الأكراد وإسرائيل: لعبة كبرى خطرة
ثلاثة تطورات بارزة قذفت في الآونة الأخيرة بـ"القضية الكردية" في الشرق الاوسط الى مقدم جداول أعمال القوى الاقليمية والدولية..
ويمكن القول بدون مبالغة أنها أطلقت صفارات انذار حادة في العديد من العواصم المجاورة لبغداد…
الاول، كان بدء تحّرك أكراد شمال العراق لطرد عشرات آلاف العراقيين العرب من المناطق الشمالية الوسطى من البلاد. والثاني، الاضطرابات والاشتباكات التي جرت بين الاكراد وبين إيران وتركيا، وقبلهما سوريا. والاخير هو المعلومات الصحافية الأمريكية عن دخول الاستخبارات الاسرائيلية بكل ثقلها الامني والسياسي الى شمال العراق.
المعلومات الاولية عن “تكريد” بعض شمال العراق، بدأت تتوالى منذ 20 يونيو الماضي، حين كشفت “نيويورك تايمز” عن أن آلاف الاكراد يندفعون الى مناطق يقطنها عرب ويجبرون هؤلاء الاخيرين على الهرب الى مخيمات أقيمت على عجل في وسط البلاد.
الهدف؟ تغيير الخريطة الديموغرافية والسياسية لشمال العراق.
هذه العملية بدأت فور سقوط الرئيس العراقي صدام حسين. لكن وتائرها تسارعت منذ الربيع الماضي، بسبب خوف الفصائل الكردية من حدوث تغّير مفاجيء في الموقف الاميركي لغير صالحهم ولصالح الدولة المركزية العراقية، ولرغبتهم في فرض أمر جديد قبل تدشين المفاوضات الجدية حول مستقبل الكيان العراقي.
ويقول مسؤولون أميركيون إن اكثر من 100 ألف عربي فرّوا من منازلهم في شمال العراق، وهم مبعثرون الان في وسط البلاد. ويضيفون ان الخطوة التالية المحتملة للأكراد هي السيطرة على كركوك الغنية بالنفط، والتي يقطنها عرب وتركمان وأقليات مسيحية، إضافة الى الاكراد، بهدف “تكريدها” وتحويلها الى العاصمة الاقليمية لهم.
إشتباكات مسلحة
هذا كان التطور الاول. أما الثاني، فتمثّل في تطورات درامية أخرى لا تقل خطورة على الصعيدين الامني والسياسي.
فقد نشبت، وللمرة الاولى منذ سنوات عدة، معارك عنيفة بين الجيش الإيراني وبين (من وصفتهم طهران) بـ “الانفصاليين الاكراد” في منطقة سهيدان الحدودية الايرانية، أدت الى مقتل العشرات.
كما أعلنت الحكومة التركية أن مئات المقاتلين الاكراد عبروا الحدود الى أراضيها خلال الاشهر القليلة الماضية، قادمين من العراق عبر الاراضي الايرانية أو السورية، وكانوا هم المسؤولين على الارجح عن الهجوم المسلح الذي شّن على موكب حاكم إقليم “فان” شرقي تركيا.
وقبل هذه الأشتباكات في تركيا وإيران كانت سوريا تشهد، كما هو معروف، “انفجارا كرديا” امتد من القامشلي والحسكة على الحدود مع العراق الى دمشق نفسها.
هذه التطورات المتسارعة دفعت الرئيس السوري بشار الاسد الى القيام بزيارة عاجلة الى طهران. وبرغم ان البيانات الرسمية السورية والايرانية ركزّت على ان النقاشات دارت حول مستقبل العراق، إلا ان مصادر سياسية مطلعة في بيروت أكدت أنها تمحورت بالدرجة الاولى حول “الابعاد الخطيرة” التي بدأت تتخذها المسألة الكردية في لعبة الامم الشرق أوسطية.
