اتهامات أوكامبو للبشير.. أهداف آنية وأخرى بعيدة
سيدخل يوم الرابع عشر من يوليو 2008 التاريخين السوداني والعربي فى آن واحد، حيث يحمل سابقة أولى ربما تفتح الباب لحالات عربية أخرى مستقبلا.
فقد قدم المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية عريضة اتهام بحق الرئيس السوداني عمر البشير بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية فى إقليم دافور ضد سكانها من الفور والمساليت والزغاوة، مستخدما فى ذلك ـ حسب الاتهام ـ جهاز الدولة بأكمله وتحت مبرر مواجهة التمرد فى الاقليم.
عريضة الاتهام المعلنة ذات كلمات مرسلة، وحتى شرح أوكامبو على الخرائط التى أوردها فى مؤتمره الصحفى بدا ضعيفا، وبعيدا عن مهنية القانونيين المحترفين، وتأكيده على على كون البشير رئيسا وأصدر أوامره مما يوفر حجة عليه، بدا غريبا على المسامع.
أما تأكيداته بأن البشير وجه أوامره لقمع التمرد على أسس عرقية فقد بدت غير منطقية نظرا لأن السودان كله عبارة عن عرقيات ولهجات واثنيات مختلفة، متداخلة مع بعضها البعض، تتشاحن احيانا وتتصالح أحيانا أخرى وفقا للظروف والمواقف. والغريب أن يُعتبر قيام المسؤول الأول فى البلاد برد التمرد المسلح ضد الدولة أمرا جنائيا يتطلب المحاكمة.
وكان مثيرا للشفقة أن تخلو الإتهامات من أسماء قادة التمرد الذين يعرف القاصى والدانى أنهم مسؤولون عن جرائم فظيعة بحق أهل دارفور ولحسابات مصالح ذاتية بحتة، بيد أنهم مشمولون حسبما يبدو برعاية دولية وأممية باعتبارهم “رأس حربة ضد السودان ووحدته الاقليمية” حسب رأي كثيرين. وإجمالا بدا المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية غير مقنع لمن يسمعه.
أهداف تحققت فورا
غير أن ضعف عريضة الاتهام وفقا للمعلن، لا يعنى أنها لم تحقق هدفها المباشر، فحتى قبل أن يقول أوكامبو كلمته ويوضح هدفه المباشر فى اتهام البشير دون غيره من المسؤولين السودانيين أو قادة التمرد المسلح، وحين كانت هناك مجرد تسريبات صحفية متعمدة قبل ثلاثة ايام، فقد بدأت التداعيات فى التبلور تباعا.
ولا يهم هنا كلمات وتصريحات الرفض والشجب والتحذير التى أطلقها مسؤولو الاتحاد الافريقى والجامعة العربية والسودان نفسه، وإنما المهم أن الاتهام حقق هدفه الاولى فى تلويث سمعة ومكانة الرجل الاول فى السودان، والذى بحكم منصبه الدستوري ورئاسته لعدد من المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية، فضلا عن رئاسته لحزب المؤتمر الحاكم، بات متهما وعليه أن يثبت العكس، وهذا فى حد ذاته أمر شاق إن لم يكن مستحيلا.
مجرد تلويث السمعة هذا من شأنه أن يلقى بظلاله على الرجل وتحركاته المقبلة فى الداخل أو فى الخارج. ففى الداخل مثلا سيكون هناك حرج فى أن يُنجز التحالف المزمع بين حزب الرئيس البشير والحركة الشعبية فى الانتخابات المقبلة، والتى كانت الدلائل الكتوفرة تشير إلى أنه (أي التحالف) إذا ما تم فسيكون الفائز رقم واحد بلا منازع سواء فى الشمال أو الجنوب.
مثل هذا الحرج سيدفع قادة الحركة الشعبية، الذين يضعون أعينهم قبل أي شئ على البوصلة الأمريكية، إلى التريث ليس فقط فى التحالف الإنتخابى بل ربما فى عملية السلام برمتها. ولذا لم يكن غريبا على مسؤولين سودانيين من الجنوب أن يروا أن السودان “ليس أمامه سوى التعاون مع المحكمة الجنائية”، وهو تعبير مهذب يعنى أن يقدم البشير نفسه على طبق من ذهب لكى يحاكم جنائيا ودوليا لمجرد أنه واجه التمرد المسلح وفقا لمتطلبات منصبه القانونية والدستورية.
حشر العملية الديموقراطية
ولذا حين يقول البعض أن هدف هذه الاتهامات المرسلة هو التأثير على العملية الديموقراطية المصممة وفقا لاتفاق نيفاشا للعام 2005 وحشرها فى ركن محدود، فهو يبدو صحيحا إلى حد كبير، كما يبدو صحيحا أيضا أن من بين النتائج المرجحة – لاسيما إذا استمر موقف الحركة الشعبية على النحو المشار إليه – هو نسف عملية السلام من أساسها فى الجنوب والتى، رغم الصعوبات التى تكتنفها، فقد أخذت تخط لنفسها مسارا واثقا وقابلا للتطور حتى النهاية بصورة سلمية وأقل كلفة من البدائل المحتملة الآن، أي العودة الى حرب مجنونة ستطيح حتما بكل شئ، سواء فى الشمال أو فى الجنوب.
