الإصلاح العربي بين تسلّـط النّـخب ومِـحنة المُـثقفين
مع احتدام الجدل في المنطقة العربية حول مشاريع الإصلاح المقترحة من الداخل والخارج، يتّـضح أن العقبات القائمة بوجه الإصلاح متعددة.
وفيما تتشابه مبررات الحكومات الرافضة أو الداعية للتمهّـل، تحوّل قطاع من المثقفين إلى ترديد مقولات إصلاحية “شكلا”، فارغة من المضمون “فعلا”.
باتت مفردة الإصلاح العربي تتردد على كل لسان، تتعدّد حولها المبادرات من كل حدب وصوب، ويحمل كل يوم جديدا في الأفكار والمبادرات والمشروعات والبيانات والتصريحات الرافضة أو المؤيدة.
لكن تظل حركة التطبيق أو تحويل القول إلى فعل، والوعود النخبوية بالإصلاح والتغيير إلى حقائق، تُـواجَـه بحالة كساد وخمول لا تخطِـئها العين، سواء كانت عابرة النظرات أم متفحصة ومدققة.
وفى الوقت ذاته، يلحظ المرء نوعا من النفاق السياسي عالي المستوى من قطاع من المثقفين العرب أخذوا على أنفسهم ترديد مقولات إصلاحية شكلا، فارغة من المضمون فعلا، ومنهم من يبرر إبعاد قطاعات كبرى من النشطين السياسيين بعيدا عن المشاركة المرجوة، حتى لا يتأثر موقعهم الذاتي، ومنهم من يُـدافع عن جعل الإسلاميين الراغبين في تشكيل أحزاب قانونية يشاركون من خلالها في خدمة وطنهم، دوما تحت مقصلة اللاشرعية قانونية، وضربات الاعتقال، والإلقاء في السجون. إنه الفكر الإقصائي بامتياز المتصادم مع الديمقراطية جملة وتفصيلا.
ونلحظ أيضا ازدياد اتساع الفجوة بين المحكومين الذين وصلت مُـعاناتهم الآفاق .. ينتظرون عملا محددا ولا يرون بوادر الفعل بعد، وبين الحاكمين الذين يراهنون على مرور الوقت وتغيير الحكام في البيت الأبيض وعواصم أوروبية أخرى، لعل العاصفة تمر وتبقى الأمور على ما هي عليه، وهو رهان يبدو خاسرا منذ اللحظة الأولى.
فالمسألة ليست في ضغوط الخارج المرفوضة، أيا كانت الشعارات والمبادئ البراقة التي ترفعها، ولكن لأن الوضع العربي يبدو مؤهلا لانفجارات متتالية، والحال في سوريا أبلغ نذير، وليس هناك من مُنقـذ حقيقي سوى خطة إصلاح حقيقية يبدأ العمل بها فورا دون تأخير، وإلا فالبديل فوضى وثورات شعبية غير مأمونة العواقب، ولن تعدم البلدان العربية قوى خارجية تنفخ في النار وتلقمها بوقود يزيدها لهيبا.
مقولات الرفض العربية
منذ أن تبلورت مشروعات التغيير الدولية للشرق الأوسط بمن فيه من عرب ومسلمين، كمبادرة الشرق الأوسط الكبير، والمشروع الألماني الفرنسي، وقبله محاضرة وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر الخاصة ببحث دور للناتو للإسراع بالتغييرات في بلدان المتوسط والحفاظ على الأمن الأوروبي والغربي عامة، استشعرت النخب الحاكمة قوة الضغط الآتية عبر الحدود، والتي قد لا تُـحمد عُـقباها إذا مرت دون ممانعة ومعارضة، وأخذت قيادات عربية بارزة، في المقدمة منها مصر والسعودية وسوريا والسودان واليمن والأردن، في التشاور المكثف من أجل بلورة موقف من المبادرات الخارجية.
وبالرغم من اختلاف المواقع والدوافع، فقد أخذ الخطاب الرسمي العربي في ترديد أربعة مقولات رئيسة:
أولها، أن الدول العربية تقوم بالإصلاح بالفعل، ولكن وفقا لوتيرة كل مجتمع وحدود قدراته الاستيعابية.
ثانيا، أن أي إصلاح نمطي يأتي من الخارج سوف يؤدى إلى فوضى في المنطقة، ولن تقبله المجتمعات العربية، إذ سيُـعيد لها ذكريات الحقبة الاستعمارية البائدة.
ثالثا، أن المجتمعات العربية، إذا أعطيت إصلاحات سياسية فورية دون إعداد كاف لها، فسوف تتعرض لسيطرة قوى متزمتة ورجعية، كما أن المنطقة العربية لها خصوصيتها مقارنة بالمنطقة الإسلامية الأوسع الممتدة إلى وسط وجنوب آسيا.
ورابعا، أن الإصلاح فيها مرهون أو مُـرتبط بحل القضية الفلسطينية، إذ هي سبب لتطرّف وعنف بعض الجماعات والتنظيمات.
