الانتخابات المصرية ومعضلات التحول الديمقراطي
على عكس ما توحي به التطورات الأخيرة، لا يقتنع كثير من المهتمين بالشأن العام من المصريين بأن بلادهم تمر بمرحلة تحول ديمقراطي..
كما يعتقدون بأن ما يجري، ليس سوى محاولة من قبل النظام لامتصاص الضغوط الخارجية والداخلية، وبالتالي، ضمان الاستمرارية وإعادة إنتاج نفس السياسات..
يعرب كثير من المهتمين بالشأن العام من المصريين عن عدم اقتناعهم بأن بلادهم تمر بمرحلة تحول ديمقراطي، وهم يعتقدون بأن ما يجري (في سياق الإنتخابات البرلمانية الحالية) ليس سوى محاولة من قبل النظام لامتصاص الضغوط الخارجية والداخلية، وبالتالي، ضمان الاستمرارية وإعادة إنتاج نفس السياسات.
لكن الذين يتابعون ما يحدث من خارج مصر، يشعرون بأهمية ما يحدث مقارنة بأوضاع دول عربية أخرى تفتقر للكثير من الحريات، وتتمنى نخبها أن يتوفر لها جزء مما أصبحت تتمتع به قوى المعارضة والمجتمع المدني في مصر “المحروسة”.
وبناء عليه، فإن الذي يراقب القطار من خارجه، يمكنه أن يلاحظ مدى سرعته، خلافا لراكبه الذي تبدو له الأشياء ثقيلة وبطيئة. فما هي أبرز دلالات الانتخابات البرلمانية المصرية في ضوء نتائج ووقائع المحطتين اللتين شهدتا هرجا ومفاجآت غير منتظرة؟
إشكالية التحول الديمقراطي
أول ما يتبادر إلى ذهن المراقب لما حصل في مصر أو في دول عربية أخرى، هو أن يطرح السؤال التالي: هل تقدر الأنظمة القائمة على أن تدير بنفسها عملية التحول الديمقراطي دون أن تفتح المجال أمام المجهول أو ترتد على أعقابها فتهرع من جديد لغلق الأبواب والنوافذ واللجوء إلى مختلف أساليب القمع لضمان البقاء بحجة حماية الاستقرار؟
ومرد هذا السؤال، أن الدولة الحديثة التي تشكلت في المنطقة العربية بعد خروج الاستعمار المباشر، قد قطعت مع النمط الليبرالي النسبي الذي تشكل في ظل الهيمنة الأجنبية، واستبدلته بسلطة مركزية قامعة تستند على التنظيم السياسي الأحادي، وتقدم التنمية الاقتصادية وحماية الاستقلال الوطني على حساب الحريات والديمقراطية. وقد استمر هذا النمط السياسي نصف قرن على الأقل في العديد من الدول، مما جعله عرضة للتكلس والفساد والإصابة بالشلل الدستوري والمؤسساتي.
لهذا، ما أن يدفع هذه النظام السياسي نحو محاولة بناء الشرعية على أسس مغايرة مثل حرية الاختيار الشعبي، وما يقتضيه ذلك من تخفيف القبضة على المواطنين والمجتمع المدني، حتى تنجلي بسرعة مقاتل السلطة، وتشعر بالخطر، مما يدفعها بوعي أو بغير وعي إلى تشغيل آلياتها القديمة الخارجة عن القانون، والموازية للدولة.
وهنا تكمن إحدى إشكاليات التحول الديمقراطي في العالم العربي. فمن جهة، يوجد وعي لدى الكثيرين، بما في ذلك الإخوان المسلمون، بمخاطر اللجوء إلى العنف كوسيلة للتغيير السياسي والاجتماعي، لأن التجارب بيَّـنت أن ما يُـبنى على العنف، لن يفتح الباب أمام مبدأ التداول السلمي على الحكم.
وبما أن الأنظمة القائمة قد احتكرت الشأن العام لعقود كثيرة، وأن ذلك الاحتكار قد أدّى إلى ضعف القوى السياسية والمدنية، وحال دون توفر بدائل مقنعة، فقد أصبح تشريكها في عملية الإصلاح السياسي، شرط لابد منه.
لكن، وفي المقابل، فإن هذه الأنظمة بحكم بنيتها وحجم المصالح الضخمة التي تتمتع بها بعض الشرائح الاجتماعية التي ارتبطت بها، لا تزال تعمل بكل جهد من أجل التحكم في معدلات التغيير حتى لا تتجاوز درجة معينة تفقدها الانفراد بالتوجيه والقيادة.
