الجزائر بين مطالب أمنية من الخارج وانتظارات شبابية من الداخل
أكّـدت الزيارة الأخيرة لوزيرة داخلية فرنسا ميشيل أليو ماري، أن العلاقات القائمة مع الجزائر لا زالت متينة إلا أنها قد تكون تغيّـرت. ولا يعود ذلك إلى أن الجزائر صارت "أقوى" من ذي قبل، بل لأن فرنسا صارت حسبما يبدو "أضعف" من أن تُقنع الطرف الجزائري بما تريد.
ويرى مراقبون أن هذا الأمر ليس مدعاة للإستغراب والتعجب، فما تبيعه فرنسا للجزائر من بضائع وخدمات لا يتعدّى في الوقت الحاضر 18% من إجمالي ما تشتريه الجزائر من بقيّـة بلدان العالم.
تمثَّـل الهدف الأول لوزيرة داخلية فرنسا في الحصول على موافقة جزائرية بتشديد إجراءات الأمن لحماية الرَّعايا الفرنسيين، وهو ما وافق عليه وزير الداخلية نور الدين يزيد زرهوني، لأن الطلب بسيط وتحقيقه أبسط، نظرا لأن الإجراءات الأمنية التي يحظى بها الفرنسيون المقيمون في البلاد أكثر من مُـشدّدة. وتكفي الإشارة إلى أنه على أي دبلوماسي فرنسي يُـغادر مبنى سفارته أن يبقى مرتبِـطا لاسلكيا بفريق الأمن العامل داخل السفارة، ولو تعلّـق الأمر بمجرد تناول “سندويتش هامبورغر”.
أما الهدف الثاني، فكان محاولة جسّ نبض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة وإقناعه بفكرة الاتحاد من أجل المتوسط، التي أطلقها الرئيس ساركوزي منذ وصوله إلى سدة الحكم قبل عام، لكن ذلك لم يحصل وهو ما أدى إلى تعقَّـد مهمَّـة الوزيرة الفرنسية، خصوصا وأن بوتفليقة أخبرها بأن الفكرة من حيث المبدأ “لا غُـبار عليها” وبأن للجزائر الثِّـقل الكافي إقليميا للمشاركة في كل المبادرات الإيجابية لإحلال السِّـلم والأمن ما بين ضفَّـتي المتوسط.
إلا أن الردّ الجزائري جاء (كما تناقلته سفارات أوروبية، ومنها الألمانية العاملة في مصر وتونس وليبيا والجزائر والمغرب التي أبلغت كلها وزارة خارجيتها في برلين) أن دُول الجنوب لا تريد أن يكون الاتحاد المتوسطي مَـطية للحِـوار المباشر مع إسرائيل أو أن يتحول الاتحاد المرتقب إلى مسار برشلونة ثانٍ غير مُـعلن.
وتعلَـم فرنسا أن دُولا، مثل ألمانيا، لا ترغب في هذا أيضا، لا لأنها لا تريد حِـوارا مباشرا بين دول عربية متوسطية وإسرائيل، بل لأن مسار برشلونة قد التهم ضِـمن آليات الاتحاد الأوروبي القائمة، وهو يستهلك الآن المال والبيروقراطية، ومن شأن آلية أخرى أن تستهلك نفس المواد، وهذا تبذير كبير، خصوصا وأن مسار برشلونة لم تنضُـج فاكهته بعدُ، بل لم يدخل طور الزّهرة بعد.
المعاملة بالمِـــثل..
ولقد استعانت الوزيرة الفرنسية بكل ما لديها من قُـدرات لمحاولة إقناع الرئيس الجزائري، إلا أن الرّجل الذي أكمل كل مشاريعه الشخصية المتعلِّـقة بالوئام المدني والمصالحة الوطنية، ويبدو عليه الاقتناع بأنه تحول إلى بطَـل قومي في الجزائر، لم ينس أن جُـزءا من البرلمان الفرنسي، وبخاصة اليمين الذي تنتمي إليه الوزيرة الفرنسية، قد علّـق بكل أنواع النّـقد والتعريض على مشاريع بوتفليقة، الذي يعلَـم يقينا أن ساركوزي، إنما يريد بناء مجده الشخصي، ولعله يرى أن منحه هذه الهدية قد يمُـر بتضحِـيات جزائرية كبيرة لا لزوم لها.
أما في حوار الوزيرة الفرنسية مع وزير الداخلية زرهوني، فكان الاتِّـفاق على الإطار العام سيِّـد الموقف، بما أن الأمر يتعلّـق بضبط الأمن ومحاربة الإرهاب. فقد اتَّـفق الطرفان على ضرورة اللُّـجوء إلى أفضل الوسائل المتقدّمة لتتبع المجرمين والإرهابيين عبر استعمال تقنيات الحمض النووي، وسيشمل هذا الاتفاق إلزام المواطنين الجزائريين الرّاغبين في الذّهاب إلى التراب الفرنسي، تسجيل شيفرات حِـمضهم النووي لدى مصالح السفارة الفرنسية، التي تبعث بها إلى مصالح شرطة الحدود في المطارات والموانئ الفرنسية كي تتأكّـد من صحة هوِية الجزائريين الدّاخلين إلى فرنسا.