هذه المقولات وغيرها قائمة على افتراض ضمني بأن الإصلاح السياسي لابد أن يأتي مُـتدرجا حتى لا تتعرض المجتمعات العربية لهزة وتضيع منها حالة “الاستقرار الذي تنعم به” في ظل حكومات النخب الحاكمة الراهنة.
والافتراض الثاني، أن المجتمعات العربية ليست مؤهلة لأن تكون ديمقراطية أو تنعم بحريات شاملة في القول والتنظيم والسعي إلى الحكم وفق القانون، وأن هناك قوى منظمة تحمل فكرا رجعيا (في إشارة إلى القوى الإسلامية عامة) ستكون الرابحة من أي تغيير فوري باعتبار أن القوى المنافسة لها أكثر ضعفا وأقل تنظيما وتأثيرا في الشارع السياسي.
حصيلة منطقية
مثل هذه الافتراضات وغيرها، وإن كانت تُـعبّـر عن نوع من التحذيرات المكثفة للدول الغربية ولواشنطن حتى تخفف من ضغوطها وترضى بوتيرة الإصلاح الذي تطبقه الحكومات القائمة، يُرد عليها الكثيرون عبر إثبات حمقها السياسي.
فإذا كانت القوى الإسلامية النشطة أكثر تأثيرا، رغم كل ما تتعرض له من ضربات واعتقالات، فتلك محصلة سياسات افتقدت الحِـكمة وطبقت لسنوات طويلة، وكان من نتائجها أن ضعف المجتمع المدني، وغاب تأثير الأحزاب العادية ذات الألوان السياسية المختلفة، نظرا لخضوعها لترسانات من القوانين المقيدة للحريات، فضلا عن أن غياب المنافسة الحزبية الحقيقية أدى بالأحزاب الحاكمة إلى الترهل وإلى الفساد والالتصاق الشديد بالسلطة، بحيث باتت فاقدة لأية جذور شعبية.
وإذا كانت هذه حصيلة منطقية لسياسات النخب الحاكمة عبر عقود ثلاثة مضت، فمن غير المعقول أن تتحول نفس النخب التي ولّـدت المأزق العربي بكل أبعاده إلى نخب إصلاحية ديمقراطية. وما تقوله هذه النخب الحاكمة حول عدم أهلية المجتمعات للتطور الديمقراطي ليس سوى مبرر لكي تبقى وتُـطبّـق نفس السياسات العرجاء، وإن بشكل مختلف.
ازدواجية بعض المثقفين
ما ينطبق على النخب الحاكمة ورغبتها في احتكار السلطة والتسلط على العباد، ينطبق للأسف الشديد على بعض المثقفين العرب الذين لا يعيدون وحسب نفس مقولات النخب الحاكمة، بل يقدمون لها التبريرات النظرية والفكرية. فمنهم من يرى أن بقاء الحال هو فرصته الذهبية في اللّـمعان والظهور، ومنهم من يقول في غرف مغلقة ما لا يجرؤ على قوله علنا أو يطالب به على الملأ.
ولعل ازدواجية البعض هذه تبدو جلية في النقطة الخاصة بتأييد حرمان القوى الإسلامية من أي عمل سياسي تحت مظلة القانون والدستور، رغم علم الجميع أن هذه القوى موجودة في الشارع السياسي ولها حضورها لدى نسبة لا بأس بها من المواطنين العرب.
يفهم البعض من المثقفين العرب أن التطور الديمقراطي وإفساح المشاركة يجب أن يكون مقصورا على من يحمل نفس الفكر والرؤية، ضاربين بذلك ابسط معاني الديمقراطية في التعدد والاختلاف والحوار مع الآخر بالحسنى والتسامح، وأن الأفكار لا تُجادَل ولا تحاوَر إلا بالأفكار وتحت النور وعلى مسمع ومرأى من الجميع، وليس من خلال عصا الأمن وفي غرف السجون.
إن مسألة إقصاء فريق موجود في المجتمع، أيا كان حجم الاختلاف الفكري والسياسي معه، هو ضرب لأبسط مبادئ الديمقراطية والإصلاح السياسي وعصف بكل درجات المشاركة والشفافية التي لا غنى عنها لأي تطور ديمقراطي حقيقي في المنطقة العربية.
ويؤمن بعض المثقفين العرب بأن العلمانية تعني إقصاء الدين تماما عن الحياة، رغم أن الدين هو الموجّـه الأكبر لحياة العرب والمسلمين. في حين أن العلمانية نفسها تعني تنظيم العلاقة مع الدين وعدم إنكار دوره في حياة الأفراد والمجتمعات. ومثل هؤلاء المثقفين ليسوا منفصلين وحسب عن مجتمعاتهم، وإنما يمثلون عقبة من عقبات تطوره إلى الإصلاح السياسي.