والمؤكد هنا ان طريقة تعامل الحركة الشعبية مع هذه الإتهامات سيوضح إلى أي مدى تلتزم الحركة بفكرة السودان الموحد طواعية، أو حتى السودان المنفصل سلميا، شماله عن جنوبه وفقا للإجراءات الواردة فى اتفاق نيفاشا الذي وضع حدا للحرب الطويلة في الجنوب.
تشجيع التمردات المسلحة وفظائعها
الرسالة الأخطر فى اتهامات أوكامبو، والتى خلت من أى إشارة سلبية لما قام به المتمردون أنفسهم (سواء فى حق الدارفوريين أو فى حق موارد الاقليم أو فى مواجهة عدد من مؤسسات الإغاثة الإنسانية التى كانت تُسرق مواردها وتُهاجم قوافلها من قبل حركات التمرد) تتمثل ببساطة شديدة في أن التمرد المسلح بات عملا مشروعا، وأن رفض الجهود السلمية التى قامت بها مؤسسات إقليمية ودولية مختلفة لا يحمل على توجيه الإدانة للمتمردين، وأن مواصلة هدر الموارد وتوظيف معاناة الناس لصالح جماعات مسلحة، ثبتت علاقاتها مع قوى خارجية لا تريد خيرا للسودان، يمكن الإستمرار فيه بكل اطمئنان.
ويرى مراقبون وخبراء أن هكذا رسالة سوف تفتح أبواب الفوضى ليس فى السودان وحسب، بل فى دول افريقية أخرى عديدة لأنها – ببساطة شديدة ودون أي شعور بالمسؤولية – ستقوى نزعات التمرد المسلح سواء عن حق أو عن باطل فى أكثر من مكان وموقع فى القارة السمراء.
ومن الممكن أن يتصور المرء أيضا أن بعض القابضين على زمام السلطة في العديد من البلدان الإفريقية، والمفترض أنهم يحمون البلاد والعباد ويواجهون أي تمرد باعتباره واجبا دستوريا لا مفر منه، قد يرون أن تلك المواجهة قد تحمل لهم اتهامات جنائية دولية ومحاكمات تلويث للسمعة لا يقدرون عليها. والنتيجة المؤكدة: فوضى مهلكة، ولن تفيدها أي محاكمات.
تسييس القضاء الدولى
يفتح الإتهام الذي وجهه المدعي العام أوكامبو، حتى وإن لم تقبله هيئة قضاة المحكمة لاحقا، الباب أمام قضية تسييس جهاز قضائى دولى لأغراض لا علاقة لها بأصل القضية، ناهيك عما هو معروف من سياسة الكيل بمكيلين وثلاثة وحتى أربعة مكاييل، لاسيما إذا تعلق الامر ببلد عربى أو إسلامى.
مثل هذا التسييس ليس جديدا في حد ذاته، ولكن الجديد هنا يتعلق بجهاز قضائى دولى، ناشئ عن معاهدة دولية، تفترض أن لا ولاية لها أو اختصاص غلا لمن يقبل بها ويصبح عضوا بها. والسودان كما هو معروف (على غرار جميع الدول العربية باستثناء الأردن وجيبوتي وجزر القمر) ليس عضوا بمعاهدة روما المنشئة لهذه المحكمة الجنائية الدولية، فكيف يمكن ان يخضع لاختصاصها؟ الجواب يكمن فى التسييس وفى الخروج عن اعتبارات المهنية القانونية الصارمة، وفى توظيف المنظمات الدولية لخدمة اغراض أبعد كثيرا من مجرد البحث عن العدالة المجردة.
لقد وقف بان كى مون، سكرتير الامم المتحدة معلقا على اتهامات اوكامبو بالقول “إن السلام والعدالة متلازمين، وأن أحدهما لا يُغنى عن الآخر، بل يقوى به”. وهو قول صحيح فى أسسه، ولكنه بعيد عن واقع ودور الأمم المتحدة نفسها، فحالات انتهاك حقوق الانسان وجرائم الحرب موجودة ومعروفة وموثقة وتشاهد صباح مساء (فى فلسطين المحتلة وأفغانستان والعراق وفى معسكر غوانتانامو الامريكى، إضافة إلى العقوبات الشاملة والحصار الذى تتعرض له كوريا الشمالية وما سببه لها من مجاعات فى السنوات الماضية، ومن قبل حصار كوبا لمدة تزيد عن خمسين عاما)، ولم يسمع أحد أن الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية قد قالت مجرد كلمة واحدة لا عن السلام ولا عن العدالة.