هذا التجاذب بين الانخراط في الإصلاح والاستمرار في محاولة إفراغه من نتائجه الحتمية، يقود تدريجيا إلى تآكل جزء من السلطة السياسية، وفي المقابل، بروز قوى قد تكون غير مهيأة لحسن إدارة معضلات المراحل الانتقالية.
تحدي الإخوان
“الإخوان المسلمون” حركة صمدت عشرات السنين، بالرغم من عوامل الضعف الكثيرة التي لازمتها منذ الـتأسيس عام 1928، وتفاقمت بعد تعرّضها للقمع والإقصاء لفترة تزيد عن نصف قرن، ورغم النزيف البشري الذي تعرضت له خلال السنوات الأخيرة، فقد بقيت تشكل ملجأ رمزيا لعدد واسع من المصريين.
ولاشك في أن تاريخها، وخوف السلطة منها، وتركيزها المستمر على مسألة الخدمات الاجتماعية، واستثمارها القوي للمشاعر الدينية قد ساعدها كثيرا على أن تفرض نفسها كقوة سياسية مهددة لموازين القوى الحالي. لكن، هل يُـعتبر ذلك كافيا ليجعل هذا التنظيم الذي انقطع عن الممارسة السياسية الفعلية، ولا يملك كوادر حقيقية متمرسة على قضايا الدولة والمجتمع الحديث، قادرا على أن يتحول من حركة احتجاج إلى قوة اقتراح واعية بتحديات المرحلة؟
ويكتسب هذا التحدّي مزيدا من الأهمية عندما تتجلى بشكل درامي هشاشة النخب الحديثة، ممثلة في انهيار يسار لم يتمكن من تجديد نفسه وكسب ثقة الجماهير. هذه النخب، التي غالبا ما تحاول تحميل الأنظمة أو الإسلاميين عجزها وفشلها، في حين أن تاريخها وحاضرها يدلان على أن الأزمة ذاتية، وأن المراجعة يجب أن تبدأ من مساءلة النفس والإسراع بإحداث المراجعات الكبرى والجذرية. فدور هذه النخب هام جدا في عملية التحول الديمقراطي، لأنه مع استمرار ضعفها وانهيارها، ستقع الحياة السياسية فريسة التنازع القطبي الثنائي بين أنظمة تعاني أزمة شرعية من جهة، وبين حركات إسلامية يدفعها الفراغ نحو مغامرات فاقدة لشروط النجاح.
هذا الاستقطاب الثنائي، من شأنه أن يثير مخاوف داخلية وخارجية، وقد يؤدي في النهاية إلى ترسيخ الاعتقاد بأن المنطقة العربية لا تحتاج إلى ديمقراطية حقيقية، بقدر الاحتياج إلى دولة قوية وسلطة متحكمة تحمي المصالح، وتوفر الاستقرار الأمني، وتكون متفاعلة مع مطالب القوى الدولية المهيمنة.
ومن هذه الزاوية، وفي ضوء المعطيات السابقة، فإن الانتخابات البرلمانية المصرية وما كشفت عنه من مؤشرات، من شأنها أن تجعل جميع الأطراف تدرك بأنها أمام منعرج جديد وخطير.
فالسلطة مطالبة بالتحكم في تجاذباتها الداخلية وتساقط أجزاء من أعمدتها، والنخب العلمانية مدعوة إلى البحث عن الأسباب العميقة التي جعلتها تفتقر لأرضية جماهيرية، والإسلاميون، سواء منهم المستقلون عن الإخوان أو الملتفون حولهم، مطالبون بتحجيم ذاتي لوزنهم والتحكم في تطلعاتهم وفي رغبة الكثير منهم في الوصول إلى الحكم بغية إقامة “الدولة الإسلامية”، ذاك الشعار الغامض الذي بقدر استبطانه لقيم الحق والعدل، فإنه قد سبق وأن أفضى إلى تجارب سياسية مريرة.
إن مصر تمر بمنعرج لن تقف تداعياته عند الحدود المصرية، وإنما ستمتد بالضرورة لتؤثر سلبا أو إيجابا على كثير من الدول العربية الحريصة على تحصين أوضاعها ضد مختلف المؤثرات الخارجية.
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.