إيران وأمريكا: نحو حلقة مفرغة؟
هل حانت ساعة الصفقات العلنية والمباشرة بين إيران وأميركا؟
هذا السؤال الذي كان شبه مستحيل طيلة السنوات الثلاث الماضية حين اجتاحت القوات الأمريكية بغداد وهددت بطرق أبواب طهران، لم يعد كذلك الآن، بعد أن تعثرت قدما واشنطن في بلاد الرافدين وباقي أنحاء الشرق الأوسط.
أوراق التفاوض باتت الآن فوق الطاولة، وهذه المرة بتصفيق حماسي (وإن متباين) من الطرفين.
إيرانياً، انطلقت الإشارات الأولى لهذا التطور مع رسالة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى الرئيس الأمريكي بوش التي، وبرغم لهجتها الخطابية المعادية للسياسات الأمريكية، فهمت بعد حين في العاصمة واشنطن كما يجب أن تُفهم: استعداد إيراني صريح للتفاوض مع “الشيطان الأكبر” علناً وللمرة الأولى منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
أمريكياً، بدا خلال الأسبوعين الماضين أن وجهة النظر الداعية إلى استخدام الجزرة الاقتصادية قبل تحريك العصا الدبلوماسية والعسكرية، إضافة إلى العصا الاقتصادية، تغلبت على وجهة نظر الصقور بقيادة نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الداعية إلى مواصلة عملية الخنق والحصار.
نقطة انطلاق التوجّـه الأول هي التجربة الأمريكية الناجحة مع ليبيا، والتي أدّت إلى حمل العقيد معمر القذافي على التخلي عن برامج أسلحة الدمار الشامل مقابل ضمانات بالمحافظة على حياته وحياة نظامه.
كما ثمة نقطة انطلاق ثانية: بدء الحديث العلني الأمريكي عن إمكانية منح الكوريين الشماليين ضمانات مماثلة (مشفوعة بالعديد من الجزرات الاقتصادية) مقابل وضع برنامجهم النووي على الرف.
وتنسب “كريستيان ساينس مونيتور” إلى داريل كامبل، المدير التنفيذي لمنظمة حظر التسلح الأمريكية قوله: “واشنطن تعلمت الدرس في ليبيا، وهو أن أكثر الطرق فعالية لإقناع دولة ما بنزع سلاحها، هي تقديم ضمانات لها بأن نظامها باق، وهذا الدرس يجب أن يطبق الآن على إيران”.
رد الصقور
لكن مهلاً: برغم أن لغة الحوار بدأت تطل برأسها في أمريكا، إلا أنه ليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا التطور قد برّد بالفعل الرؤوس الحامية في الإدارة الأمريكية، كديك تشيني ودونالد رامسفيلد، وإلى حد ما كوندوليزا رايس، التي تتمسّـك بمفهوم “تغيير النظام” بالقوة، بوصفه الوسيلة الأمثل والأسرع لحسم الأمور مع “الدول المتشردة”.
هذا الفريق، المدعوم بقوة من شركات النفط وصناعة الأسلحة العملاقة، يركز على نقطتين رئيستين اثنتين:
الأولى، أن القذافي لم يستسلم لأنه تلقى ضمانات، بل تلقى ضمانات لأنه إستسلم، وبكلمات أوضح: العقيد كان واثقاً بأن رأسه سيكون الثاني على المقصلة بعد صدام حسين، ولذلك فضّـل التفاوض على شروط الاستسلام.
والثانية، أن إيران ليست ليبيا ولا حتى كوريا الشمالية. فأي ضمانات تقدم لها قد تؤدّي إلى تعزيز مواقعها الإقليمية في مناطق النفط الخليجية والقزوينية، الأمر الذي سيشكل تهديداً للمواقع الجيو – إستراتيجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط الكبير والعالم، وهو تهديد سيصبح أخطر، إذا ما استمر الغزل الراهن بين طهران وبين موسكو وبكين عبر “معاهدة شنغهاي”.
وبالتالي، يتعيّن وفق وجهة النظر هذه، مواصلة العمل على خنق إيران اقتصاديا ودبلوماسياً، مع إبقاء المسدس الأمريكي موجهاً دوماً نحو صدغها.
ثمة “جديد ما” في واشنطن..
لمن ستكون الغلبة في هذا الجدل في النهاية؟
لا تزال الصورة ضبابية حتى الآن، لكن مجرّد تعالي الأصوات المطالبة بإعادة قراءة رسالة نجاد وفق مقاربة جديدة، تشي بأن ثمة جديداً ما في واشنطن، وهذا الجديد ترجم نفسه بأمرين إثنين:
الأول، الإعلان رسمياً في واشنطن عن الاستعداد لبدء مفاوضات مع طهران، سواء مباشرة أو كجزء من الحوار الذي سيجريه الثلاثي الأوروبي (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا)، مضافاً إليه روسيا والصين، مع إيران حول الحوافز الاقتصادية والنووية لها.
