الإنتخابات الرئاسية وجمهورية مبارك الثانية
انتهت الانتخابات الرئاسية المصرية التعددية الاولى فى تاريخ البلاد، وجاءت النتائج كما كان متوقعا فى جانب، وحاملة بعض المفاجآت من جانب آخر.
ودشنت ما بات يعرف بالجمهورية الثانية، التى انسلخت من رحم الأولى التى بدأت عمليا مع ثورة يوليه، ومرت بمراحل ثلاث، وهى العهود الناصرية والساداتية وعهد مبارك الأول الذى استمر 24 عاما..
وهو العهد الذي انتهى نظريا مع التحول من اختيار الرئيس بالاستفتاء إلى اختياره عبر صناديق الاقتراع. مثل هذا التحول يعنى الكثير بالنسبة لمصر الحكم والدولة والناس أنفسهم. فالبلاد حققت خطوة مهمة على طريق التحول الديمقراطى الطويل جدا.
وهى خطوة ستظل بحاجة إلى خطوات أخرى لتزداد ثقافة الانتخاب والمنافسة والاختيار الحر رسوخا بين أذهان المواطنين، الذين ظلوا لفترة تقارب النصف قرن معتمدين تماما على دور الدولة الأبوى، ولم يتصورا حدوث اللحظة التى يصنعوا فيها الدولة والحكم على المقاس الذى يريدونه ويضحون من أجله.
وهو تحول ربما يعنى الكثير للمنطقة العربية ككل، لاسيما إذا وضعنا الأمور فى سياق الضغوط التى تُمارس من الداخل والخارج بهدف الإصلاح السياسى والتغيير السلمى وتعميق المشاركة وبناء نماذج ديمقراطية عربية يرى فيها المواطن العربى نفسه عنصرا فاعلا فى صنع القرار واختيار مستقبله.
فانتخابات مصر، ورغم ما جرى فيها من بعض تجاوزات وخروج على التعليمات القانونية، تشير فى جانب منها إلى أن الإصلاح السلمى فى البلاد العربية يتطلب شروطا عدة، لعل من أهمها قناعات النخبة الحاكمة بأن الزمن والعصر له متطلباته وسياساته، وأن من لا يتفاعل معها بكل جدية، سيكون مصيره الخروج من ساحة التاريخ، إلى ساحة الماضى والفوضى وضياع كل شئ.
مفاجأة تفوق أيمن نور
جاءت نتائج الانتخابات لتعكس ما كان متوقعا بقوة من حيث فوز مرشح الحزب الحاكم، ورئيس البلاد حسنى مبارك بنسبة فوز عالية زادت عن 88% بقليل. وحملت مفاجأة أن يحصل د. ايمن نور مرشح حزب الغد، وهو الحزب الأحدث ولا يزيد عمره عن عام، ليأتى فى المرتبة الثانية بنسبة 6.9%، وهى ضعف النسبة التى حصل عليها د. نعمان جمعة مرشح ورئيس حزب الوفد الذى يقترب عمره من 90 عاما.
وهنا ثار جدل آخر حول أسباب تفوق نور على نعمان. وحملت الإجابات أسبابا عدة منها الحيوية التى بدا عليها نور، وطرحه السياسى الذى توجه به إلى فئات الشباب وجماعة الأخوان المسلمين والأقباط، واعدا بأن يحقق لهم فى حال فوزه وخلال عامين وحسب نقلة سياسية ودستورية كبرى تتيح للجميع التواجد القانونى والشرعى على الساحة السياسية دون قيود أبدا.
وهو الطرح الذى وفر مساحة تأييد مهمة له من قبل هذه الفئات، وذلك على عكس د. جمعة الذى جاء طرحه تدرجيا لا يختلف كثيرا عن وعود مرشح الحزب الوطنى. فضلا عن معارضته المباشرة لممارسة الإخوان السلمين أى عمل سياسى أو الحصول على ترخيص قانونى لهم.
