“الإصلاح بات ضرورة للبلدان العربية والإسلامية”
يوما بعد يوم، تتكثف الضغوط الدولية الغربية المتنوعة على البلدان العربية والإسلامية من أجل دفعها لتحقيق "إصلاحات" سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية وثقافية واجتماعية.
الخبير الإستراتيجي التونسي أحمد ونيس أجاب عن أسئلة سويس إنفو حول التحديات الجديدة واحتمالات الإستجابة والممانعة من طرف الدول المعنية.
لا تزال مبادرة واشنطن المتعلقة بإصلاح الشرق الأوسط الكبير وما يصاحبها من جدل ونقاش وتباين في المواقف داخل بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وشمال إفريقيا محل اهتمام ومتابعة واسعة.
وفي ظل انضمام الحلف الأطلسي والإتحاد الأوروبي بشكل أو بآخر إلى التوجهات الأمريكية التي تعززت بعد إعادة انتخاب الرئيس جورج بوش، تبدو كل الإحتمالات قائمة مثلما يشرح السيد أحمد ونيس في هذا الحديث الخاص الذي أجرته معه سويس إنفو في العاصمة التونسية.
سويس انفو: كيف تتعامل المنطقة المتوسطية مع الضغوط المركّـزة عليها من أجل تحقيق الإصلاح، خصوصا وأمامها أربع سنوات أخرى من إدارة بوش؟
أحمد ونيّس: العنصر الجديد في المشهد المتوسطي عموما، والمغاربي خصوصا، هو دخول الولايات المتحدة على خط الإصلاحات السياسية من مدخلين متكاملين عام 2003 و2004، إذ أن كولن باول أولا، والرئيس بوش ثانيا أطلقا مشروعين لم يلبثا أن أدمجا في مشروع واحد، هو مبادرة الشراكة مع الشرق الأوسط MEPI بعد خطاب بوش في مايو 2003 .
هذا المشروع، ركّز على الإصلاح في البلدان العربية، ومن بينها البلدان المغاربية، وكانت لجولة باول في شمال إفريقيا في ديسمبر 2003، وكذلك لزيارة الملك محمد السادس، وزيارتي الرئيسين بوتفليقة وبن علي إلى واشنطن دور في شدّ اهتمام الأطراف إلى هذه المسألة.
وفي تونس على سبيل المثال، تابعت النخب ما كُـتب وما قيل عن المبادرة، ولوحظ أن اللهجة الأمريكية جاءت مكثفة وشديدة وجدية أكثر من لهجة المسؤولين الأوروبيين، وخاصة الرئيس الفرنسي جاك شيراك في الموقف من الإصلاح في تونس والجزائر والمغرب.
وطبعا، حظي المغرب باستحسان الأوروبيين والأمريكيين، وهو جدير بذلك، لأنه شرع في إجراء إصلاحات سياسية واجتماعية، وحقق انفراجا محمودا لقي ترحيبا من النُّـخب، لكن في البلدان الأخرى بقي الوضع مثيرا لجدل واضح.
وتعزز هذا الاتجاه الجديد بخطوة ثانية امتدّت زمنيا بين فبراير ويونيو 2004، وتمثلت في صدور مشروع الشرق الأوسط الكبير في فبراير ثم روجعت نسخته الأولى بالاشتراك بين بعض الدول الأوروبية الرئيسية والدبلوماسية الأمريكية، فنتج عن ذلك المشروع المعدّل الذي أُعلن عنه في 9 يونيو 2004 في اسطنبول، والذي جاء موسعا حقيقة، ومركّـزا على الغايات الإصلاحية سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا.
وهنا، لاحظنا أن النّـخب المغاربية عموما رحّـبت بصيغته وغاياته في آن معا من زاويتين اثنتين. أولاهما، أنه جاء ردا على صدمة 11 سبتمبر، وثانيهما، أنه أكّـد أن الغرب، بشقيه الأمريكي والأوروبي، أدرك بأن لدى العالم العربي والإسلامي مؤاخذات في العُـمق على الولايات المتحدة.
ومهما كانت الردود العسكرية قاسية، فإن هذا الرد الأخير المُـعلن في التاسع من يونيو الماضي، هو الرد السياسي الصحيح بعد تدارُك الأخطاء والمبادرات التي طبعت الحقبة الممتدة بين عامي 2001 و2003، إذ أن التزام الغرب بتمامه، أي بقطبيه الأوروبي والأمريكي، بالشروع في ما سُـمي “شراكة من أجل التقدم والمستقبل المشترك”، إنما هو التزام جوهري في هذا المضمار.
ونستطيع القول بصراحة، أن هذا البُـعد هو الذي يهمّ النخب، لأنها تعرف أن الأنظمة عاجزة عن الشروع في إصلاح صادق وجدّي وفـعّـال من تلقاء نفسها. وإن لم يتدخّـل الطرف الغربي بشكل فعال في المسيرة السياسية والاقتصادية، لبقيت الأنظمة تُـناور وتتهرّب من تطبيق التزاماتها الشفوية والمنبرية وحتى الدستورية.
