الإعلام الأمريكي .. هل يستفيد من الفضيحة؟
مارس الإعلام الأمريكي دوره لعشرات السنين كسلطة رابعة تراقب أداء السلطة التنفيذية، وتوفر نافذة للحوار بين الشعب والمسؤولين والمشرعين الأمريكيين.
في المقابل، يرى بعض المحللين أن دوره في كشف أخطاء وتجاوزات صُـنّـاع القرار قد تراجع كثيرا منذ شن الحرب الأمريكية على العراق.
مارس الإعلام الأمريكي دوره لعشرات السنين كسلطة رابعة فاعلة تراقب أداء السلطة التنفيذية، وتوفر نافذة للحوار بين الشعب والمسؤولين والمشرعين الأمريكيين.
ولكن بعض المحللين يرون أن دور الإعلام الأمريكي في كشف أخطاء وتجاوزات صُـنّـاع القرار تراجع كثيرا منذ شن الحرب الأمريكية على العراق، حيث اتسم بنوع من الرقابة الذاتية في أجواء تم فيها اتهام معارضي الحرب على العراق بعدم الوطنية.
وحتى عندما بدأت وسائل الإعلام الأجنبية تتحدث لعدة شهور عن وجود مخالفات وانتهاكات فاضحة لحقوق السجناء العراقيين وشكاوى من الصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية (منذ يوليو 2003)، لم تسارع وسائل الإعلام الأمريكية المشهورة بتحقيقاتها الجسورة للعمل على كشف الحقائق وسبر أغوار ما وراء أسوار سجون قوات الاحتلال الأمريكي في العراق.
ويقول داني شيشتر، عضو منظمة الإعلام الديمقراطي، والذي يُـنتج فيلما عن دور الإعلام الأمريكي في الحرب على العراق، إنه رغم أن شبكة التلفزيون الأمريكية CBS عرضت أول صور تنشر في العالم لفضيحة سجن أبو غريب، فإنها رضخت لطلب من رئيس هيئة الأركان الأمريكية الجنرال ريتشارد مايرز بتأجيل بث برنامجها “60 دقيقة” عن انتهاكات حقوق السجناء العراقيين لمدة أسبوعين، ولم تتخذ الشبكة قرارها ببث البرنامج، إلا عندما حاولت الاستعانة بالصحفي الجريء، سيمور هيرش كخبير لحسابها وأبلغها بأنه سينشر تحقيقا صحفيا عن الموضوع في صحيفة نيويوركر.
كما أن شبكة CBS لم تبحث عن الحقيقة وراء أسوار سجن أبو غريب، وإنما بدأت تعد البرنامج بعد أن سلمت أسرة جندي متهم بارتكاب جرائم ضد السجناء العراقيين الصور إلى شبكة التلفزيون الأمريكية، وفي عرضها للصور المفجعة، لم توجه أي انتقاد إلى ممارسات الحكومة الأمريكية.
ويرى الدكتور منذر سليمان، المحلل السياسي والعسكري أن رضوخ شبكة CBS لطلب الجنرال مايرز تأجيل بث البرنامج، يكشف النقاب عن أن وسائل الإعلام الأمريكية لم تعد تتصرف باستقلالية تامة، وتؤكد هذه الواقعة الاعتقاد بوجود تدخل سافر من وزارة الدفاع والبيت الأبيض في حرية وسائل الإعلام الأمريكية منذ بدء الحرب على العراق بشكل جعل منها وسائل منحازة للخط الرسمي للحكومة الأمريكية.
ولكنه يقول، إن من الإنصاف كذلك القول بوجود تحول في الآونة الأخيرة، حيث بدأت وسائل الإعلام الأمريكية تعبّـر عن مواقف انتقادية واضحة بسبب الوضع الميداني المتدهور في العراق بعد أن تأخرت كثيرا عن سبر أغوار الأكاذيب والمبررات المضللة لخوض تلك الحرب.