والثاني، تأكيدات إيرانية – أمريكية في آن بدء اتصالات سرية بين الطرفين قد تمهّـد لمفاوضات مباشرة محتملة بينهما.
إلى أين؟ الأمور إذن ابتعدت عن حافة الهاوية التي عسكر فيها الطرفان منذ عام 2003 وبدأت تتّـجه نحو منطقة تفاوض آمنة. لكن التفاوض شيء ووصول هذا التفاوض إلى نتائج محدّدة شيء آخر، مختلف تماماً. فهل يمتلك الحوار، في حال حدوثه، فرصاً ما للنجاح؟ لا يبدو أن الأمر كذلك.
حسابات إيرانية .. وثغرة قاتلة
ما هو السبب وراء ذلك؟ إنه يكمُـن في الفجوة الكبيرة بين مفهوم واشنطن وطهران للحوار وأهدافه ومحصّـلاته المطلوبة.
فطهران تعتقد أنها، وبعد الغرق الأمريكي في مستنقعات العراق، باتت في وضع إستراتيجي ممتاز يخوّلها إبرام صفقة تاريخية مع أمريكا، تشبه تلك التي أبرمها الرئيس نيكسون مع الصين في أواسط السبعينات، إذ أن نفوذها تمدّد بشكل كاسح إلى العراق، ووجودها في الهلال الخصيب ترسّـخ بعد أن ورثت الدور السوري في لبنان، ووصل حلفاء موضوعيون لها إلى السلطة في فلسطين وإلى البرلمان في مصر.
وفوق هذا وذاك، لم تعد هي بالنسبة لروسيا والصين مجرد ورقة تستخدمانها لابتزاز واشنطن، بل أوشكت إن تصبح حليفاً غير معلن لهما لتطويق التمدد الأمريكي قرب حدودهما في آسيا الوسطى.
كل هذه الاعتبارات، مضافاً إليها الفائض الكبير من الأموال التي وفرها ارتفاع أسعار النفط، يدفع طهران إلى الاعتقاد بأنها قادرة على استدراج واشنطن إلى صفقة تاريخية على النمط الصيني، تعترف بموجبها هذه الأخيرة، ليس فقط بشرعية نظام الملالي، بل أيضا وأساساً بدور إقليمي كبير له في كل من منطقة الخليج وآسيا الوسطى – قزوين، إضافة إلى اعتراف آخر، ثقافي هذه المرة (لكنه لا يقل أهمية بالنسبة لطهران) بعظمة الحضارة الفارسية ودورها في التاريخ.
كل هذه الحسابات الإيرانية تبدو واقعية ومنطقية، خاصة وأنها تستند إلى موازين قوى فعلية على الأرض، لكنها مع ذلك، تعاني من ثغرة قد تكون قاتلة: عدم استعداد واشنطن للتعاطي مع إيران على قدم المساواة كما تعاطت من قبل مع الصين والإتحاد السوفييتي، ورفضها القاطع، من ثم، قبول إيران كشريك إستراتيجي لها في النظامين الإقليميين في الخليج والشرق الأوسط أو حتى في نظام آسيا الوسطى – قزوين.
متى يمكن أن تتخلى واشنطن عن هذا الرفض القاطع؟ ليس الآن ولا غداً ولا بعد مائة عام. فما هو في الميزان بالنسبة لها لا يقل عن كونه مصير الزعامة العالمية الأمريكية المرتبط بشكل عضوي بمصير حقول النفط الخليجية، المناسبة الوحيدة التي يمكن بموجبها لواشنطن أن تقبل بالدور الإيراني، هي تعرضها إلى هزيمة ماحقة كتلك التي حدثت لها في الهند الصينية، وهذا ما لا يبدو وارداً.
ماذا إذن؟ كيف سيتفاوض الإيرانيون والأمريكيون إذا ما تفاوضوا؟ ببساطة كالأتي: الإيرانيون سيسعون دوماً لتحويل هذه المفاوضات إلى صفقة إستراتيجية على النمط الصيني، فيما الأمريكيون سيحرصون دوماً على إبقائها في إطار الصفقات التكتيكية على نمط الصفقات المنعزلة في إيران – كونترا، وأفغانستان – كونترا، والعراق – كونترا!
ولأنه سيكون من المستحيل مطابقة التطلعات الإستراتيجية الإيرانية مع الشروط التكتيكية الأمريكية، سيبقى الحوار بين الطرفين يدور في حلقة مُـفرغة من التهدئة والتّـصعيد، إلى أن تقود لعب حافة الهاوية إلى مرحلة حسم ما.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.