سويس انفو: هل يعني ذلك أنها ستلتزم فعلا هذه المرة؟
أحمد ونيّس: هذا الجانب من بيان 9 يونيو يهمّ المجتمعات بشكل مباشر، لأنه جاء بمثابة التزام واعتراف من الغرب بأن السّـبب العميق لصدمة 11 سبتمبر هو التأخّـر السياسي الخطير الذي تُـسجلِّـه المجتمعات العربية في القرن العشرين، والذي باتت أخطاره تتجاوز عالمنا العربي والإسلامي ليطول شررها العالم الغربي بأكمله.
أما الجانب الثاني الذي يهمّـنا في بيان الثمانية، فهو ذِكر القيم التي ترتكز عليها الشراكة، وهي كما يقول البيان، “قيم كونية” منها الكرامة والديمقراطية، ودولة القانون والعدل الاجتماعي، بما هي تطلعات كونية مشتركة. وهذا مهم، لكنه لا يُـقنع النُّـخب المغاربية لأنها تُـؤمن بتلك القيم، إلا أنها لا تعتقد أنها فعلا قِـيّـم كونية في سياسة الولايات المتحدة، بل إنها مُـقتصرة على ساحات محددة طبقا لسياسة انتقائية.
وهذه النخب، التي عانت من الانتقائية طيلة سنوات، يهمّـها هذا الجانب من زاوية استراتيجية، لأنها تطالب حكوماتها، وكذلك الدول الكبرى بتطبيق القِـيَّـم المُـدرجة في الدساتير، وتتألّـم من تجاهل الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل بلدانها، والتخلّـي عنها في تسوية النزاعات الدموية في الجَـسد العربي والإسلامي من قبل الدول العظمى.
فكلما كانت النزاعات تهمّ الدول الأوروبية وتقع على أراضيها، نراها تلتزم بتلك القِـيَّـم، وتفرض على الآخرين احترامها ولو بالقوة، لكن لما تطالب الشعوب في بلدان الجنوب باحترام القانون الدولي والالتزام بالديمقراطية، تتلقّـى ردودا معقّـدة وملتبسة وعقيمة، تشدِّد على ضرورة المفاوضات والتنازلات. مع أننا لا نلاحظ مثل ذلك التريّث عندما يكون النزاع فوق أرض أوروبية، مثل البوسنة أو كوسوفا أو اليوم أوكرانيا.
فعندها يكون القانون قانونا، والحقوق حقوقا، والشرعية الدولية شرعية، حتى وإن اقتضى الأمر استخدام القوة العسكرية وإعلان الحرب. وهكذا، فالغرب يفي بالتزاماته في النزاعات الأوروبية باسم القيم الكونية، لكنه يتجاهلها ويتلكّـأ في الاعتراف بها كُـلَّـما كانت النزاعات على أرض عربية.
وأكثر من ذلك، نلاحظ في بيان قمة الدول الثمان الأكثر تصنيعا تلك الرغبة الغربية في التملّـص، إذ نص البيان على أن حل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي مهم لتطوير المنطقة، مما يجعله القضية المركزية. لكن الغرب يركّـز في قضية الأمن على العراق، ويزداد تجاهله لقوس النزاعات التي كان هو نفسه سببا في تأجيجها وتوسيع دائرتها من لبنان إلى السودان، مرورا بإيران وسوريا. لذا، يصعب على النخب أن تصدّق الطرف الغربي، وتثـق فيه، وهو الذي مازال إلى اليوم صاحب القولين والمكيالين.
سويس انفو: هل تتوقّـع أن تؤدّي مساهمة البلدان المغاربية في الشراكة مع الحلف الأطلسي إلى مضاعفة الضغوط السياسية عليها، أم إلى التخفيف من حدّتها؟
أحمد ونيّس: لعل المبادرة الصادرة عن الحلف الأطلسي تحمل أملا صادقا. فالقمة الأخيرة في اسطنبول اتّـخذت مبادرة بنّاءة، هي مبادرة التعاون مع منطقة الشرق الأوسط الكبير بعد أن كانت باشرت في العقد الماضي ما سُـمي بالحوار مع البلدان المتوسطية.
والمهم الآن، ليس العودة إلى ما قد يكون أُنجز في إطار ذلك الحوار، وهو متواضع، وإنما أنه وجَـد جسورا هامة جديدة. فقلب التحفظ الشديد على الحلف الذي كان يعمّ المنطقة إلى حوار صادق ومفتوح على المستقبل.
وهكذا، فالمبادرة الجديدة تنضاف إلى بيان مجموعة الثمانية لأخذ نصيبها من الأهداف الإستراتيجية الجديدة التي تؤلّـف بين الدول المعنية بالإصلاح السياسي، ونشر الأمن المشترك، لأن الخطر مشترك فعلا. فلابد إذن من منظومة أمنية مشتركة، وهذا يصلنا بمسألة الإصلاح التي باتت ضرورة عميقة للبلدان العربية والإسلامية لحماية الأمن المشترك.
