إلى أين يسير العراق؟
بعد مرور مائة يوم على إجراء أول انتخابات تعددية في العراق الجديد، كيف يمكن أن نقرأ الأوضاع العامة في العراق؟
السطور التالية تتضمن محاولة للإجابة على هذا السؤال من خلال مفردات الواقع العراقي ومعطياته على الأرض.
من المفيد أولا الإشارة إلى خفوت تلك الهالة الإعلامية التي رافقت إجراء الانتخابات وتلتها، إذ ما عاد أحد اليوم يذكر قصّة تلك الملايين التي خرجت “مُـتحدية الإرهاب والسيارات المفخخة وحملات التكفير والتخوين المتبادلة” لتُـدلي بأصواتها في انتخابات الجمعية الوطنية، بعد أن فرضت الوقائع اليومية الدامية على الأرض واقعا جديدا اكتسب حضورا إعلاميا شديدا.
والواقع أن لخفوت تلك الهالة وتضاؤل ذلك البريق أسبابه، وفي المقدمة منها التدهور الأمني والصراع السياسي، وتردي الخدمات والفساد الإداري الذي تزكم رائحته الأنوف، حيث كان كثيرون ينتظرون من الجهات الفائزة في الانتخابات استثمار ذلك الفوز وتحقيق مكاسب سياسية لصالحها، في أقل تقدير، من خلال الإسراع بتشكيل الحكومة والبدء بتحسين الوضع الأمني، ومعالجة النقص الكبير في الخدمات ومعاقبة المفسدين الذين استباحوا المال العام في العراق الجديد.
إلا أن الصراعات السياسية والبحث عن المصالح الشخصية، والسعي إلى تحقيق البرامج الحزبية على حساب البرامج الوطنية حال دون ذلك كله، وجعل الأوضاع تسير خطوات عديدة إلى الوراء، بعد أن كان مؤملا أن تخطو إلى أمام.
دعوات للقتل والحرب الأهلية
من بين أخطر ما يجري في العراق اليوم ذلك الإعداد شبه المنظم لحرب أهلية، وهو مخطط مدروس تدفع نحو هاويته – برأي كثيرين داخل العراق – شخصيات وأحزاب مشاركة في الحكومة الحالية ومسيطرة عليها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك (مسرحية المدائن) التي عزف عليها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وحزب الدعوة والرئيس جلال الطالباني.
وتأتي في هذا السياق البالغ الخطورة، الدعوات التي صدرت عن الرئيس الجديد جلال الطالباني إلى إشراك الميليشيات الحزبية – تحديدا قوات فيلق بدر والبيشمركة الكردية – في مكافحة المقاومة العراقية، وهي مقترحات تُـفـهـم من البعض على أنها دعوة مفتوحة ورسمية لإطلاق حرب أهلية في العراق، يتصارع فيها أبناء الوطن الواحد ويذبح بعضهم رقاب بعض.
من جهة أخرى، يمكن رصد ما يمكن تسميته “الإعصار المفخخ” الذي عصف بحكومة الجعفري فور إعلان تشكيلها، حيث ارتفعت وتيرة السيارات المفخخة على نحو ينذر بخطر أكيد، وهو على ما يبدو انطلاقة جديدة لحمامات دم يذهب ضحيتها عراقيون أبرياء بالدرجة الأساسية، كما تذهب فيها عناصر التشكيلات الأمنية العراقية المدمجة كليا مع القوات الأمريكية، بعد فترة من السكون ظن كثيرون أنها ناجمة عن “النجاحات” التي أفرزتها الانتخابات العراقية.
في نفس السياق، تزايدت الاعتقالات العشوائية، حتى بلغ عدد المعتقلين العراقيين في المعسكرات الأمريكية أكثر من 17 ألف شخص، حسب الاعترافات الأمريكية ذاتها. وإذا ما قُـرئ ذلك على نحو جيد، فإنه يعني أن نهاية العنف في العراق ما تزال بعيدة، كما أن الأيادي العابثة بالعراق ما تزال حرة طليقة تتدفق عليها الإمكانات والدعم من شتى الجهات ومن وراء الحدود.