مؤتمر الإسكندرية.. الهدف المجهول
محنة المثقفين العرب كونهم سبب من أسباب التراجع العربي بدت جلية في تنظيم مكتبة الإسكندرية لمؤتمر تحت مسمى قضاياالإصلاح العربي: “الرؤية والتنفيذ”، إذ دُعي المشاركون على عجل في أقل من أسبوعين، ولذلك لم يحضر سوى 17 مثقفا عربيا رغم أن المدعوين كانوا أكثر من ستين مثقفا. وجاء المشاركون من لون ثقافي وفكري واحد، ولم يكن بينهم من هو محسوب على التيار الإسلامي العريض في العالم العربي.
وجاء تبرير ذلك واهيا. فحسب القائمين على المكتبة بأن اثنين (طارق البشرى، المستشار والدكتور محمد سليم العوا) من التيار الإسلامي قد دُعيا للمشاركة، ولكنهما اعتذرا. فهل كان حضور اثنين يمثل نسبة حقيقية مقارنة بدعوة 160 مثقفا من تيارات ليبرالية وقومية ومستقلين؟
كان الهدف المعلن للمؤتمر أن يتوصّـل إلى رؤية تعكس دور المجتمع المدني في الإصلاح السياسي الشامل المُتصور عربيا، باعتبار أن المؤتمر نفسه دعت إليه أربع منظمات ومؤسسات ليست حكومية. وهنا يفهم المرء أن المطلوب أن يتدارس المثقفون كيف يمكن للمجتمع المدني أن يُـوسّـع دوره بين ثنايا المجتمع والناس، وأن يقوم بما عليه من مهام وأدوار في تهيئة المجتمعات العربية لعملية ديمقراطية ومشاركة شفافة، وأن يضع فاصلا بينه وبين الحكومات والنخب الحاكمة، وأن يستند إلى مطالب الناس البسيطة، وأن يطرح رؤية من الواقع العربي في مواجهة رؤى النخب ورؤى القوى الدولية.
لكن هذا الفهم المنطقي ضاع في زحام الرغبة بتقديم دعم لمواقف الحكومات. فالبيان نفسه، حسب مدير مكتبة الإسكندرية المنظمة للمؤتمر، سوف يُقدم للقادة العرب في قمتهم المقرر عقدها بتونس نهاية مارس المقبل.
إصلاح فاقد للجذور الشعبية
من يقرأ بيان الإسكندرية يجد تنويعة من الوجوبيات في كل شيء من سياسة واجتماع واقتصاد ومعلوماتية، كلها تقريبا مكررة ومعروفة في عمومياتها، ولا يختلف عليها أحد من قبيل الشعارات والمطالبات، ولكنها تفتقد إلى التفاصيل والتوثيق الذي يتناسب مع كون كاتبيه هم من نخبة المثقفين العرب.
والطريف في الأمر، أن بعضا من تلك المطالب، كالدعوة إلى إصلاح دستوري وتشريعي، وإلغاء القوانين الاستثنائية وقوانين الطوارئ، هي نفسها المطالب التي وردت في مبادرة الإخوان المسلمين المحظورة قانونيا في مصر، والتي أعلنها مرشدها العام في مؤتمره الصحفي في مقر نقابة الصحفيين المصريين قبل أسبوعين تقريبا.
أما عن دور المجتمع المدني بمنظماته ومؤسساته المختلفة، فقد حصرها المثقفون وممثلو تلك المنظمات فيما أسموه آليات المتابعة من المجتمع المدني، كتأسيس منتدى يكون مفتوحا للمبادرات والحوارات الفكرية، وعقد مؤتمر سنوي عام تُـعرض فيه نماذج من تجارب المؤسسات المدنية العربية في مجال حقوق الإنسان، وأن تُـعقد ندوات ورش عمل في كل قُـطر عربي تَـعرض فيه الفكر الإصلاحي، وأن تُـشكّـل لجنة متابعة تجتمع كل ستة أشهر لمراجعة ما تم تنفيذه، وكأن دور المجتمع المدني في الإصلاح الشامل محصور وحسب في أنشطة فكرية وندوات يَـنساب فيه الكلام شرقا وغربا، ولكن أين الفعل الموجه لتنظيم الناس وتعبئتهم حول الإصلاح بمعناه الشامل، كأن يراقبوا الانتخابات في بلدانهم حتى تصبح شفافة، وأن ينظموا أنفسهم لمراقبة أداء الحكومات الاقتصادي والاجتماعي، وأن يُـوفروا للراغبين من البُـسطاء فرصة توظيف واستغلال قدراتهم وطموحاتهم في تنمية بلدانهم ومجتمعاتهم؟ لا إجابة البتة.
وحين يفقد المجتمع المدني دوره الطبيعي النابع من الناس أنفسهم، ويكتفي ممثلوه بالندوات والمنتديات رغم أهميتها، يُـصبح الإصلاح المنشود فاقد الجذور والشعبية، وتلك بدورها نقيصة كبرى.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.