الإصلاح في مصر لا زال مُــؤجـلا
الحديث عن الإصلاح في مصر لم يتوقف منذ عقود طويلة. فهو مثار لندوات سياسية وفكرية ومطالبات حزبية، وعنوان دائم لكتب ومقالات لكبار الكتاب والمفكرين والسياسيين.
ومع ذلك، فهناك توافق عام بين القوى السياسية والشعبية في مصر على أن الإصلاح المنشود لم يأت بعد..
هناك توافق عام على أن الإصلاح المنشود لم يأت بعد، لكن يستثني منه هؤلاء المحسوبين على مؤسسات الدولة والحزب الوطني الديمقراطي الحاكم، والذين يرون أن الإصلاح في مصر مسيرة طويلة، بدأت منذ فترة وما زالت مستمرة، وأن الأمر سيحتاج سنين أخرى حتى يتم استكمال تلك المسيرة.
هذا الخلاف بين طبيعة الإصلاح المنشود وحدوده، وهل تم البدء فيه فعلا أم لا، وهل هناك خطوات ضرورية يجب الأخذ بها فورا، وأخرى يمكن تأجيلها، تمثل جزءا من الحوار السياسي العام، وزاد عليه ضغوط الخارج ممثلة في الأفكار والمشروعات الأمريكية والأوروبية التي وضعت موضوع إصلاح النظم العربية كأولوية دولية.
وفي كل من هذه الجزئيات، يمكن رصد بعض التوافق، والكثير من التباين بين الحزب الحاكم وحكومته من جانب، وبين جموع الأحزاب الأخرى وغالبية النخبة الثقافية والسياسية من جانب آخر، وهو تباين ممتد في الزمن وفي الموضوعات والقضايا، وكلها تتعلق بحاضر الوطن ومستقبله.
لكن المؤسف، أن قضية سياسية مهمة بحجم الإصلاح الشامل وتشريعاته وممارساته وقوانينه ومؤسساته، مازال البعض ينظر إليها باعتبارها قضية مناورات حزبية لا أكثر ولا أقل، متجاهلين أهمية القضية وارتباطها بمصير الوطن ككل في ظل ظروف تحمل الكثير من الحرج والخطر معا.
ومثل هذه النظرة الضيقة والخطرة معا، يمكنها أن تفسر التراجع عن مبادئ للإصلاح أُعلن عنها من قبل، ومشروعات لقوانين تم تفريغها من مضمونها، وأخرى تم الوعد بها ولم ترَ النور بعد. ويدخل في ذلك دعوات للحوار بين الأحزاب الشرعية، قال عنها الرئيس مبارك مرات عديدة سابقة، ولكن تم الالتفاف عليها من قبل الحزب الوطني الحاكم، حيث حوّلها إلى مجرد لقاء سري مع قيادات الأحزاب المعارضة، انتهت عمليا ببعض المقايضات غير المُـعلنة حول موضوعات صغيرة بعيدة تماما عن تطوير الحياة السياسية، والتي كان يُـفترض أن تكون محور تلك اللقاءات.
الحزب الوطني.. الإصلاح الثقافي أولا
الأمر المؤكّـد أن معنى الإصلاح المنشود وأولوياته هو جوهر الخلاف بين الحزب الوطني الحاكم، وبين جموع الأحزاب المعارضة وغالبية تنظيمات المجتمع المدني، بما فيها الإخوان المسلمين المحجوبة عن الشرعية.
والقضية هنا، ليست مجرّد مفردات للحركة السياسية والاقتصادية والثقافية، بقدر ما هي فلسفة عامة تخفي في طياتها مصالح كبرى مُـدمجة بصورة ما مع تصور لحالة الوطن، ومن يسوده ومن يقوده، ومن يصل أصلا إلى موقع تلك القيادة، وكيف يصل إليها.
فالحزب الوطني الذي يستعد لخوض غمار مؤتمره العاشر في 23 سبتمبر الجاري له رُؤاه المحدّدة بشأن الإصلاح، طرحها في مؤتمره التاسع الذي عُـقد في العام الماضي.
ففى وثيقة “حقوق المواطنة والديمقراطية”، أكّـد الحزب على أن الإصلاح يتطلب أولا تغيير البنية الثقافية، وتحسين العلاقة بين المواطن والدولة، وبتفعيل دور الشباب والمرأة والمجتمع المدني، وإعادة النظر في بعض القوانين المنظمة للعمل السياسي والأهلي، وأهمّـها قوانين الانتخابات والأحزاب والممارسة السياسية والنقابات المهنية. ولم تشر الوثيقة لا من قريب أو بعيد إلى أهم موضوعين يُـسيطران على مطالب الإصلاح السياسي، وهما رفع حالة الطوارئ وتغيير الدستور.
