البريطانيون يكتـوُون بلهيب البصرة
جاء إسقاط مروحية عسكرية بريطانية في البصرة ليُسجل تطورا في شكل العمليات المسلحة التي ما انفكت تستهدف القوات البريطانية والدنماركية في الجنوب العراقي، خاصة البصرة.
المؤكد أن جنوب العراق دخل مرحلة جديدة من الصراع بين القوى المناهضة للاحتلال، والاحتلال وما نتج عنه من حكومة عراقية، وإن كانت منتخبة!
في السابق، كان تفجير عبوات ناسفة بشكل متقطع على طريق الريموت كونترول (التحكم عن بعد)، هو ما يميز العمليات المسلحة ضد قوات الاحتلال في البصرة، عدا تفجير سيارة مفخخة في شارع الجزائر، حصل في وقت سابق من العام الماضي ونسبه الأهالي والشرطة العراقية إلى “إرهابيين”.
أما بعد إسقاط المروحية البريطانية ومقتل ما لا يقل عن 5 عسكريين فيها، فإن المؤكد هو أن الجنوب العراقي دخل مرحلة جديدة من الصراع بين القوى المناهضة للاحتلال من أهالي البصرة، والاحتلال وما نتج عنه من حكومة عراقية، وإن كانت منتخبة!
المرحلة الأخطر للقوات البريطانية
ما جرى أن مروحية بريطانية أسقطت بصاروخ، ربما يكون من طراز ستريللا، وهو سلاح لا تملكه في الغالب الجماعات المسلحة، على الأقل في البصرة التي كانت شهدت في السابق مواجهات واشتباكات عنيفة بين البريطانيين وجماعة جيش المهدي.
وفي كل المواجهات مع التيار الصدري في أماكن أخرى من العراق، لم يعرف عن جيش المهدي أنه استخدم مثل هذا السلاح حتى في أخطر مراحل القتال التي كانت تهدف إلى تصفية زعيمه السيد مقتدى الصدر.
طبعا أن لجنة التحقيق البريطانية التي لا يشارك فيها عراقيون، هي من سيحدد ما إذا كانت المروحية أسقطت بصاروخ، هذا إذا رأت المصلحة البريطانية إعلان الحقيقة كما هي!
وإذا تبين بالفعل أن صاروخا هو من أسقط المروحية، فان جميع من في البصرة وخارجها متّـفق أن هذه المرحلة هي الأخطر على القوات البريطانية منذ اجتياح العراق في مارس 2003، خصوصا وأن الطائرة العمودية التي أسقطت هي من طراز لينكس، وأنها مزودة بأجهزة مضادة للصواريخ تشمل مصادر حرارية لتضليل الصواريخ التي تتعقب الأجسام التي يصدر عنها حرارة، وأجهزة تحذير وتشويش إلكترونية. ويتكون طاقم اللينكس من فردين، وثالث لإطلاق النار من باب المروحية التي يمكنها أيضا حمل عشرة جنود آخرين.
علامات استفهام
في البصرة، عدة ميليشيات مسلحة تتوزع بين قوات بدر وجيش المهدي وبعض المجموعات المسلحة التابعة لمنظمات حزبية، كما يعمل فيها أنصار النظام السابق، وبعض عناصر الأردني أبو مصعب الزرقاوي، وإن بشكل محدود.
وفي البصرة، يكثر الحديث عن نفوذ إيراني وجماعات المعارضة لنظام الجمهورية الإسلامية، ومنهم طبعا عرب الأهواز والمنادون باستقلال هذا الإقليم الغني بالنفط والغاز، ولم يتبن أي منهم المسؤولية عن إسقاط الطائرة، ربما لزيادة الغموض حول الرسالة التي يريد من يقف خلف العملية إيصالها إلى بريطانيا الحليف والتابع للولايات المتحدة في سياساته بشأن العراق، وتجاه دول مثل سوريا وإيران.
من الناحية النظرية، خصوصا بالنسبة لأعداء إيران، فإن الأخيرة غير مستبعدة من توجيه أصابع الاتهام لمن قام بتلك العملية، لأن إيران ربما تكون المستفيد الأكبر من زعزعة الأوضاع في البصرة، وهي تتهم باستمرار القوات البريطانية بدعم من تسميهم “بانفصاليي الأهواز”.
هؤلاء الانفصاليون أيضا يروّجون لأنباء غير مؤكدة عن تواجد بعض عناصر حزب الله (لبنان) في مدن إقليم الأهواز، ويقولون إن حزب الله الذي يملك بالطبع أسلحة متطورة، متهيئ للقتال إلى جانب إيران إذا تعرضت لاعتداء على خلفية برنامجها النووي.
لكن تصريح الشيخ “أسعد البصري” من مكتب الشهيد الصدر في البصرة لقناة العالم الإيرانية، أن صاروخ ستريللا يباع في السوق السوداء داخل العراق، وقوله أن العراقيين يملكون خبرات عسكرية متقدمة بسبب حربي العراق مع إيران ولاحتلال الكويت، يثيران أكثر من علامة استفهام حول الجهة التي أسقطت المروحية البريطانية.
البصري بدا غير مؤيد لإسقاط المروحية بقوله أن توقيت العملية أمر لا يؤيده موضحا “أن الجهة التي أسقطت المروحية قد لا تجيد قراءة الواقع السياسي في البصرة”، في إشارة إلى أن للبصرة حصوصياتها.
