التغيير فى مصر بين السياسات والأشخاص
يعيش المصريون منذ أسبوعين سلسة من الأحداث، احتار الرأي العام في تأويلها وربطها ببعضها وانعكاساتها على المستقبل.
فبعد إجراء العملية الجراحية بنجاح للرئيس مبارك، لا يزال المصريون في انتظار ما ستحمله الأيام القادمة من مفاجآت بعد فترة طويلة من حالة “اللا جديد”.
المصادفة وحدها قادت إلى تزامن ثلاثة أحداث تتعلق بالوضع الداخلى فى مصر. أولها، صدور عدد مجلة النيوزويك الأمريكية الشهيرة بتاريخ 21 يونيو 2004، وعلى غلافها صورة جمال مبارك نجل الرئيس متطلعا إلى الأمام، وعنوان بارز مفاده أن تغيير الشرق الأوسط الحقيقى يكمن فى القاهرة، وليس فى بغداد.
وثانيها، الإعلان عن مرض الرئيس مبارك وحاجته إلى علاج فى الخارج غير معروف المدة، فى وقت ثار فيه لغط كبير حول قرب تغيير مهم فى الحياة السياسية. وثالثا، قرار الرئيس بترك وزير الإعلام صفوت الشريف منصبه الوزارى ليرشح نفسه رئيسا لمجلس الشورى.
هذه الأحداث الثلاث تصب جميعها فى قناة واحدة عنوانها “التغيير والإصلاح فى مصر وأبعاده المختلفة”، وكل منها يتعلق ببعد مهم فى هذه العملية المعقدة. فتحقيق المجلة الأمريكية الشهيرة يركز على بعد خاص يسميه المصريون الوراثة السياسية.
ورغم أن مضمون التحقيق وما شمله من صور بائسة من حياة بعض الفئات الهامشية وانتقادات رجال الأعمال للسياسات الاقتصادية، وإشارات محدودة فى سياق معكوس لدور نجل الرئيس مبارك على الصعيد الحزبى، لا يوحى بعلاقة مباشرة بين صورة الغلاف والمضمون، إلا انه يصب فى بلورة قناعة بأن تغيير مصر وتحسين أحوالها مرتبط بأشخاص بعينهم، يُشاع عنهم ميلهم إلى الأفكار والسياسات الأمريكية، وهى قناعة لا تجد جذورا قوية لها لدى المواطن المصرى الذى يأخذ تأكيدات الرئيس مبارك على مجمل الجد، وهى تأكيدات تركز على أن انتقال السلطة فى مصر يخضع للاعتبارات الدستورية والمؤسسية، وليس الأمزجة الشخصية أو الاعتبارات الأسرية الضيقة.
المفاجأة الأكبر
وتظل المفاجأة الأكبر والمؤشر الأهم معا فى إطار التغيير المنتظر مصريا، أن يترك صفوت الشريف، وزير الإعلام المصرى موقعه بطلب من الرئيس مبارك وهو بعيد عن أرض الوطن لكى يتولى رئاسة مجلس الشورى، وهو غرفة تشريعية ثانية محدودة الصلاحية يختار رئيس الجمهورية نصف عدد أعضائها والنصف الأخر بالانتخاب المباشر، حيث جرت العادة ألا ترشح أحزاب المعارضة أيا من منتسبيها لهذه الانتخابات، ولا يعيرها المواطنون أى نوع من الاهتمام تجسيدا لإدراكهم الطبيعة الرمزية للمجلس ككل.
هذا الانتقال لأحد الوجوه الرئيسية فى حقبة الرئيس مبارك من منصب وزارى مهم ظل فيه الشريف مدة تزيد عن ربع قرن من الزمن يؤثر فيها على توجهات الرأى العام المصرى إزاء معظم القضايا الخارجية والداخلية معا إلى منصب ذى طبيعة رمزية فى مجمل الحياة السياسية تكمن أهميته فى كونه خطوة نحو عملية تغيير لم تتضح معالمها الكلية بعد، ولكن فيها حتما تغيير الكثير من رموز العقدين الماضيين.
فالرجل ظل مُحاطا باعتقاد شعبى أنه غير قابل للتغيير أو الابتعاد عن الدائرة المباشرة التى تؤثر على صنع القرار فى مصر جنبا إلى جنب عدد آخر من الوزراء الكبار الذين ورثهم الرئيس مبارك من عهد سابقه الرئيس السادات، وظلوا معه طوال حكمه حتى الآن، وباتوا أيضا من رموز عهده. ومن أبرزهم د. يوسف والى، وزير الزراعة، والسيد كمال الشاذلى، وزير شؤون مجلسى الشعب والشورى وأمين التنظيم فى الحزب الوطنى الحاكم، وعدد آخر من الوزراء الذين يشغلون مناصبهم منذ حوالى عقد أو اكثر، ومن بينهم وزير التعليم ووزير التعليم العالى ووزير الثقافة وغيرهم كثير.
