الآلة “الحربية” لحزب الشعب السويسري
بعد نجاحه في إقناع غالبية الناخبين السويسريين برفض تسهيل إجراءات منح الجنسية للجيلين الثاني والثالث من الأجانب، فرد حزب الشعب اليميني المتشدد أجنحته وسارع إلى تنفيذ الخطوات الموالية..
فقد أطلق حملة لإلغاء الحق في الجنسية السويسرية المزدوجة، وأخرى ضد انضمام سويسرا لاتفاقية “شنغن” ومعاهدة “دبلن” المتعلقتين باللجوء والأمن.
لا تزال شريحةٌ واسعة من الرأي العام السويسري تحت وقع الصدمة إثر نجاح حزب الشعب اليميني المتشدد في إقناع أغلبية الناخبين برفض تسهيل إجراءات منح الجنسية للجيلين الثاني والثالث من الأجانب في استفتاءات يوم الأحد 26 سبتمبر.
أقلية السويسريين التي صوتت لصالح تسهيل عمليات التجنيس لم تُصدم بنجاح حزب الشعب بقدر ما صُدمت بأسلوب تحقيقه لهذا النجاح، وهو أسلوب اعتمد في مجمله على حملة كاذبة وجارحة إزاء الأجانب وخاصة الجالية المسلمة.
وفيما كان المعارضون لهذا الأسلوب يتجرعون الهزيمة ويتساءلون عن كيفية التصدي لحملات اليمين المتشدد في المستقبل، بادر حزب الشعب بالإعلان أنه أطلق بعدُ حملته ضد انضمام سويسرا إلى اتفاقية “شنغن” ومعاهدة “دبلن” المتعلقتين بمجالات اللجوء والأمن والحدود، واللتين ستُطرحان في استفتاء شعبي في يونيو 2005.
الحزب لم يقف عند هذا الحد بل واصل مُسلسل استعراض العضلات وفرد الأجنحة بطرح مُقترح داخل البرلمان يهدف إلى إلغاء الحق في الجنسية المزدوجة. وأكد رئيس الحزب أولي ماورر في حديث مع صحيفة “لوتون” الصادرة بجنيف (عدد 28 سبتمبر 2004) أن المشروع لا يهدف إلى إلغاء الجنسية المزدوجة للـ”السويسريين الجدد” فحسب، بل أيضا للمواطنين السويسريين الذين يحصلون على جنسية ثانية.
وفي سياق هذا الحديث، أقر السيد ماورر بأن ضرورة الاختيار بين الجنسية الأصلية والجنسية المكتسبة “مسألة صعبة”، دون أن يغفل الإشارة إلى أن زوجته “اضطرت للتخلي عن الجنسية الأمريكية”..
الفوز من أجل المزيد من التشديد!
عن الانتصار الذي حققه حزبه في استفتاءات 26 سبتمبر، قال ماورر في حديثه مع صحيفة “لوتون”: “إنه فوز هام جدا بالنسبة لنا، لأن الأمر يتعلق بالهوية السويسرية، وستكون هذه المسألة محور النقاش حول اتفاقية شنغن التي نحاربها”.
وفي تصريحات تعكس بأمانة ووضوح تامين نوايا حزب الشعب بشأن اتفاقية “شنغن” ومعاهدة “دبلن”، أضاف رئيس حزب الشعب أن تصويت الناخبين يوم الأحد الماضي ضد تسهيل إجراءات منح الجنسية للجيلين الثاني والثالث من الأجانب، يعني أيضا بالنسبة له “لا شاملة ضد سياسة اللجوء والهجرة”.
واستطرد قائلا: “لدينا الآن فرصة الرد على هذه الانشغالات بإجراءات مشددة خلال مراجعة القانون حول اللجوء والأجانب. أنا على قناعة بأن ذلك (التشديد) ضروري لتفادي ظهور شعور حقيقي بمعاداة الأجانب”.
الرسالة والمنطق شبه واضحين إذن.. الحملات التي شنها حزب الشعب السويسري لحد الآن ضد تسهيل إجراءات التجنيس ليست معادية للأجانب، بل هي حملات “استباقية” لعدم ظهور إحساس المعاداة للأجانب في سويسرا، استنادا ربما لمبدأ استئصال الداء قبل ظهوره أو تفشيه.
قد يُفهم مضمون تلك الرسالة، لكن هل يمكن فهم ذلك المنطق؟ إنها حكاية أخرى، غير أن استيعاب منطق حزب الشعب أو عدم إدراكه على الإطلاق لا يغير شيئا من واقع أكيد: حزب الشعب السويسري الذي حقق فوزا كبيرا خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، هو حزب قوي وله تأثير أقوى على الناخبين، فكيف تمكن من التوفر على هذه الآلة السياسية الجبارة التي لا تتوقف عن العمل؟
آلة سياسية.. وطاقة لا تنفذ
جوليان هوتينغر، الخبير في الشؤون السياسية والباحث السابق في معهد الفدرالية بجامعة فريبورغ، يجيب في تصريح لـ”سويس انفو” عن هذا التساؤل بالإشارة إلى أن حزب الشعب السويسري “أدرك منذ ست أو سبع سنوات أنه يتمتع بحظوظ جيدة ليتحول إلى “مجموعة مصالح” وليدافع عن مصالح محددة، ويتوفر على آلة تعمل بدون توقف ويطلق مبادرة شعبية تلو الأخرى”.