بداية تصحيح المسار
وفيما يتعلّـق بفضيحة أبو غريب، يرى الدكتور سليمان أن وسائل الإعلام الأمريكية تأخّـرت أيضا في لفت الأنظار إلى ما يحدث في السجون العراقية الخاضعة لسيطرة قوات الاحتلال الأمريكي، ثم ظهرت محاولات لتقليل القدر المُـتاح من المعلومات عن انتهاكات حقوق السجناء العراقيين في وسائل الإعلام الأمريكية التي كرّرت تبريرات المسؤولين الأمريكيين بأن الممارسات القمعية في سجن أبو غريب كانت تصرفات معزولة لعدد محدود من الأشخاص، بينما تُـظهر حقيقة الأمر وجود نمط متسق يستند إلى تعليمات وتوجيهات لانتزاع المعلومات، بغض النظر عما تضمنته اتفاقيات جنيف الخاصة بقواعد معاملة الأسرى والسجناء.
غير أن الاهتمام المبالغ في الكونغرس الأمريكي بالوقوف على حقيقة ما جرى في سجن أبو غريب، والتحقيقات المتتالية في لجانه أجبرت وسائل الإعلام الأمريكية على تصحيح مسارها، فتبارت بعض شبكات التليفزيون الأمريكي في كشف النقاب عن استئجار وزارة الدفاع الأمريكية لعدد من محققي جهاز الأمن الإسرائيلي المعروف باسم “الشين بت” لاستخدامهم في استجواب المحتجزين في سجن أبو غريب لمعرفتهم باللغة العربية وتمرسهم على انتزاع المعلومات واستنطاق السجناء بشتى الطرق القمعية. واستضافت شبكة ABC أمريكيين إسرائيليين تم توظيفهما في هذه المهمة، وأكّـدا أنه “لم تكن هناك أي محظورات في كيفية انتزاع المعلومات من السجناء”.
ويقول توم كرولي، الرئيس الجديد لوكالة “أسوشيتد برس” إن الوكالة تساند مركزا جديدا يناضل من أجل الضغط على الحكومة في واشنطن لمزيد من الانفتاح أمام وسائل الإعلام الأمريكية، وقال: “يجب أن يكون بوسع الصحافة مراقبة صنّـاع القرار، وقد أصبح الصحفي مضطرا لمواجهة صعوبات أكبر بكثير مما سبق ليُـمارس مهمته في الرقابة على الحكومة”.
ويتفق معه في الرأي، السفير الأمريكي السابق في العراق جوزيف ويلسن، الذي صرح لسويس إنفو بأن من يكشف كذب حكومة الرئيس بوش، يتعرض للمضايقة والانتقام، مثلما كشف مساعدو الرئيس بوش النقاب عن أن زوجته تعمل عميلة سرية في المخابرات الأمريكية وحرموها من الاستمرار في تلك المهمة الهامة للأمن القومي الأمريكي للانتقام من انتقاداته في مقال كتبه في صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان “ما لم أجده في أفريقيا”، وحذر من عدم دقة ما ورد في الكلمات الست عشرة المشهورة في خطاب الرئيس بوش عن حالة الاتحاد، حينما زعم أن العراق اشترى مواد نووية من النيجر، واستخدم الرئيس ذلك كأحد مبررات الحرب، رغم علم الإدارة الأمريكية بأنها أوفدت السفير ويلسن في مهمة رسمية أسفرت عن التوصل إلى عدم صحة هذا الإدعاء.
ويلاحَـظ أن شبكات التليفزيون الأمريكية الرئيسية – وعلى عكس الفضائيات العربية الإخبارية – لم تبث في فتراتها الرئيسية المسائية جلسات الاستماع التي انهال خلالها أعضاء الكونغرس بوابل من الأسئلة المُـحرجة على وزير الدفاع رامسفلد، كما أن صحيفة الواشنطن بوست نشرت بضع صور فقط من بين ألف صورة حصلت عليها.
“لم أعد أقرأ الصحف”
ويقول الدكتور منذر سليمان إن الصحف الأمريكية الكبرى دأبت في الأيام الأخيرة على احتواء الضرر الذي خلّـفته فضيحة أبو غريب من خلال تجنب نشر المزيد من الصور الجديدة على صفحاتها الأولى، واكتفت بدلا من ذلك بنشر صورة أو صورتين تُـظهر تهديد السجناء العراقيين بالكلاب وتعريضهم لهجماتها في الصفحات الداخلية الأخيرة.
وبرر الخبير ذلك بوجود سعي من البنتاغون والبيت الأبيض لاحتواء الأزمة السياسية الداخلية، وهو أمر دفع رامسفلد إلى اتخاذ قرار بعدم عرض المزيد من الصور في وسائل الإعلام بحجّـة الالتزام باتفاقيات جنيف والاقتصار على عرضها على أعضاء الكونغرس في غمار التحقيقات الجارية في فضيحة أبو غريب.