كما يعني ذلك أن القضاء على المقاومة الوطنية العراقية (التي لا علاقة لها بالقتل الأعمى أو الإرهاب الطائفي أو الذبح المجاني الذي أصبح يستهدف المدنيين العراقيين يوميا)، لا زال حُـلما بعيد المنال بعد أن شهدت الأيام المائة الماضية تطورا نوعيا في عملياتها، منها على سبيل المثال معارك المدائن (ضد القوات الأمريكية)، وسجن أبي غريب والقائم (التي لا زالت مستمرة إلى حد إعداد هذا التقرير)، من حيث استخدام أساليب المعارك النظامية والكر والفر والمناورة في القطاعات، فضلا عن تطور استخدام أسلوب الكمائن وإعلان الجيش الأمريكي عن إضافة المقاومين العراقيين قدرات جديدة لصواريخ ذات مديات قصيرة سبق استخدامها ضد قواعد أمريكية.
الجمعية الوطنية
على صعيد آخر، عوضا عن أن تكون الجمعية الوطنية ميدانا رحبا للتعبير عن رؤية جديدة تبني العراق وتلملم جراحه، صارت اجتماعات هذه الجمعية – بصرف النظر عن كونها ناقصة التمثيل ومطعون في شرعيتها من كثيرين – ميدانا للمهاترات وصناعة الخلافات وتأجيج الصراعات، ومن ذلك على سبيل المثال الحديث عن أزمة رهائن المدائن المختلقة، وقضايا أخرى تنسج على ذات المنوال، منها قضية مقتل طالب في كلية الصيدلة نظَّـم مظاهرة تأييد لحكومة الجعفري.
ويرى كثير من العراقيين أنه يتحتم على أعضاء الجمعية الوطنية أن يكونوا بمستوى المسؤولية فعلا، وأن يتصدوا للقضايا الأساسية التي تعني العراقي وتحقق له أمنا واستقرارا وخدمات في ظل واقع يتردى يوما بعد آخر.
من جهة أخرى، يشاع أن ثمة مشكلات كبيرة تعانيها هيئة رئاسة الجمعية الوطنية مع اكتشاف تزوير ثمانية من أعضاء قائمة الائتلاف الموحد لشهاداتهم الدراسية، ومع وجود أكثر من ثلاثين نائبا لا يحملون الجنسية العراقية، بل جنسيات أخرى إيرانية وأفغانية وأذرية وباكستانية.
مشاركة السنّـة العرب
سبق الحديث من قِـبل معظم المراقبين للشأن العراقي عن أهمية وحجم السنّـة العرب في القرار السياسي العراقي وفي مستقبل البلاد ككل تاليا، لذا صار لزاما على الأطراف المعنية، وهي تتصدى لمعضلة تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، أن تشرك وجوها سنّـية عربية ليُـقال عنها حكومة وحدة وطنية.
ومما لاشك فيه، فإن العراق أحوج ما يكون في هذه المرحلة إلى حكومة وحدة وطنية، لأن المهام التي يتعيّـن عليها التصدي لها تعني العراقيين كلهم وتمس الوطن في صميمه، بمعنى أنها ليست حكومة الفائزين في الانتخابات وحدهم، إلا أن الجهود المبذولة في هذا الصدد قاصرة بحق، وهو ما يعني بنظر محللين أن الدكتور إبراهيم الجعفري لم يكلف نفسه عناء البحث عن الوجوه السُـنية العربية الحقيقية – وهو يعرف أين يجدها – بل ذهب إلى هيئات ومسميات لا تمثل السُـنة العرب “إلا بالاسم فقط” حسب رأيهم.