ويُـنتظر أن يؤدّي هذا الاتفاق إلى دفع الجزائريين لمعاملة فرنسا بالمثل، بسبب الضغط الشعبي الذي ستتعرّض له الحكومة، بدليل أن كل الفرنسيات والأوروبيات بشكل عام، لا يمكنهُـن المُـكوث في الجزائر أكثر من ثلاثة أشهر مُـتتالية، وهو إجراء تعمل به دُول الاتحاد الأوروبي، التي تؤكِّـد أن الجزائر هي البادئة بالعمل بهذا الإجراء.
قانون ممارسة الشعائر الدينية
وتعتبِـر الوزيرة الفرنسية أن الحرب على الإرهاب تدفع الدّول المحاربة له دفعا لاتِّـخاذ إجراءات من هذا القبيل، وهو ما يعتبره الطرف الجزائري أمرا طبيعيا، ولكن عندما يُـحاول الطرف الفرنسي أن يثبت بأن موافقة الجزائر على هذه النقطة، إنما هي تأكيد على مدى نفوذ فرنسا، يأتي الجواب على لِـسان وزير الشؤون الدِّينية بوعلام الله غلام الله الذي طالبت السيدة ميشال أليو ماري بمقابلته ووافق الوزير من دون تردّد (لأنه كان يعلَـم حسبما يبدو ما تريد).
فقد طرحت عليه الوزيرة استفسارات حول ما أشيع من اضطـهاد المسيحيين في الجزائر، كما طلبت منه توضيحات بشأن قانون ممارسة الشعائر الدِّينية الذي يحدِّد واجبات وحقوق كل الأقليات الدّينية غير الإسلامية في الجزائر. وجاء ردّ وزير الشؤون الدينية الجزائري كالتالي: “لا تضطهد الجزائر المسيحيين، بل لهم حقّ ممارسة شعائرهم الدِّينية كباقي أتباع الدِّيانات الآخرين على الأرض الجزائرية، لكن لن يُـسمح لهم بالتعدّي على عادات وتقاليد الجزائريين ومُـكوِّنات هويتهم، تماما كما يفعل الأئِـمة الجزائريون في فرنسا، حيث لم تسجل ضدّهم أي مُـخالفات من هذا النوع”، وأضاف بوعلام الله غلام الله: “أما قانون ممارسة الشعائر الدِّينية، فهو قانون صوّت عليه البرلمان الجزائري، ولا يُـمكننا إلغاؤه بسبب طلب خارجي، مهما كان مصدره”.
وعلمت سويس إنفو من مصادر أمريكية، أن مجموعة من المسيحيين الإنجيليين الفرنسيين والأمريكيين والجزائريين، ستجري خلال هذه الأيام لقاءات مع أعضاء في الكونغرس الأمريكي ينتمون إلى الكنيسة الإنجيلية، لإقناعهم بضرورة التدخّـل لدى السلطات الجزائرية لإلغاء هذا القانون، الذي يطالبهم بفتح حِـسابات في البنوك الجزائرية وعدم وضع المبالغ الطائلة التي يتصرفون فيها في البيوت أو الفنادق.
كما يُـسوّي القانون الجديد ما بينهم وبقية المسلمين، من حيث حظر إنشاء دُور عِـبادة داخل الفيلات والشقق أو المستودعات، إلا أن تركيز هذه المجموعة على بلاد القبائل باعتبارها “منطقة يُـضطهد فيها المسيحيون، وبخاصة الطائفة الإنجيلية” حسب زعمهم، سيجعل أي محاولة منهم إقحام الطرف الأمريكي أو الفرنسي في هذا الملف، خطوة مليئة بالمخاطر والمحاذير، لأن الحكومة ستنظر إلى الموقف بعَـين سياسية وسيختفي المبرّر الدِّيني بسرعة فائقة.
وقد ذكَّـر وزير الشؤون الدّينية الجزائري وزيرة داخلية فرنسا، بأن بلدها سنّ قوانين مُـشابهة ولم تعترض الجزائر على ذلك، لأنه شأن داخلي فرنسي، ولم تسجّـل اعتراضات فرنسية على أقوال بوعلام الله غلام الله، الذي يبدو أن قال بصوت مُـرتفع ما يريد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إبلاغه فعلا.