ولإظهار عدم اكتراثه بما تنشره الصحف الأمريكية، قال رامسفلد للجنود الأمريكيين أثناء زيارته المفاجأة لبغداد “إنني لم أعد أقرأ الصحف، وهذه حقيقة”.
ولكن للإنصاف، يجب القول بأنه لولا أن وسائل الإعلام الأمريكية نشرت تلك الصور الأولى، لما كانت تلك التحقيقات، ولما علم زعماء الكونغرس ولا العالم بمدى بشاعة انتهاكات حقوق السجناء العراقيين.
بين “أبو غريب” .. و “ماي لاي”
ولقد ربطت شبكة CNN الأمريكية بين فضيحة سجن أبو غريب والمذبحة التي ارتكبتها القوات الأمريكية ضد مدنيين فيتناميين عام 1968 التي عُـرفت باسم “فضيحة ماي لاي”، ولمّـحت إلى إمكان حدوث ضغط شعبي أمريكي للدفع باتجاه الخروج الأمريكي من العراق على غرار الخروج الأمريكي من فيتنام، غير أن الدكتور منذر سليمان له رأي مختلف: “مع التسليم بوجود مبرر للمقارنة بين العراق وفيتنام، نظرا للتشابه من حيث الأخطاء التي وقعت فيها القيادات السياسية العسكرية، واللجوء إلى التستر وإخفاء الحقائق، والتوغل في الحسابات الخاطئة والمكابرة، وعدم الاعتراف بالإخفاق الاستراتيجي، وإيهام الرأي العام الأمريكي بتحقيق تقدم ونجاح، ثم التغطية على العمليات الإجرامية بحق المدنيين الأبرياء أو أسرى الحرب، فإن التجربة مختلفة من حيث طبيعة القوى واختلاف الوضع الجغرافي، بالإضافة إلى عدم وجود قوى خارجية تدعم المقاومة الداخلية في العراق”.
ويخلص الدكتور منذر سليمان إلى القول بأن هناك أصواتا شُـجاعة داخل الولايات المتحدة، مثل الكاتب والصحفي الجريء سيمور هيرش الذي سبق له الكشف عن مذبحة ماي لاي في فيتنام، والذي كان أول صحفي أمريكي ينشر فضائح سجن أبو غريب، بالإضافة إلى أصوات بعض المسؤولين العسكريين والسياسيين الأمريكيين السابقين الذين واصلوا إطلاع الرأي العام الأمريكي على أخطار إدارة الحرب وما تلاها من عواقب في العراق بشكل أسهم في انخفاض شعبية الرئيس بوش بصورة واضحة بعد الكشف عن فضيحة أبو غريب. ومع ذلك، فلن يجبر هذا الوضع الرئيس بوش على التفكير في الانسحاب من العراق، كما أدى الضغط الشعبي في الماضي إلى الدفع باتجاه الخروج الأمريكي من فيتنام.
ويُـجمع المحللون وخبراء استطلاع الرأي العام في أمريكا على أن فضائح سجن أبو غريب التي تستحوذ يوميا على اهتمام متزايد من وسائل الإعلام الأمريكية، تنسف أحدث المبررات التي قدمها الرئيس بوش لشن الحرب على العراق، وهو مبرر نشر الديمقراطية وبناء دولة حديثة نموذجية في العراق تُـعطي للعالم العربي والإسلامي نموذجا رائدا للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فيما تنتهك القوات الأمريكية أبسط تلك القواعد.
ويتوقّـع هؤلاء الخبراء أن يكون لذلك تأثير متزايد في وسائل الإعلام الأمريكية مع زيادة التكاليف المادية والسياسية للحرب في العراق، ومع تصاعد الخسائر اليومية في أرواح الجنود الأمريكيين، وكذلك تصحيح إخفاق وسائل الإعلام الأمريكية في طرح تساؤلات قوية ومتلاحقة حول جدوى شن الحرب على العراق، وإساءة إدارتها والافتقار لوجود استراتيجية واضحة للخروج من العراق، وعدم التحسب لعواقب الاحتلال الخطيرة، خاصة من الناحية الإنسانية.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.