جاء في وقت، لا يريده الرئيس الجزائري، الذي يفضل جوا سياسيا هادئا، يمكنه من الفوز بعهدة رئاسية ثانية من دون مشاكل؛ غير أن توالي التطورات، من قبيل النقابيين المستقلين، أو الرافضين التصفيق للرئيس لمجرد أنه رئيس، قد يصيب بوتفليقة، بخيبة أمل كبيرة، لأنه ينتمي إلى جيل يرى في النقابات وإن تعددت، شكلا من أشكال التنظيمات الأهلية، التي تعمل لصالح رئاسة الجمهورية، ولا تهتم بمصيرها المهني.
لم يبق غير أربعة أشهر كي تنظم الانتخابات الرئاسية، ولن يستفيد بوتفليقة على الأرجح من أي دعم نقابي، لأن الكثير من العمال والأساتذة الجزائريين تأثروا في الفترة الأخيرة بطريقة عمل زملائهم في أوربا من خلال ما تبثه القنوات الفضائية، من تحركات نقابية لم يعهدها الكثير من الجزائريين، مثل نقابات الشرطة والدرك وموظفي وزارة الداخلية والخارجية.
وبسبب هذا الوضع المثير، لا ينتظر من رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، سوى المزيد من التشدد في مواجهة الأساتذة المضربين، لأن الرضوخ لمطالبهم، سيعني الموت السياسي السريع لبوتفليقة، الذي يريد الفوز بعهدة رئاسية ثانية، ولرئيس الحكومة أحمد أويحي، الذي يطمح للفوز برئاسة الجمهورية، بعد العهدة الثانية التي يسعى إليها رئيس الجمهورية الحالي.
و من المنتظر أن ترتكز استراتيجية بوتفليقة وأويحي، على تسليط أشد العقوبات على الأساتذة المضربين، وقد لا يمثل هذا السلوك أحسن حل، لمواجهة الإشكال، لأنه يُشبه السباحة عكس التيار، وقد يعني في حالة فوز بوتفليقة بعهدة رئاسية ثانية، مواجهة أخرى لغضب العمال والأساتذة.
تحولات هائلة؟
في نفس الوقت، يمثل صمت الاتحاد العام للعمال الجزائريين طيلة الأزمة الحالية بداية النهاية لأكبر تجمع نقابي استفادت منه الحكومة منذ أزيد من أربعين عاما، هي عمر استقلال البلاد عن فرنسا الاستعمارية.
وبعيدا عن أبجديات فكر المؤامرة، الذي يستند على فكرة أن الجيش الجزائري، يقف وراء الإضراب لإزعاج الرئيس الجزائري، لا يمكن بأي حال، تصور صحة تصور كهذا، لأن المؤسسة العسكرية في حد ذاتها، لم تتعود على تعدد النقابات، وعلى وجود فاعل لتيارات سياسية ترفض وصاية اصحاب القرار، لأن المواجهة في الشوارع والمؤسسات التعليمية لن يقوم بها سوى رجال الشرطة وقوات الدرك التابعة لوزارة الدفاع.
كما أن رفض أولياء التلاميذ تعويض الأساتذة المطرودين بطلبة الجامعات المتخرجين حديثا، يمثل تحديا كبيرا لأحمد أويحي، الذي لن يقدر على مواجهة ما قد يتحول إلى غضب شعبي عارم، قد يُترجم عن نفسه في إلى أعمال عنف صاخبة في الأيام القادمة.
ولن يكون اللقاء بعدها سهلا بين الرئيس الجزائري والمؤسسة العسكرية التي تسـرّب في الأيام الأخيرة أنها تحتقر أسلوب عمل المدنيين في الرئاسة الجزائرية لأنه لا يستند إلى العلمية في التحليل والواقعية في التعامل مع الأمور.
أما كيف ستصبح الجزائر، بعد أشهر قليلة من هذه التحولات الفكرية والإجتماعية الهائلة، فلن يعرف إلا بعد التعرف على رد فعل أصحاب القرار، مدنيين وعسكريين، الذين رأوا بأم أعينهم كيف فشلت محاولات احتواء أو تفريق صفوف المضربين، وكيف أن الخطط التقليدية لتكسر وحدة الخصوم واجهت فشلا ذريعا قد يدفع مراكز التعامل مع الجماهير إلى التفكير بطرق أخرى لمواجهة الغضب الشعبي المتنامي.
هيثم رباني – سويس إنفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.