احتقان طائفي في مصر.. من وراءه ولماذا؟
عاد الهدوء إلى الإسكندرية إثر المظاهرات الغاضبة التي شهدتها مؤخرا احتجاجا على قيام كنيسة بعرض مسرحية اعتبرت مسيئة للإسلام، وصدرت دعوات إلى معالجة جذور المشكلة.
ولعل بداية الحل تكمن في الإعتراف بغياب الحوار المجتمعي الحر والشفاف بين نسيج الأمة حول الإشكاليات الحقيقية أو المتصورة لدى الطرفين.
بالرغم من احتواء المظاهرات الغاضبة التي أحاطت بكنيسة مار جرجس بالإسكندرية، احتجاجا على قيام الأخيرة بعرض مسرحية اعتبرت مسيئة للإسلام، فمن غير الحصافة الاستنتاج بأن حالة الاحتقان الطائفي، التي باتت متكررة المشاهد والتوترات بين الحين والآخر، قد وجدت الحل السحري لها، إذ تظل موجودة كامنة تحت السطح، وتنتظر فرصة أخرى لكي تطل برأسها في قرية هنا أو مدينة هناك.
دورة الاحتقان الطائفي
المثير هنا، أن العقود الثلاثة الماضية دارت على المنوال نفسه، حدث يثير فتنة بين طرفي الأمة، مسلمين ومسيحيين، ثم يحدث احتواء أمني لها، وتثور ثائرة المثقفين وبعض رجال الدين، ويطالب الجميع بالحوار وتطوير الخطاب الديني، وبإفشال مخططات المتربصين بوحدة الوطن وسلامته، والساعين إلى إثارة فتنة وطنية – طائفية تُـطيح به وتضعفه، ثم تهدأ الأمور لتثور مرة أخرى بعد عدة أشهر، ويحدث المشهد ذاته، فيما يعني أن هناك أمرين: أن جذور الاحتقان الطائفي موجودة لم يستطع أن يقتلعها أحد، بل الأرجح أنها تزيد وتتعمق، وأن عمليات إعادة هيكلة حالة المواطنة الشاملة التي تحتوي داخلها التنويعات الفرعية الدينية والسياسية، فشلت فشلا ذريعا، ويقابلها أن حالة الارتداد المجتمعي إلى الهويات الفرعية، سواء الدينية أو المناطقية أو العائلية قد نجحت بامتياز.
وبالنسبة لأقباط مصر، فقد كانت الكنيسة هنا هي البديل عن الدولة والمجتمع الأكبر، وبالتالي، صارت هي المؤسسة التي ترعى دينيا واجتماعيا وفنيا، بل وسياسيا أيضا. ومن هنا، باتت تشكّـل الحماية والملاذ في نظر جموع غالبية من الأقباط، وكأنها هي الدولة البديلة القابلة للتطور إلى ما هو أكبر لاحقا.
دورة الاحتقان
مثل هذا الارتداد إلى الهويات الفرعية، الذي يعكس فشلا سياسيا بالدرجة الأولى، يمثل في الآن نفسه وقودا لاحتقان طائفي ممتد. وإذا نظرنا إلى بعض تفاصيل حالات الفتنة الطائفية السابقة، سنجد دورتها قد مرّت بثلاث مراحل، الأولى كانت نتيجة استخدام الجماعات الإسلامية العنيفة في السبعينات والثمانينات في القرن الماضي ورقة الأقباط كهدف، وذلك كجزء من إستراتيجيتها آنذاك في تأليب المجتمع على بعضه، والضغط على نظام الحكم.
أما المرحلة الثانية، فتعود إلى عشر سنوات مضت، وبدأتها قرية الكشح في صعيد مصر حين تطور خلاف عادي بين بائع ومشتر إلى فتنة بين مسلمي القرية ومسيحييها، وانتهت بمواجهة احتشد فيها كل فريق وبمقتل العديد من الطرفين.
أما المرحلة الراهنة، فتعد الأخطر لأنها ناتجة عن عمليات شحن طائفي وديني متعمد من قبل مؤسسات وجماعات، بعضها ظاهر والآخر في طى الكتمان. والعارفون بالأمور يرون هذه المرحلة الأخطر، لأنها تقبل الانفجار عند أقل سبب.
حادثة السيدة وفاء.. دلالات خطرة
وإذا عدنا إلى ما يعرف بواقعة السيدة وفاء قسطنطين، التي تفجرت في ديسمبر 2004، وهي زوجة قس سعت إلى إشهار إسلامها، ولكن الكنيسة الأرثوذكسية نظمت مظاهرات اعتراض صاخبة في صحن الكنيسة نفسها في قلب القاهرة، وأقامت ما يشبه حملة منظمة من الإشاعات حول ما اعتبرته عمليات “أسلمة” وخطف بالقوة لسيدات مسيحيات، وعن دور مباشر لرجال الأمن ومسؤولين في الحزب الوطني في بعض قرى الصعيد في هذه الحملة المزعومة، ثم ما انتهت إليه هذه الأحداث من تسلم السيدة وفاء، وإعادتها إلى المسيحية، وهي الواقعة التي نظر إليها مسلمون كثيرون، بمن فيهم رجال دين مستنيرين، باعتبارها واقعة تؤسس لعلاقة جديدة بين الكنيسة والدولة والمجتمع ككل، حيث وظفت الكنيسة أدوات ضغط شعبية مباشرة لإجبار الدولة على عدم إكمال إشهار السيدة وفاء إسلامها التي سعت إليه بمحض إرادتها، وعلى تسلمها في إجراء ضد القانون وضد إرادة السيدة نفسها، وهو الأمر الذي حمل غصّـة لدى كثيرين رأوا بأن الدولة خضعت لضغوط الكنيسة، والتي أخذت تستقوى بضغوط خارجية، بل وتوظف ما بات يُـعرف بأقباط المهجر، لإثارة الحساسيات الدينية وتشويه الوحدة الوطنية المصرية لدى القوى الخارجية، بل وذهب البعض في استنتاجاته بعيدا جدا، إلى حد أن الكنيسة تعمل على تدويل “قضية الأقباط المصريين”، لعل ذلك قد يؤدى إلى إقامة دولة مسيحية في صعيد مصر تحت رعاية الكنيسة، أو فرض حصص معينة للأقباط في مجمل النظام السياسي، استنادا إلى ضغوط خارجية تمارَس باسم حرية الأديان.