وهنا تكمن المفاجأة للكثيرين بمن فيهم الذين يطالبون بتغيير شامل فى الأشخاص والسياسات والمفاهيم والتطبيقات. فإذا كان مسؤول من وزن صفوت الشريف تمت إزاحته عن منصبه، فهل سيواجه المصير نفسه مسؤولون آخرون من نفس الوزن السياسي؟ وهل المنتظر خطة شاملة للتغيير أم مجرد إحلال أشخاص من النخبة نفسها محل آخرين، فيما يظل الوضع على ما هو عليه؟
اعتقاد شائع حول تغيير شامل
من الصعب الحصول على إجابة قاطعة وشافية على سؤال من هذا القبيل فى ظل المعطيات الراهنة، لاسيما وان رئيس البلاد ُيعالج فى الخارج ولا توجد إجابات قاطعة حول مدة العلاج المطلوبة.
لكن الاعتقاد الشائع الآن أن عودة الرئيس إلى الوطن بعد شفائه ستحمل الكثير من مفاتيح التغيير، خاصة وان كبار الصحفيين المحسوبين على النظام ككل والمعروف عنهم صلاتهم الوثيقة بالرئيس مبارك شخصيا، كتبوا فى الأسابيع الثلاثة الماضية ما يؤكد أن التغيير قادم لا محالة، وأن الرئيس مبارك بات مقتنعا بأن بقاء الأمور على ما هى عليه أصبحت شيئا مستحيلا، وان أوضاع مصر الداخلية يجب أن يكون لها الأولوية.
ومنهم من أشار إلى أن زيارة مبارك إلى روسيا فى أعقاب حضوره مؤتمر القمة العربية فى تونس في شهر مايو الماضى وما جرى من تجاهل للاقتراح الذى تقدم به شخصيا فى القمة، الذي كان يدعو إلى قيام الجامعة العربية بالتفاوض أو التباحث نيابة عن العرب جميعا فى أى مشروعات دولية بشان الإصلاح السياسى فى دول المنطقة، قد أظهرت أن دور مصر الإقليمى لم يعد مؤثرا عربيا كما كان فى السابق، وان غياب أو محدودية هذا التأثير راجعة إلى الصعوبات والجمود والتكلس فى الداخل، وأن بعض الدول العربية صغيرة الحجم والتأثير صار هدفها الدائم إحراج مصر ورفض مقترحاتها، والإشارة إلى علاقاتها الخاصة مع الولايات المتحدة ودورها فى القضية الفلسطينية باعتباره ضد المصالح القومية العربية، والبعض من هؤلاء يتطرف إلى اعتبار تدخلات مصر فى هذه القضية العربية أو تلك هو بضغط وتوجيه من الولايات المتحدة، وكأن مصر باتت فاقدة السيادة وتحولت إلى جمهورية من “جمهوريات الموز”.
وحين كان كثيرون من خارج الدائرة المحيطة بصنع القرار يطالبون بإصلاح الداخل باعتبار أن اصل أى دور إقليمى فاعل يكمن فى حيوية الداخل، كانت تذهب الكلمات أدراج الرياح ولا تجد الحد الأدنى من الانتباه الرسمى.
وحين تتحول قناعة الرئيس، حسب تأكيدات مقربين منه بأن ما يحدث فى الداخل بات له تأثيره السلبى على دور مصر فى الخارج، يصبح موضوع التغيير فى قمة الهرم الرأسى محسوما، والمهم هو فى التفاصيل، وهنا تبدو الاجتهادات كثيرة ومتنوعة.
تغيير الأشخاص أم السياسات؟
التغيير المرجو فى مصر، حسب اعتقاد الكثير من الفاعليات السياسية والفكرية، يتطلب أمرين متلازمين: أولهما رؤية شاملة للتغيير والإصلاح السياسى بالدرجة الأولى، والثانى تجديد النخبة الاستراتيجية الحاكمة سلميا ومن خلال أعمال آليات الديمقراطية والانتخاب والرقابة والشفافية، وكلاهما يصبان فى الخروج من دائرة الجمود والتكلس التى طبعت الحياة السياسية المصرية فى العقد الماضى على وجه التحديد، وقيدت التأثير السياسى والمعنوى التقليدى لمصر عربيا وإقليميا، وكلاهما أيضا يعنيان أن التغيير مرهون بجملة سياسات نشطة من جانب وإعادة النظر جذريا فى حصيلة السنوات الخمس الماضية تحديدا، وإزاحة أشخاص ورموز سياسية وحكومية من جانب آخر.