سويس انفو: تحاول أوروبا استبدال مسار برشلونة بسياسة الجوار. فهل سيضعها ذلك في مركز أفضل لمنافسة المشروع الأمريكي في المنطقة؟
أحمد ونيّس: يُـلاحظ المتتبع لتطورات عام 2004 مسارين: أولهما، الصراع الواضح والمركـّز على الساحة العربية والمتوسطية بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها، وهم أقطاب مهمّـة في أوروبا الغربية. أما الثاني، فهو اهتداء الدول العربية بعد مُـماطلة واشمِـئزاز طويلين إلى ضرورة الالتزام بإصلاح سياسي واجتماعي عميقين ومتطلعين للمستقبل.
هذان عنصران جديدان. أما الضغوط الخارجية فهي قديمة، إذ انطلقت مع مرحلة الإعداد للشراكة الأورو- متوسطية عام 1995، وخصوصا لدى صياغة إعلان برشلونة. ففي ذلك الوقت، تهرّبت دول جنوب المتوسط، وخاصة منها العربية، من الالتزام بإصلاحات جوهرية، وسَـعت إلى حصر الشراكة الموعودة في التنمية الاقتصادية. وهكذا، أقيمت الالتزامات المشتركة بين البلدان الأوروبية الخمسة عشر، والبلدان المتوسطية الاثني عشر على أساس الحوار الثنائي، وفي بعض المناسبات تتحوّل إلى الصيغة المتعددة، لكنها كانت مائعة.
ويمكن القول في محصّـلة العشر سنوات التي مضت، أن أوروبا اعترفت بعجزها عن تحقيق الأهداف السياسية المرسومة في إعلان برشلونة، وتحديدا في تحقيق إصلاح سياسي ديمقراطي ناجح، فاهتدت إلى ضرورة تعديل الأداة التي كانت الحوار السياسي والأمني، إلى أداة جديدة تُـتيح لكل بلد عربي معنِـي طرح المشاريع التنموية التي يعتزم تنفيذها على مدى سنتين أو أربع سنوات في إطار ما يُـسمى “برنامج عمل”، فتتفاعل معه بلدان الاتحاد الأوروبي على أساس حرية الخيار، وتمدّ له يد المساعدة في مشاريع ترتدي طابعا اقتصاديا.
ونحن نجهل مآل هذا المسار ونتائجه، لأن المشاريع التي أعدّتها البلدان العربية المتوسطية مازالت قيد الدرس لدى الأوروبيين. فمثلا تونس والمغرب قدّما مشاريع منفصلة، لكن لا نعرف ماذا سيكون مصيرها. وأعتقد أن هذا المنهج الأوروبي واقعي، إذ ظفرت أوروبا بضم البلدان الشرقية إليها، وهي التي تهمّـها وتُـراقبها مراقبة دقيقة، وقد أقحمتها في مسار إصلاحي شامل سياسي واجتماعي وإعلامي.
ونرى اليوم مثالا واضحا على تلك الإرادة الدافعة في أوكرانيا بمناسبة الانتخابات، مما أظهر أهمية الرقابة الأوروبية ومدى الحرص على سلامة الانتخابات الرئاسية واستيفائها لأركان الديمقراطية، بما في ذلك الطعن في نزاهتها إن لزم الأمر، وتلك مسألة باتت معروفة على رؤوس الملأ.
وأعتقد أن هذه الأزمة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، البلد الجار مثلنا، حبلى بالدلالات لأن الأوروبيين يتجاهلون الانتخابات التي جرت وتجري في البلاد العربية كما هو معلوم. وهذا يُـشير إلى مدى جدّية الطرف الأوروبي في تحقيق ما حدّده من أهداف استراتيجية في إعلان برشلونة.
فلما تكون تلك الأهداف متعلقة بدولة شرقية، تكون الضغوط منهجية وعميقة ونافذة المفعول، لكن لما يتعلّـق الأمر بدولة غير أوروبية، فإن الأمر لا يتجاوز الحوار السياسي، والأرجح أننا سنبقى في إطار هذا المنطق خلال السنوات المقبلة.
أجرى الحوار في تونس: رشيد خشانة.
السيد أحمد ونيّـس، سفير تونسي متقاعد، عمِـل ممثلا لبلاده في عدّة عواصم، منها موسكو ومدريد وواشنطن ونيو دلهي. كما شارك في المفاوضات المتعدّدة الأطراف حول السلام في الشرق الأوسط التي عُـقدت في أعقاب مؤتمر مدريد في بلدان مختلفة. وبعد إحالته على المعاش، درّس السفير ونيّـس في الجامعة التونسية كما عمل في “المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية” (مؤسسة رسمية تونسية) قبل أن يستقيل منه، وهو الآن عضو مراسل لعدد من مراكز الأبحاث الدولية، ومشارك في عدة مؤتمرات سياسية وأكاديمية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.