ووفقا لهذه الرؤية، فإن الإصلاح المطلوب هو جزئي، ويتعلّـق بإصلاح وتحسين بعض الممارسات السياسية والقوانين لا أكثر ولا أقل، وحسب المتداول، فإن الحزب في مؤتمره الجديد سيُـمرر بعض التعديلات في قوانين الأحزاب، ومباشرة الحقوق السياسية وقانون مجلس الشعب. ومن بين هذه التعديلات، تشكيل لجنة عليها للإشراف على الانتخابات العامة يُـعينها رئيس الجمهورية، وتكون مهمتها التنسيق مع جميع الأجهزة المسؤولة عن الانتخابات لضمان سلامتها، ووضع ضوابط لاستخدام المال في العملية الانتخابية.
أما قانون الأحزاب، فالتعديلات المنتظرة ستتضمن توسيع عضوية اللجنة وإلغاء عدد من المواد التي تفرض شروطا مُـعيّـنة على شكل برنامج الحزب. وبالنسبة لقانون مجلس الشعب، فتشمل تعديلاته تغيير المواد الخاصة بازدواج الجنسية، وأداء الخدمة العسكرية، وهما قضيتان أثارتا العديد من المشكلات في الانتخابات الأخيرة لمجلس الشعب، وصدرت بشأنهما أحكام من المحكمة الدستورية العليا والمحكمة الإدارية العليا.
المتأمل في مثل هذه التعديلات في القوانين المعمول بها، ينتهي إلى أن المطلوب من وجهة نظر الحزب الوطني هو مواجهة الثغرات التي ظهرت في التجربة الحزبية والعملية الانتخابية، وتحسين الأداء، ولكن دون تغيير فلسفة الحكم نفسه، ودون أن تكون هناك مساحة أكثر اتساعا للعمل الحزبي أو ضمانات أكبر وأكثر مصداقية للانتخابات البرلمانية. إنها فلسفة تحسين الوضع القائم في أضيق النطاقات الممكنة، وبما يوفّـر ضمان النخبة الحاكمة في مواقعها المضمونة.
والملاحظ هنا، أن المسكوت عنه، وهو تغيير الدستور وإلغاء حالة الطوارئ، يجعلان أي تعديلات في القوانين المعمول بها، مُـجرّد تغييرات في الهوامش وليس في الجذور.
والنقطة البارزة هنا، وفقا لوثيقة الحزب الوطني، أن التغيير والإصلاح مرهون أساسا بالتغيير الثقافي، وتلك بدورها قضية لا غُـبار عليها من حيث المبدأ والنظرية، ولكن حين تتحوّل إلى شرط لازم ومسبق لأي إصلاح سياسي، فهذا يعني أن الإصلاح السياسي بات مؤجّـلا إلى حين لا يعلمه إلا الله.
فالتغيير الثقافي لا معنى محدّد له، وهو عملية تحدث عبر الأجيال، وتتحكم فيها عوامل وأدوات شتّـى، من تعليم وفنون وتفسيرات دينية، ومؤثرات خارجية وتطور نوعى في الحياة. كذلك، فإن التغيير الثقافي مرهون ببيئة سياسية واجتماعية، وبالتحولات التي تُـجرى فيها، وإذا ظلت هذه البيئة على ما هي عليه دون تغيير، فكيف يُـمكن للتغيير الثقافي على مستوى المجتمع ككل، أن يحدث، وكيف يُـمكن رصد ملامحه، وكيف يُـمكن أيضا وصفها سلبا أو إيجابا؟
مثل هذه التساؤلات، بما لها من غموض في الإجابات، تعنى أن الذين وضعوا شرط التغيير الثقافي بكل ما فيه من إبهام وغموض مقصود، كانوا يؤكّـدون على أن النظام القائم سيظل على ما هو عليه، وأن إصلاحه لن يتعدّى مواجهة مشكلة هنا أو ثغرة هناك.
أحزاب المعارضة والمسكوت عنه
أحزاب المعارضة على الضفة الأخرى من النهر تطرح المسكوت عنها باعتباره جوهر الإصلاح المنشود، أي إلغاء حالة الطوارئ وتغيير الدستور. ففي بيانات أحزاب المعارضة المنفردة أو الجماعية، ثمّـة ثوابت مُـتّـفق عليها باعتبارها جوهر وأساس الإصلاح الذي يجب أن يتمّ البدء به فورا.