ولعل الجانب الأكثر سهولة هنا هو تغيير بعض الأشخاص، لاسيما الذين ظلوا كثيرا فى مقاعد الحكومة والمناصب الحزبية العليا فى الحزب الحاكم، ولم يعودوا يحوزون على أى تقدير من الرأى العام، بل أن كثيرا من هؤلاء مكروهون شعبيا بكل معنى الكلمة باعتبارهم، إما قليلى الكفاءة أو مُحاطون بمستشارين ثبت تورطهم فى قضايا فساد كبيرة أو طبقوا برامج وسياسات ضد مصالح الناس وأفسدت حياتهم جميعا، سواء كانوا بسطاء أو ميسورى الحال، كما قضت على أحلام المجتمع فى تحسن أحواله.
وربما جاز القول أن تغيير كامل هؤلاء الأشخاص الذين تذكرهم بالاسم صحف أحزاب المعارضة المصرية منذ سنوات وتطالب بإقصائهم بأقصى سرعة ممكنة، بل ومحاسبتهم قانونيا رغم صعوبة ذلك عمليا، إلا أنه ممكن أيضا، شريطة أن يكون الفكر الرئاسى قد وصل إلى مثل هذه القناعة، وهو شرط لم يتأكد بعد، لاسيما وأن بدائل هؤلاء جميعا فى وقت قصير تبدو عصية المنال، نتيجة السياسات الممتدة التى طُبقت من قبل، ولم تسمح بتجديد النخبة بصورة طبيعية، ومن ثم خرجت أجيال كاملة من عملية الانتقاء السياسى الطبيعى وصارت على هامش الفعل العام، إما بقصدها ورغبتها أو قهرا عنها.
تطعيم النخبة أولا
المرجح بقوة إذن، أن يتم تطعيم النخبة الحاكمة ببعض عناصر جديدة بدلا من العناصر التى ثبت كراهية الرأى العام لها أو فشلها فى إدارة السياسات المعلنة بدرجة مناسبة من الكفاءة، وتسببت فى تزايد المشكلات بدلا من مكافحتها، مثل هذا الحد الأدنى من التغيير لن يكون مرضيا تماما ما لم تصاحبه إعادة نظر كلية فى الكثير من السياسات والقوانين، لاسيما ما يتعلق بالإصلاح السياسى والاقتصادى والثقافى.
اللافت للنظر هنا أن الإشارات الواردة من كبار الكتاب المحسوبين على الحكم تقول بأن التغيير سيتم على مراحل، وان المهم الآن تشكيل حكومة متجانسة وعدم إتاحة الفرصة للقوى الخارجية أن تتفاعل مع فئات فى الداخل تلعب دورا ضاغطا من أجل تغيير لا يصب فى مصلحة الوطن، وأن جملة سياسات الإصلاح السياسى هى محل دراسة معمقة، وربما يأخذ إقرارها بعض الوقت فى إشارة واضحة إلى أن المرحلة الراهنة ستقود إلى تغيير فى الحكومة وجهاز الإدارة وتعليمات وتوجيهات رئاسية مشددة بأن يُعاد النظر فى سياسات اقتصادية بعينها ثبت فشلها بامتياز، وان يتم تنقيح قوانين العمل، بحيث تؤدى إلى كسر الجمود البيروقراطى الذى يقف حجر عثرة أمام أى جهد للإصلاح أو الانفتاح اقتصاديا على الخارج.
وفى ظل هذه الاشارات، ليس غريبا أن تثار على الملأ قضايا من قبيل تراجع مكانة مصر الاستثمارية عالميا من الرقم التاسع الى الرقم 96، وتحميل البيروقراطية دورا أساسيا فى طرد الاستثمارات الخارجية القادمة للبلاد، وتحميل السياسات النقدية والمالية والضرائبية لحكومة الدكتور عاطف عبيد مسؤولية هذه التراجعات الكبرى.
وإذا كانت السياسات الاقتصادية محل إجماع للتطوير والتغيير الشامل، فإن عملية الإصلاح السياسى تبدو مؤجلة نسبيا باعتبار ان المطلوب قبل إقرار قوانين جديدة بشأن الانتخابات البرلمانية والممارسة السياسية والحريات الحزبية، اتخاذ خطوات تمهيدية تساعد على استعادة الثقة بين المواطن العادى وبين مجمل العمل السياسى، وعدم اقتصاره على نخبة من المحترفين فحسب.
تقف مصر أمام مرحلة انتقالية يُـفترض أنها ستفتح الباب أمام تغيير وإصلاح مرغوب، لكن يظل التساؤل: هل يمكن لنفس النخبة المتهمة بأنها أهدرت دور مصر الإقليمى خارجيا وقضت على تطوير الحياة داخليا وأضاعت الموارد المحدودة، أن تقود مشروع إصلاح شامل فى البلاد، ولو على مراحل زمنية معقولة لا تزيد عن خمسة أعوام؟
كثيرون يعتقدون أن هذه النخبة بحاجة إلى تغيير شامل، لكن آلية التغيير هذه ليست واضحة بعد، لاسيما وان الإصلاح السياسى بما فى ذلك وضع دستور ليبرالى يتوافق مع مجمل متغيرات الداخل والخارج ، يبدو مؤجلا إلى حين بعيد.
د.حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.