وتضيف المصادر أنه لم يعد مستبعدا الان الدعوة الى عقد قمة سورية-إيرانية-تركية لبحث هذه “الابعاد الخطيرة” بالذات، ولبلورة موقف ثلاثي مشترك منها على كل الصعد الامنية والسياسية والدبلوماسية.
هجوم الموساد
ماذا الان عن التطور الثالث؟
إنه جاء على لسان سيمور هيرش، الصحافي الاميركي المرموق الذي كان أول من كشف النقاب عن فضيحة التعذيب في سجن أبو غريب.
فقد نشر هيرش مؤخرا مقالا في “نيويوركر ماغازين”، أبرز فيه المعلومات التالية المستندة الى مصادر أمريكية واوروبية وإسرائيلية:
1- بعد شهرين من الغزو الأمريكي للعراق، بدأ الاسرائيليون بالضغط على الأمريكيين لمواجهة إيران، بحجة ان هذه الاخيرة تدعم “المتمردين العراقيين”. وفي نهاية العام الماضي، توصلّ الاسرائيليون الى قناعة بأن واشنطن لن تقف في وجه طهران، وأنها أيضا لن تكون قادرة على تحقيق الاستقرار أو الديموقراطية في العراق. وبالتالي ستحتاج إسرائيل الى خيارات أخرى.
2- هنا ولدت “الخطة – ب” الاسرائيلية. فقد قرر أرئيل شارون، رئيس الوزراء الاسرائيلي، انه يجب حصر الاضرار التي تسببها الحرب العراقية للموقع الاستراتيجي الاسرائيلي، من خلال توسيع العلاقات القديمة القائمة مع أكراد العراق، ونشر وجود إسرائيلي بارز في منطقة الحكم الذاتي الكردستاني، برغم ان ذلك يتضمن كلفة مالية باهظة.
3- مئات عناصر الاستخبارات والجيش الاسرائيليون يعملون بهدوء الان في كردستان العراق، ويقومون بتدريب وحدات الكوماندوس الكردية، بهدف دفع هذه الاخيرة الى قتال كل من الميليشيات الشيعية العراقية، خاصة تلك المعادية لأسرائيل، والميليشيات البعثية السنّية في حال استعادت هذه الاخيرة السيطرة. ونسق التدريب هو نفسه المطبق في وحدات الكوماندوس الاسرائيلية التي يطلق عليها “ميستاراتفيم”، وهو يتضمن في المرحلة الاولى التوغل في صفوف “العدو” وجمع المعلومات، وقتل قيادات المقاومة السنية والشيعية.
كما تنطلق ّ الاستخبارات الاسرائيلية من كردستان العراق لتنفيذ عمليات سرية داخل المناطق الكردية في سوريا وإيران بمساعدة الكوماندوس الكردي. وهي نصبت مجسات وأنظمة حساسة أخرى قرب منشآت نووية إيرانية.
اللعبة الخطرة
هل ثمة علاقة ما بين هذه التطورات الثلاثة؟
أجل، بالتأكيد.
فالمعلومات التي أوردها هيرش وغيره، تشير الى أن إسرائيل أقنعت على ما يبدو بعض الاطراف الكردية العراقية بأن الفرصة مؤاتية الان للدفع بإتجاه إعلان دولة كردية مستقلة بدعم منها ومن حلفائها في الولايات المتحدة.
سيناريو عملية الاقناع سار على النحو التالي:
1- هذا هو الوقت الامثل لفرض الاستقلال في شمال العراق كأمر واقع، قبل أن تتمكن الدولة العراقية من إعادة بناء نفسها ومؤسساتها.
2- المحافظون الجدد الاميركيون، وعلى رأسهم بول وولوفويتز نائب وزير الدفاع، مستعدون لدعم هذا التوّجه(الذي تعارضه بقوة وزارة الخارجية الاميركية)، بسبب رغبتهم في إنقاذ مشروعهم الطموح لتغيير لوحة الشرق الاوسط الكبير.