وأيا كان السبب الأساسى أو الفرعى وراء تفوق نور على جمعة، فقد بدا أن الأحزاب السياسية التقليدية بحاجة إلى عملية تجديد ذاتى على نحو سريع، وأن المجتمع المصرى يبحث بالفعل عن وجوه جديدة تعبر عنه سياسيا.
نسبية متدنية أم شرعية محدودة
لكن يظل مثيرا تلك النسبة المحدودة للمشاركة، والتى لم تزد عن 23% حسب النتائج الرسمية المعلنة، وهى نسبة لا تعنى فشلا لحزب بعينه، بقدر ما تعنى فشلا للحياة الحزبية نفسها، وتطرح من جانب آخر الحاجة القصوى إلى تضافر جهود كل القوى السياسية لإعادة بناء الثقافة السياسية لدى المواطنين، لتعلى من قيم المشاركة وتخفف من السلوك الشعبى الشائع والقائم على تجنب العمل السياسى حتى ولو كان ممارسة حق التصويت.
هذه النسبة بدورها فجرت جدلا سياسيا تعلق بمدى الشرعية التى يتمتع بها الرئيس الفائز، وهنا يميل المعارضون للانتخابات أصلا إلى اعتبار النسبة المتدنية للمشاركة نتيجة منطقية لغياب الثقة المتبادلة بين الناس ونظام الحكم، وأيضا نتيجة دعوات المقاطعة التى قامت بها أحزاب المعارضة، وفى كل الأحوال فهى دليل على أن الجمهورية الثانية لمبارك ضعيفة من حيث شرعيتها الشعبية.
فى الجانب الآخر يرى المؤيدون أن هذه النسبة أعلى من أى نسب مشاركة تحققت فى الانتخابات الماضية، وهذا تطور مهم فى حد ذاته، وأن الذين شاركوا عبروا عن موقفهم واختيارهم بكل حرية، وتلك هى أساس الشرعية، ناهيك عن أن كل الذين لم يشتركوا فى التصويت لسبب أو لأخر لا يعنى انهم معارضين لمبارك بالضرورة أو مؤيدين تلقائيين لدعوة المقاطعة.
ظواهر فى الحملة الانتخابية
نتائج الانتخابات على النحو السابق، وما فجرته من جدل ورغبة فى تطوير العمل الحزبى والبحث عن مُحفزات لتوسيع المشاركة السياسية بين الناس، تعد وثيقة الصلة بما جرى فى الحملة الانتخابية من جانب والطريقة التى سارت عليها عملية الاقتراع من جانب آخر.
فقد حفلت الانتخابات الرئاسية بكثير من الظواهر، وكل منها يعبر عن حالة التحول الديمقراطى، الذى يتشكل من الشئ ونقيضه فى اللحظة ذاتها. ومن أبرز تلك الظواهر ثلاثة:
فللمرة الاولى جرت حملة انتخابية طرح فيها المرشحون العشرة برامجهم على المواطنين طالبين منهم التأييد والمساندة. وتلك بدورها وضعت المواطنين أمام حالة اختيار لم تكن معهودة من قبل.
وفى الحملة أيضا تكشفت حدود الحياد الذى مارسته أجهزة الدولة المختلفة، لاسيما جهازى الأمن والإعلام. والحياد نفسه بالمعنى المتعارف عليه كان يمثل اختبارا قاسيا لهؤلاء الذين اعتادوا التدخل وممارسة سياسة الحشد والتعبئة الموروثة من عهد الحزب الواحد. وهو اختبار تراوح فيه النجاح بين 50% و70%.
فبينما حافظت وسائل الإعلام القومية المقروئة والتابعة لمجلس الشورى على قدر ملحوظ من الميل إلى مرشح الحزب الوطنى الحاكم، جاء أداء الأمن متوازنا بين المرشحين العشرة، وكذلك يوم الانتخاب نفسه، حيث انزوى تماما الحضور الأمنى المكثف الذى كان يتحكم فى كل كبيرة وصغيرة فى العملية الانتخابية فى المناسبات السابقة.