تفتيت السودان
في هذا السياق، يعتبر المراقبون والخبراء المتابعون للشأن السوداني والإفريقي أن هذا التغاضى عن جرائم حرب وضد الانسانية مؤكدة (القائمون عليها معروفون بالاسم)، والتركيز في الوقت نفسه على قضية بعينها وفى بلد بعينه وبمنظور غير منصف، يعنى أن الأمر يتعلق بحالة أخرى من تسييس ما لا يجب تسييسه، وأمام تطورات كاشفة لخطط بعيدة المدى، وتطبق عبر أدوات وآليات مختلفة، قد يكون هدفها الرئيسى تفتيت السودان وإعادة تشكيل منطقة وسط أفريقيا والقرن الإفريقى بما يخدم استراتيجيات قوى عظمى، فى مقدمتها الولايات المتحدة.
هذا التفتيت – إن حدث بالصورة التى باتت تتجمع عناصرها رويدا رويدا – فسوف يؤدي إلى انقلاب أوضاع أفريقيا رأسا على عقب، وساعتها سيتحول المتمردون والمغامرون والأفاقون والساعون إلى أحضان القوى الكبرى وعلى رأسها واشنطن إلى سادة الموقف في بلدانهم رغما عن أنوف شعوبهم، وليذهب بعدها استقرار وتنمية افريقيا إلى الجحيم، وليجوع العرب الذين تحركوا أخيرا لكى يجعلوا من السودان سلة غلال لهم وللآخرين فى وقت يعز فيه القمح الغربى والأمريكى على من يريده، حتى ولو كان قادرا على دفع ثمنه كاملا.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
امستردام (رويترز) – ربما لن يتم تسليم الرئيس السوداني بسرعة لأيدي العدالة الدولية لكن مصير القادة السابقين لليبيريا ويوغوسلافيا السابقة يشير إلى أنه ربما لن يفلت من قبضة القانون إلى ما لا نهاية.
واتهم ممثل ادعاء المحكمة الجنائية الدولية الرئيس السوداني عمر حسن البشير يوم الاثنين 14 يوليو 2008 بالتخطيط لحملة للابادة الجماعية في دارفور بما في ذلك قتل 35 الف شخص وطلب من القضاة اصدار أمر اعتقال بحقه. ويقول نيك جرونو من المجموعة الدولية لمعالجة الازمات “من المستبعد بشدة أن ينتهي الامر بالبشير في قاعة محكمة في أي وقت عما قريب”.
ولهذا الاتهام الذي صدر الان دلالة رمزية للغاية على الاقل في السودان ان خيرا وان شرا. فالبشير يحكم قبضته على السلطة وربما يسعى الى استخدام تدخل المحكمة الجنائية الدولية لتعزيز الدعم. والمعارضون من المتمردين من جانبهم يقولون ان الاتهام سيعضد المقاومة.
والبشير هو أول رئيس دولة توجه له المحكمة الجنائية الدولية اتهاما وهو في منصبه منذ رئيس ليبيريا تشارلز تيلور والرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسيفيتش وكلاهما نقل الى لاهاي في نهاية المطاف. وتوفي ميلوسيفيتش قبل اصدار حكم في محاكمته التي استمرت أربعة أعوام.
لكن موقف البشير يختلف اختلافا كبيرا عن ميلوسيفيتش وتيلور. فهو يحكم قبضته بقوة اكبر على مقاليد السلطة كما أن هؤلاء الذين يمكن أن يسلموه للاهاي تفصلهم عنه مسافة كبيرة. وقال جرونو من المجموعة الدولية لمعالجة الازمات “ليس هناك احتمال حقيقي بأن تتم الاطاحة بالبشير عما قريب”.
غير أن سليمان صندل نائب رئيس أركان حركة العدل والمساواة المتمردة وهي أقوى حركة عسكريا في اقليم دارفور قال ان الخطوة التي اتخذها ممثل الادعاء ستساعد في تشجيع التغيير.
ومضى يقول “نحن في حركة العدل والمساواة نضع كل قوانا في خدمة المحكمة الجنائية الدولية للمساعدة في تقديمه للعدالة… هذا القرار سيضع البشير في مأزق وسيساعدنا الان في التغلب على هذا النظام”.
وحذر ديكر من هيومان رايتس ووتش بأنه على الرغم من أن جميع الفصائل في السودان ستسعى الى استغلال أي أمر اعتقال لمصلحتها فان البشير يستطيع أن يستغله ايضا لتعزيز الدعم له بتصوير تصرف المحكمة الجنائية الدولية على أنه تدخل أجنبي.
واذا أصدر القضاة أمر اعتقال فمن المؤكد أنه سيقيد البشير مما يجعل السفر الى الخارج بالنسبة للرئيس مستحيلا بشكل خاص ويجعل من الصعوبة بمكان اجراء اتصالات دبلوماسية رفيعة المستوى.
وقالت المحكمة انها كانت تعتزم اعتقال احمد هارون وزير الشؤون الانسانية السوداني المطلوب من قبلها ايضا خلال توجهه لاداء فريضة الحج العام الماضي عن طريق تحويل مسار طائرته لكنه سمع بأمر الخطة وتخلى عن الرحلة.
وحقق ممثلو الادعاء بالمحكمة الجنائية الدولية نجاحا في مايو ايار حين القت السلطات البلجيكية القبض على امير الحرب ونائب الرئيس في الكونجو جان بيير بيمبا بناء على أمر اعتقال أصدرته المحكمة.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 15 يوليو 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.