فالإصلاح الشامل يرتكِـز، من وجهة نظر هذه الأحزاب، على رفع حالة الطوارئ بما تعنيه من تقييد للعمل السياسي، وإلغاء فعلي للضمانات الدستورية الخاصة بالحريات، وتعديل الدستور، خاصة المواد الخاصة بسلطات رئيس الجمهورية، وبإلغاء تِـرسانة القوانين المُـقيّـدة للحريات السياسية والنشاط السياسي، وبعقد انتخابات حرة ونزيهة يُـشرف عليها القضاء أو لجنة مستقلة إشرافا كاملا.
موقف توافقي.. ولكن
برز هذا الموقف التوافقي لأحزاب المعارضة، لاسيما التجمع، والوفد، والناصري، والعمل جنبا إلى جنب عدد من المنظمات الحقوقية غير الحكومية، حين تم تشكيل لجنة الدفاع عن الديمقراطية في نوفمبر 2002. لكن اللجنة لم تنشط بحق إلا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، حيث طرحت في مايو 2003 برنامجا للإصلاح السياسي والدستوري من ست نقاط، وقّـع عليه رؤساء الأحزاب والمنظمات المشاركة في اللجنة.
وطالبت اللجنة في ندائها من أجل إصلاح سياسي ودستوري بانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة، وبإلغاء حالة الطوارئ، والإفراج عن المساجين السياسيين، وتوفير ضمانات الانتخابات الحرة النزيهة، وإطلاق حرية تشكيل الأحزاب، وكفالة استقلال النقابات المهنية والعمالية والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني، وإطلاق حرية إصدار الصحف وملكية وسائل الإعلام، وتحرير أجهزة الإعلام والصحافة القومية من سيطرة السلطة التنفيذية.
وتزامنا مع الإعلان عن نداء لجنة الدفاع عن الديمقراطية، وفي الثامن من شهر مايو2003، أعلن رؤساء أحزاب الوفد والتجمع والناصري والعمل في اجتماع لهم في مقر حزب الوفد، عن البدء في تشكيل جبهة وطنية تهدف إلى إعداد برنامج موحّـد للإصلاحات السياسية العاجلة المطلوبة في هذه المرحلة.
وقرر رؤساء الأحزاب تشكيل لجنة من ممثلين عن أحزابهم، لبحث إعداد البرنامج، وسُـبل إقناع جماهير الشعب وتنظيمات المجتمع المدني والحكومة به، علي أن تُـتَـوّج أعمال هذه اللجنة بمؤتمر جماهيرى عام، تشارك فيه جميع القوى السياسية المصرية.
بيد أن هذا التوافق على معنى الإصلاح السياسي المطلوب لم يُـرافقه أي عمل ميداني يشعر به المواطنون في الشارع، فلم ينعقد أي مؤتمر جماهيري، كما دبت الخلافات بين الأحزاب حول قضية مشاركة حركة الإخوان المسلمين في هذا النشاط السياسي، وجاءت دعوة الحزب الوطني لأحزاب المعارضة في ديسمبر 2003 لتزيد من عوامل الفرقة بين الأحزاب المعارضة. ومن ثَـمّ، لم يبق سوى التوافق النظري حول الإصلاح السياسي المطلوب.
لا جديد مرجح!
لم يختلف الوضع عشية انعقاد مؤتمر الحزب الوطني العاشر كثيرا عمّـا كان عليه الوضع قبل عام أو قبل نصف عام. فالأحزاب المعارضة اتفقت على عقد لقاء جماعي في اليوم نفسه، الذي ستبدأ فيه أعمال مؤتمر الحزب الوطني، وتلك بدورها تُـشكل في نظر الحزب الناصري مثلا، نقطة خلاف، حيث كان الأجدر أن تنهي أحزاب المعارضة اجتماعها، وتحدد مطالبها قبل أن يبدأ انعقاد المؤتمر الوطني، حتى يكون للمواطن القُـدرة على المقارنة من جانب، وتكون تلك المطالب نفسها إحدى مدخلات الحوار في مؤتمر الحزب الوطني من جانب آخر، ومن ثـَمّ، التأثير على مخرجاته من جانب آخر.
من الناحية العملية المرجحة، فلن يكون هناك جديد بالمرة بشأن تعديل الدستور أو إلغاء حالة الطوارئ، وسيظل الوطني مُـتشبثا بأولوية التغيير الثقافي، واستبعاد الحديث عن انتخاب رئيس الجمهورية أو الحد من صلاحياته.
فكل ذلك سيكون مرحلا إلى حين آخر، وما على أحزاب المعارضة سوى أن تواصل ضغطها السياسي من جانب، وأن تجد الوسائل لتضاعف من مكانتها وفعاليتها بين المواطنين من جانب آخر.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.