وأضاف الخبير هوتينغر أن هدف حزب الشعب يكمن في “ممارسة الضغط على الحكومة والدفاع بإصرار عما يعتبره أهدافه وأولوياته الخاصة”.
وفي تحليله لأسلوب العمل الذي ينتهجه حزب ماورر، قال هوتينغر: “إن حزب الشعب السويسري يشن حملة دائمة، هو ليس بآلة انتخابية بل هو آلة سياسية تمارس الضغط وتوقف النظام وتطلق مبادرات يفترض أنها تدافع عن قيم تقليدية لكن يتضح لاحقا أنها مليئة بالتناقضات”.
ويرى الخبير في الشؤون السياسية أن حزب الشعب يستغل نقاط ضعف الأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة (الحزب الاشتراكي والحزب الراديكالي والحزب الديمقراطي المسيحي). فهذه الأحزاب التي طالما بحثت عن التوافق، حاولت بناء نظام مفتوح لجميع التوجهات ومختلف وجهات النظر، لكن حزب الشعب السويسري، “لا يثق بهذا النظام، ويؤمن بضرورة اتخاذ قرارات حاسمة حتى إن تطلب الأمر إقصاء أقلية ما” حسب تعبير الخبير هوتينغر.
اختلاف التقاليد واللهجة
في هذه الحالة، لماذا لا تلتجئ الأحزاب الأخرى إلى نفس الخطط والأساليب لإبلاغ مواقفها للناخبين؟ يرد هوتينغر في حديثه مع “سويس انفو” بالقول: “لأن الأحزاب الأخرى لا تتوفر ببساطة على نفس الآلة والتقاليد، وتفتقر بالخصوص للهجة العنيفة التي يُلجأ إليها عند محاولة مهاجمة شخص آخر. لكنها بدأت تستيقظ تدريجيا”.
وأوضح الخبير هوتينغر في هذا السياق أن الحزب الاشتراكي تمكن من الرد على حزب الشعب بقدر من القوة في إطار الحملة الشعواء المضادة لتسهيل إجراءات منح الجنسية للجيلين الثاني والثالث من الأجانب والتي استهدفت الأجانب المسلمين بشكل خاص.
أما بالنسبة للحزبين الآخرين المشاركين في الحكومة، (الحزب الراديكالي والحزب الديمقراطي المسيحي، من وسط اليمين)، فيرى الخبير هوتينغر أنهما يواجهان صعوبات للرد على حزب الشعب بسبب تقاليدهما “التوافقية” التي تقتضي ضمهما لأعضاء تنتمي لتيارات مختلفة، وبالتالي يصعب اتفاقهم جميعا على موقف مشترك ضد حزب الشعب السويسري.
حزب الشعب والديمقراطية المباشرة
توفر حزب الشعب السويسري على “آلة سياسة جبارة” وكسره لـ”التقاليد التوافقية” وإجادته “للهجة العنيفة الهجومية” عوامل تفسر بلا شك سيطرته المتنامية على الساحة السياسية السويسرية، لكن النقطة التي لم يشر إليها الخبير هوتينغر والتي ربما تحظى بثقل هام في موازين القوى السياسية في الكنفدرالية، هي إتقان حزب الشعب اليميني المتشدد -أكثر من غيره- الاستفادة من نظام الديمقراطية المباشرة الذي تتميز به سويسرا.
فبفضل هذا النظام، يمكن لأي جهة، سواء كانت حزبا أو جمعية أو فردا، تجميع 100 ألف توقيع الضرورية على مشروع مبادرة ما، ثم تسليم التوقيعات للمستشارية الفدرالية في برن ليُطرح إثر ذلك في استفتاء شعبي يقرر فيه الناخبون مصير المقترح سلبا أو إيجابا.
ويعني هذا النظام أن القرارات التي تخص الشعب السويسري لا يتم التداول بشأنها وراء الأبواب المغلقة أو بين نخبة معينة، حكومة كانت أو نواب برلمان، كما هو الشأن في غالبية دول العالم، بل تظل الكلمة الأخيرة بيد الشعب الذي يبقى سيد الموقف.
حزب الشعب السويسري أدرك جيدا أن مخاطبة هذا الشعب أولا وأخيرا هي الطريق الأقصر والأضمن لتحقيق أهدافه، ولذلك انتهج سياسة عدم ادخار أي جهد أو مال للوصول إلى عقل ذلك الشعب ولم لا اكتساب قلبه. ومع أنه لم يتمكن لحد الآن من إغراء كافة الشعب، لكن إغراء “الأغلبية” مهما كانت ضئيلة تكفي في النظام “الديمقراطي” لتغيير القوانين والمسارات.
ويبدو حاليا أن مسار سويسرا ينعطف بشدة نحو اليمين، لكن الأقلية (الشعبية والحكومية والبرلمانية) التي انهزمت في استفتاء 26 سبتمبر والتي تتمسك بالانضمام إلى اتفاقية “شنغن” ومعاهدة “دبلن”، وهي أقلية تضم في صفوفها رئيس الكنفدرالية جوزيف دايس من الحزب الديمقراطي المسيحي ووزيرة الخارجية ميشلين كالمي راي من الحزب الاشتراكي، بدت مصممة على عدم الرضوخ واستخلاص العبر والتحرك بأسرع أجل لتفادي تجرع مرارة الهزيمة مرة ثانية.
إصلاح بخات – سويس انفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.