3- تركيا لن تكون قادرة على شن حرب على أكراد العراق، بسبب إنهماكها الشديد في الجهود للانضمام الى الاتحاد الاوروبي، وأيضا بسبب عدم قدرتها على القيام بأية خطوة في العراق من دون موافقة أميركية مسبقة.
4- إيران أيضا عاجزة عن التحول الى الهجوم، لانها غارقة في الدفاع عن نفسها امام “إضبارة” الاتهامات الاميركية لها في مجالات التسلح النووي، والتدخل في العراق، ومساندة الارهاب.
5- أما سوريا، فإنها قد تكون نقطة الضعف الابرز في الحلقات الاقليمية المحيطة بمنطقة كردستان الكبرى. وكما دلت الاضطرابات الكردية الاخيرة، فإن هز الوضع الامني فيها بدعم خفي إسرائيلي – اميركي، ليس بالأمر الصعب كثيرا.
أي قرارات؟
ماذا تعني كل هذه المعطيات؟
إنها تعني، ببساطة، ان “المسألة الكردية” موضوعة على نار حامية، بصفتها الورقة الاقليمية الابرز في المعركة الدولية الكبرى التي تجري الان في العراق وحوله.
وأي قرار يتخذه الاكراد في هذه المرحلة، سيؤثر تأثيرا عميقا على علاقاتهم المستقبلية ليس فقط مع الدول الاربع الرئيسة التي يقطنون فيها(العراق، تركيا، إيران، وسوريا)، بل أيضا مع شعوب هذه الدول.
وعلى سبيل المثال، إذا ما اختار أكراد العراق (ومعهم أكراد تركيا وإيران) الاستقلال التام بدعم إسرائيلي، سيجدون أنفسهم شاءوا أم أبوا في حالة حرب حقيقية مع هذه الشعوب. وهي حرب ستدور حول ملكية الارض، كما الموارد والثروات الطبيعية، كما حدود الدول- الامم. وكركوك والمناطق الشمالية الوسطى من العراق التي تشهد الان عمليات “التكريد”، هي مجرد خربشات أولّية بسيطة على مثل هذا المصير.
لا بل ثمة ما هو أخطر: إنهم سيوحدّون ضدهم تركيا الاتاتوركية وإيران الخمينية وسوريا البعثية في جبهة متراصة واحدة ترفع شعارا قويا واحدا: “رفض تفتيت المنطقة مجددا الى كيانات صغيرة أخرى”.
ومثل هذا الشعار له، كما هو معروف، رنين خاص وقوي في آذان كل العرب والاتراك والايرانيين، المكتوين أصلا من نار “سايكس بيكويات” الغرب.
قد يقال هنا أنه في وسع الاكراد الرهان على المتغيرات التي تنوي الدولة العظمى الوحيدة إدخالها في الشرق الاوسط الكبير. وهذا يبدو رهانا واقعيا. فبطن الشرق مفتوح بالفعل أمام كل انواع مباضع الغرب. والحديث عن خرائط جديدة تستند الى دول او دويلات جديدة لما ينته كليا بعد. ثم ان الاكراد منذ 12 عاما يعيشون في حالة إستقلالية حقيقية، يحميها الغرب الاميركي نفسه الذي يعد الشرق الاوسط الان لمصائر جديدة.
بيد أن هذا الرهان الواقعي، رهان خطير في الوقت ذاته. إذا ما فشل، سيجعل الاكراد يدفعون أثمانه المريعة على يد الدول التركية وإلايرانية والسورية. وإذا ما نجح، سيجعلهم يدفعون أثمانا مريعة أكثر على يد الشعوب التركية والايرانية والسورية.
بكلمات أوضح: خيار الاستقلال الكردي الكامل قد يطلق صراعات قد يكون معها الصراع العربي- الاسرائيلي الازلي أشبه بألعاب الاطفال، وسيكون الاكراد أنفسهم (كما كانوا من أسف طيلة المائة سنة الماضية) هم العشب الذي ستدوسه الفيلة الاقليمية التي ستتدافع لحماية ما تعتبره مراعيها القومية الخاصة.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.