شـرخ كبير .. وحوار طرشان
ولم تمتنع ميشال أليو ماري عن الحديث عن مسألة التأشيرات والهجرة غير الشرعية، وشددت على أنه تحدٍّ يجب مُـواجهته بجهود كلّ الحكومات والدول، وفي هذا السياق، لا يستبعد أن تكون علمت بالتحضيرات الخيالية الجارية حاليا في مدينة عنّـابة، 600 كلم شرق العاصمة، وهي بالفعل تحضيرات من نوع خاص، حيث تم توضيب عشرات المراكب وشراء ما يلزمها من المحرّكات القوية، لإنجاح ما يسميه أهالي مدينة عنّـابة، وبخاصة الشباب منهم بـ “غزوة إيطاليا”، التي يُـنتظر أن تنطلق “قواتها” في الأسبوع الأول أو الثاني من شهر يونيو المقبل قاصِـدة السَّـواحل الإيطالية.
إنه لَـتحدٍّ كبير ستُـواجهه القوات البحرية الجزائرية، التي تعرف ما يريده الشباب الجزائري الساكن في عنابة والراغب في الوصول إلى البر الأوروبي، وتؤكِّـد معلومات الشرطة أن شُـبانا عديدين، بل وشابات تتراوح أعمارهم ما بين العشرين والثالثة والعشرين قد اشتروا “أماكنهم” في الزّوارق الجديدة وبأسعار لا تقِـل عن ألفي يورو!.
تحدُث مثل هذه الظواهر المثير للتعجب والتساؤل بالرّغم مما تتمتع به الجزائر من استقلال دبلوماسي ومادي للجزائر، تعزز في السنوات والأشهر الأخيرة بمبيعات بترول وغاز تقدر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات، ولكن يبدو أن قطيعة أو شرخا كبيرا قد حصَـل بين الحاكم والمحكوم في البلد، بسبب استمرار جيل واحد في ممارسة الحُـكم والإستئثار بالنفوذ لفترة تتجاوز العُـمر البيولوجي الذي يمكِّـنه من أداء مهامِّـه على أحسن وجه.
من جهة أخرى، تتوقع مصالح الأمن حدوث بعض الإضطرابات خلال الأشهر المقبلة، بسبب سوء أحوال المعيشة وانعدام الأمل لدى الشباب الذين يشكلون أغلبية السكان بمُـستقبلٍ أفضل داخل أرضهم، التي تفيض لبنا وعسلا لا يصلون إليهما إلا بشقّ الأنفس.
والأغرب من ذلك كله، أن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لا يظهر الاهتمام الكافي بهذه الفِـئة إلا عبر سنّ قوانين صارمة ترمي بمن قُـبض عليه منهم في البحر في غياهِـب السجون، وفي هذا السياق سجّـلت محكمة الجزائر العاصمة ما يُمكن وصفه بأغرب حادثة في تاريخ القضاء الجزائري، حيث حَـكم القاضي بحبس أحد الأشخاص الذي تمّ إنقاذه من محاولة انتحار وسط الشارع العام الذي يقابل مقر البرلمان وسط الجزائر العاصمة. وكان بعض البرلمانيين قد نجحوا في إنقاذ الشاب وإقناعه بالعدول عن تنفيذ فِـكرته، لكن عندما ألقت عليه الشرطة القبض، اتّـهم بالإخلال بالأمن العام، وهو يقبع الآن في السِّـجن، مما يدُل على أن حوار الطرشان هو السائد اليوم في الجزائر.
هيثم رباني – الجزائر
في عام 2006، كانت فرنسا أول مصدِّر إلى الجزائر وبلغت حصَّـتها من السوق 20،6% بعد أن تضاعفت المبادلات بين البلدين على مدى عشرة أعوام.
الجزائر هي الشريك التجاري الأول لفرنسا في إفريقيا، أما الصادرات الفرنسية إلى الجزائر، فهي توازي تقريبا ما يُـصدَّر إلى روسيا، وتزيد بـ 40% عن الصادرات الفرنسية إلى الهند.
الصادرات الفرنسية الرئيسية إلى الجزائر، هي السيارات (18% من إجمالي الصادرات) والمواد الغذائية (17%) والأدوية والمنتجات الصيدلية (8%).
في عام 2006، سجّـلت الاستثمارات المباشرة الفرنسية ارتفاعا مُـلفتا وزادت بنسبة 111% في تلك السنة، لتصل إلى 295 مليون دولار (وراء الولايات المتحدة: 369 مليون دولار).
تتركّـز الاستثمارات الفرنسية في الجزائر على القطاع المالي والمصرفي (92 مليون دولار) وقطاع المواد الغذائية عبر شركات دانون وكاستيل وبيل أساسا (91 مليون دولار) وصناعة الصيدلة (20 مليون دولار).
في عام 2006، بلغ عدد الشركات الفرنسية العاملة الجزائر 200، وهي تُـشغِّـل 7000 شخص.
(المصدر: الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الفرنسية، آخر تحديث يوم 9 يوليو 2007)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.