لقد ساهم هذا التوجه في إضفاء مزيد من التعقيد على المشهد السُـني العربي على ما فيه من غموض وتوزع، بل وشرذمة أيضا، وساهم في إضعاف الصوت السُـني بدل تقويته، وبذلك يمكن القول أن التجاذبات السُـنية مع القوى الأخرى في الجمعية الوطنية عمـَّقت الأزمة بدل حلِّها، ومع أننا لسنا في وارد مناقشة واقع السُـنة العرب وتوزعهم على هيئات وجماعات، فلذلك مكان آخر، إلا أنه يمكن القول أن هذا الواقع ساهم في زعزعة الموقف السُـني أيضا، الأمر الذي منح الأطراف الأخرى فرصة العزف على هذا الوتر.
ويمكن القول بكل تأكيد أن تمثيل سُـنة عرب في الحكومة الانتقالية لا يمكن أن ينهي العنف الدائر في العراق، لأن جماعات العنف لن ترضى بهذا الإجراء كما أن جماعات المقاومة الوطنية لن يقنعها وجود شخصيات تنتمي إلى الطائفة السُـنية لتُـنهي مقاومتها للاحتلال والعاملين معه.
فهذه الجماعات حسمت أمرها وبلورت مشروعا وطنيا لا يقبل بأقل من جدولة انسحاب القوات الأجنبية من العراق، وإجراء انتخابات حقيقية بعيدا عن الإرهاب الفكري والعسكري، وفي إطار مراقبة دولية من جهات معترف بحيادها بعيدا عن الطرف الأمريكي، وهو بيت الداء في العراق اليوم، بل أن ثمة مراقبين يرون أن محاولات إشراك السُـنة العرب في الحكومة الانتقالية ليس إلا فخا نُـصِـب لهم، بما يجعل من المواقف الوطنية التي نادى بها رموز من هذه الطائفة محض هباء، ويحصر مطالبهم بعدد مقاعد في حكومة ليس لها من الأمر شيء، فالموقف من الاحتلال ونتائجه هو الأساس، وكل ما عدا ذلك، تفاصيل يمكن التفاهم بشأنها.
ومع أن مثل هذه الآراء تنطلق من نظرية المؤامرة الشهيرة، إلا أن ثمة وقائع على الأرض تساندها فعلا، إذ ليس المهم – وطنيا – عدد المقاعد التي تُـخصَّـص لهذا الطرف أو ذاك، بل المهم أن يحكم الموضوع برمته معيار الوطنية والكفاءة والنزاهة والإخلاص لخدمة العراق.
ماذا بعد؟
إذا كان هذا كشف حساب الأيام المائة التي تلت انتخابات مطلع العام الحالي العراقية، فكيف يمكن أن يسير العراق إذن في الأشهر القادمة؟ يمكن القول بثقة أنه لا يمكن لأي حكومة أن تنجح في العراق إلا بالمقوِّمات الأساسية التالية:
1. اعتماد برنامج وطني للتحرر والاستقلال والبناء.
2. إشراك كل العراقيين في رؤية وطنية شاملة بعيدا عن محاولات التهميش والإقصاء والاجتثاث والتصفيات الثأرية.
3. الابتعاد عن مخططات الحروب الطائفية والفتن العرقية، وسياسات المحاصصة التي أكّـد معظم العراقيين رفضهم القاطع لها.
4. إطلاق سراح المعتقلين من الأبرياء الذين تمتلئ بهم سجون الاحتلال والتشكيلات الأمنية الحكومية الجديدة.
5. عودة القوات المسلحة العراقية وبنائها بعيدا عن الطائفية والعرقية والتسييس البغيض.
6. تفكيك الوجود الاستعماري في العراق ومحاصرة مخاطره وآثاره، وهو واحد من أخطر وأعقد المهام الوطنية.
فهل تنسج حكومة الدكتور إبراهيم الجعفري على هذا المنوال، أم أن ثمة نساجون آخرون ببرامج غير عراقية، وثمة أنوال أخرى ينسج عليها المستقبل بعيدا عن الوطن وأبنائه؟
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.