وكذلك جاء أداء القنوات التلفزيونية الحكومية معبرا عن حالة انفتاح سياسى على الأحزاب المعارضة لم تكن معروفة من قبل. وبات مثيرا أن تطل على المصريين تلك القنوات وكذلك البرامج الإذاعية بأحاديث وتصريحات للمرشحين من كافة الأحزاب تأكيدا لسياسة الانفتاح السياسى الداخلى.
جدل حول الإشراف القضائى
أما الظاهرة الثانية فتعلقت بالرقابة والإشراف القضائى على مجريات عملية الانتخاب. وتلك جرى فيها الكثير من اللغط والجدل، ورجع ذلك إلى خلافات وانقسامات داخل القضاة أنفسهم، على خلفية تنظيم عملية الإشراف ومن له حق الإشراف من القضاة ومن لا يتمتع بهذا الحق.
وقد امتد الجدل ليشمل قطاعا من القضاة يمثلهم نادى القضاة وبين المجلس الأعلى للقضاء وهى مؤسسة تخضع لسيطرة السلطة التنفيذية، وكذلك بين القضاة واللجنة الرئاسية المخولة الإشراف على الانتخابات الرئاسية والتى تتمتع قراراتها وأحكامها بعدم النقض من أى جهة قضائية، لاسيما قرارها الخاص بنتيجة الانتخابات نفسها.
وحتى اللحظات الأخيرة التى تسبق بدء عملية الاقتراع، كانت هناك ملفات ذات طبيعة قانونية لم تحسم بعد. ولكن رؤى اتخاذ قرارات تنفيذية لها ذات طابع انفتاحى، خاصة السماح لمنظمات المجتمع المدنى بمتابعة الانتخابات حتى من داخل اللجان، رغم خضوعها نظريا للإشراف القضائى الكامل.
رقابة مدنية .. ولكن!
أما الظاهرة الثالثة فهى الرقابة المدنية، ورغم كل القيود وعدم وضوح الأساس القانونى الذى مورست بناء عليه متابعة الانتخابات من قبل منظمات المجتمع المدنى، وتضارب قرارات المحاكم الإدارية بشأن السماح أو عدم السماح بهذه المتابعة، فقد جرت بالفعل عملية متابعة لما لا يقل عن 60% من عدد دوائر الاقتراع.
وظهرت فى يوم الانتخاب نفسه الكثير من التقارير الأولية الصادرة عن منظمات وجماعات مدنية مصرية تشير إلى تجاوزات فى كثير من الدوائر، ولاسيما خارج المدن الكبرى، ولكنها أشارت أيضا إلى محدودية التدخل الأمنى فى العملية الانتخابية.
ولعل القيمة الكبرى لهذا التطور يتلخص فى أمرين، الأول منهما أن القائمين على الانتخابات باتوا يدركون أن هناك من يراقب عملهم ويمكنه أن يفضح تلك التدخلات إن حدثت، وبالتالى يؤثر على شرعية الحدث أو على الأقل يخدش نقائه المفترض. وتلك بدورها نقلة مهمة فى الحياة السياسية المصرية، بات ضروريا التعامل معها بمزيد من الشفافية.
والأمر الثانى أن منظمات المجتمع المدنى التى حرصت على متابعة الانتخابات ودخلت فى تحالفات وعمليات تنسيق ضمت فى أحدها 22 منظمة مدنية، قد أثبتت أنها باتت عنصرا مهما فى عملية التحول الديمقراطى، وان من الصعب جدا أن يحدث التراجع أو تقييد دور هذه المنظمات، بل الأرجح أن دورها سوف يتزايد فى المرحلة المقبلة، وسيكون عليها مزيد من المسئوليات، لاسيما فى إطار تنمية الوعى السياسى لدى المواطنين البسطاء، وتوسيع رقعة المشاركة السياسية، أو بعبارة أخرى المساهمة فى رفع نسبة 23% إلى مستويات أعلى.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.