تدهور أمن البصرة
أما قوات بدر، وهو ذراع عسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، فإن حسن كاظم الراشد أحد قادتها في البصرة، وهو المحافظ السابق وعضو مجلس المحافظة (السلطة المحلية)، يشير إلى الجماعات المسلحة التي تطلق على نفسها اسم “المقاومة”، وذكر أن “الإرهابيين نقلوا عملياتهم إلى المناطق الأكثر أمنا”.
كانت بريطانيا قررت أنها ستسحب 10% من قواتها من العراق (البصرة تحديدا)، حيث يوجد 8500 جندي، ومن المتوقع كما يرى الراشد، أن تتعرقل هذه الجهود، وكشف في حديثه أن اجتماعا عُـقد في بغداد قبل أسبوع من إسقاط المروحية، بحضور حكام محافظات الجنوب، وقادة عسكريين بريطانيين، وجرى البحث حول آلية سحب بعض القوات البريطانية من البصرة.
إسقاط المروحية والمواجهات التي اندلعت بين القوات البريطانية والمواطنين، سلّـطا الضوء على حقيقة باتت أمرا مسلَّـما به في البصرة، وهي أن الأمن في البصرة يسير في اتجاه التدهور، فاليوم أفضل من الأمس، وغدا أسوء من كليهما.
المهم في كل ذلك أن المعومات أكّـدت أن نوري المالكي، رئيس الوزراء المكلف، استدعى يوم الثلاثاء الماضي لبحث هذا التطور النوعي، بعد أن اتفقت السلطة المحلية في البصرة وقيادة القوات البريطانية على إعادة التعاون بينهما بعد تعليق للعلاقات استمر عدة أسابيع.
بعد أن سقطت المروحية في منطقة الساعي قرب الجسر الأحمر، جاءت قوات بريطانية لإنقاذ العسكريين البريطانيين أو انتشال جثثهم من وسط النيران التي كانت مشتعلة، إلا أن جماهير المنطقة منعوهم ورشقوهم بالحجارة وحصلت مواجهات أكّـدت بما لا يقبل مجالا للشك أن البصرة لن تظل الأهدأ من بين مدن العراق.
وفعلا تحوّلت عملية إسقاط المروحية البريطانية بالقرب من مبنى المحافظة إلى مظاهرة شعبية، ومن ثم إلى مواجهات دامية استخدم الأهالي خلالها قذائف الآربي جي، إثر قيام المتظاهرين بإحراق ثلاث مدرعات وعجلة عسكرية من نوع لاندروفر، الأمر الذي أدى إلى سقوط قتلى وجرحى من بينهم أطفال.
أصابع الاتهام موجهة لإيران
تضع هذه التطورات البريطانيين للمرة الأولى أمام اختبار حقيقي في كيفية مواجهة هكذا أحداث في مدينة حدودية قد لا تبتعد كثيرا عن أية مؤثرات خارجية، وهذا ما عكسه قرار حظـر التّـجوال في عموم البصرة… وقد كانت محاولة لضبط الأمور كي لا تخرج عن السيطرة.
وتشير القوات البريطانية دائما بأصابع الاتهام إلى الدور الإيراني في اضطرابات سابقة شهدها جنوب العراق، وهو ما دأبت إيران على نفيه دائما. وقد لا يكون خافيا أن الشعارات التي ردّدها المتظاهرون حملت تائيدا لجيش المهدي التابع للتيار الصدري.
وفي خطوة، ربما هي الأولى من نوعها وبدبلوماسية تهدف إلى وقف غضب الشارع البصري، قدمت السفارة البريطانية في اليوم التالي تعازيها إلى أهالي المدينة ووعدت باسم الحكومة البريطانية بتسريع وتيرة الإنماء والإعمار عبر تشكيل غرفة للإنماء والاقتصاد في البصرة، بحسب ما أفاد به لسوس انفو محافظ البصرة محمد مصبح الوائلي.
أعادت تطورات البصرة إلى الواجهة من جديد العلاقات المتوترة بين مجلس المحافظة والقوات البريطانية، وتمّ في مبنى القنصلية البريطانية الاتفاق على عودة علاقات التعاون بين الطرفين، بعد تعليق استمر أشهر عدة على خلفية فضيحة إساءة جنود بريطانيين معاملة مواطنين في البصرة، والاعتقالات العشوائية التي استهدفت في الغالب عناصر من التيار الصدري، والأهم من ذلك، اعتقالات القوات البريطانية لكبار ضباط الشرطة العراقية في البصرة بزعم تورطهم في فساد وعمليات خطف وقتل مواطنين.
وشمل الاتفاق أيضا تطهير الشرطة من جيوب الفساد وتقديم القوات البريطانية الدعم المطلوب للأجهزة الأمنية العراقية في مهمتها الشاقة والعسيرة في ظل تطورات إقليمية ودولية متلاحقة وسط حديث عن تحشيد عسكري أمريكي على مناطق الحدود مع إيران، وبشكل خاص في الفاو وأبو الخصيب، ونشر إيران ثلاث كتائب من الحرس الثوري في ثلاث مناطق متاخمة مع العراق!
نجاح محمد علي – دبي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.