وكانت الكنيسة قد اعترضت أيضا وبقوة على عرض أحد الأفلام بعنوان “بحب السيما”، باعتباره يُـسيء إلى المسيحية، وذلك على الرغم من أن مخرجه وكاتب قصته كان مسيحيا.
مظاهرات مضادة
ولربما ظلّـت صورة المظاهرات التي رعتها الكنيسة على خلفية مسألة السيدة وفاء ماثلة في أذهان كثيرين، وشكّـلت لهم دافعا عكسيا للقيام بمظاهرات مضادّة حين تسنح اللحظة أو يحدث المثير، والذي تمثل بالفعل في عرض مسرحي خاص بالكنيسة، حمل شُـبهة الإساءة إلى الإسلام، وحمل عنوان “كنت أعمى وصرت بصيرا”، وجاء في مقدمة “القرص المضغوط أو “سي دي” الذي تسرّب إلى الجماهير أن هذا العمل الفني “يحمل مباركة البابا شنودة وقيادات الكنيسة”.
ويحكي العرض قصة شاب مسيحي تحوّل إلى الإسلام، ولكنه وقع في أيدي جماعات متشدّدة كانت تدفعه إلى القتال، مما شكّـل لديه دافعا للعودة مرة أخرى إلى المسيحية باعتبارها دين السلام والتسامح والهدوء والصفاء النفسي، وهو ما فهم على أنه تصوير للإسلام بأنه دين العنف بغير وجه حق.
وهكذا شكّـلت مظاهرات الإسكندرية الصورة العكسية لما جرى في حادثة السيدة وفاء. فالمتظاهرون هذه المرة هم المسلمون، وقاموا لما اعتبروه نُـصرة دينهم. لكن الفارق الجوهري هو أن ما دفعهم للتظاهر لم يكن مؤسسة دينية رسمية، بل مشاعر مؤججة غذتها بعض ما كتب في صحف مستقلة.
وصحيح أن البعض ربط هذه المظاهرات بدور لرجل دين مسلم في أحد المساجد، وآخرون ربطوها بمناخ التنافس الانتخابي وبوجود مرشح قبطي في الدائرة، ومرشحين ينتمون لجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن تفاصيل الوقائع أثبتت أن تحرّك مجموعات من محافظات بعيدة ذهبت إلى الإسكندرية للاحتجاج، ولا شأن لها بمنافسات انتخابية.
تفسيرات عدة
تلكم المشاعر الدينية القابلة للانفجار في مواجهة الطرف الآخر المختلف دينيا، تطرح بالفعل تفسيرات مختلفة، منها غياب الحوار المجتمعي الحر والشفاف بين نسيج الأمة حول الإشكاليات الحقيقية أو المتصورة لدى الذهن الجمعي للطرفين، وعدم فعالية دور رجال الدين الرسميين، لاسيما رجال الدين الإسلامي المنتمين إلى الأزهر مثلا في توجيه مشاعر المصريين نحو مفهوم التسامح، وقبول الآخر والحوار معه بالحسنى، وسطوة الخطاب الديني التقليدي لدى الطرفين، المسلم والقبطي، والمنكفئ على الذات والقائم على رؤية الآخر باعتباره خارج عن رحمة الله، والأزمة السياسية المتمثلة في غياب المشاركة وفقا لأسس المواطنة التي تتجاوز الانتماءات الفرعية، وغياب المعالجة الإعلامية القوية لأحداث الاحتقان الطائفي، وسوء إدراك بعض المؤسسات الدينية لطبيعة العلاقات الدولية الراهنة، وما ينتج عن ذلك من تصور بأن الإستقواء بالخارج قد يضاعف المزايا في الداخل، وغلبة المعالجة الأمنية لحوادث الاحتقان الطائفي باعتبارها تجاوزات قانونية، وتكدير للأمن العام، وليست أحداثا اجتماعية ووطنية كبرى، ناهيك عن ضعف دور منظمات المجتمع المدني الساعية إلى بلورة مفاهيم المواطنة في الوصول إلى قطاعات الشعب العادية.
وربما أضفنا أيضا وجود أصابع خارجية تعمل على توتير العلاقات بين المسلمين والأقباط كجزء من تطبيق إستراتيجية تفتيت المنطقة وبلدانها إلى كيانات طائفية صغيرة بلا حول أو قوة، وتسبح في فلك القوى العظمى دوليا أو إقليميا.
ورغم منطقية تفسير اليد الخفية الخارجية، لاسيما في ضوء الاستراتيجيات المعلنة، أمريكيا وإسرائيليا، إلا أن الداخل وثغراته الكبيرة وتقاعس أبنائه عن حل مشكلاتهم بأنفسهم دون مدد خارجي، تظل هي الأساس، سواء في حل المشكلة أو في تفاقمها.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.