الجيش لا زال مُمسكا بمفاتيح السياسة في موريتانيا
أظهر انقلاب قادة الجيش الموريتانيون على الرئيس المنتخب محمد ولد الشيخ عبد الله يوم 6 أغسطس الجاري، أن المؤسسة العسكرية في موريتانيا لا زالت تلعب دورا مُـهمّا، بل وحاسما في المسرح السياسي، على رغم صغر حجم الجيش، الذي يُعتبر الأقل عددا والأفقر عتادا في المغرب العربي.
وفي مواجهة المؤسسة التقليدية الوحيدة التي كانت تُخرّج النخب، والمتمثلة في الجامعات الدينية “المحاضر”، التي تُلقن طُلابها العلوم الشرعية فقط، عملت فرنسا، التي احتلت البلاد في سنة 1920، على تكوين نخبة جديدة سرعان ما أصبحت منبتا للكوادر المتشربة بالفكر الغربي والحارسة للقيم الحديثة. ويمكن تفسير تأثير العسكر الكبير في الحياة العامة، بالأدوار غير العسكرية التي أنيطت بهم في فترات مختلفة من تاريخ الجمهورية الإسلامية الموريتانية.
ويذهب الباحث الفرنسي جان فرنسوا داغوزان Jean-François Daguzan أن مجيء ثلاثة عشر رئيسا من المؤسسة العسكرية طيلة نحو نصف قرن، أي منذ الرئيس الأول مختار ولد دادة (المدني)، دليل على أن هذه المؤسسة كانت الأشد تنظيما والأقوى جاهزية لتسلم دفّـة الحكم، على عكس الأحزاب التي عانت من المطاردة والحظر، سواء في ظل الحزب الواحد على أيام ولد دادة (1958 – 1978) أو تحت حكم العسكر لاحقا.
ويُعتبر الرئيس ولد الشيخ عبد الله، أول رئيس مدني منتخب تعرفه موريتانيا منذ الإطاحة بمختار ولد دادة، الذي توفي في المنفى في تونس. ومع كثرة معارضي ولد دادة من المدنيين، فإن عزله تم في إطار انتفاضة عسكرية منظمة قادها آنذاك المقدم مصطفى ولد محمد السالك.
انقسام في الجيش
ومن دلائل النفوذ السياسي للجيش، أنه هو الذي عزل الرئيس الأسبق معاوية ولد طايع الذي حكم البلد بيد من حديد بين 1984 و2005 (والمقيم حاليا في الدوحة) وسلمه للمدنيين في انتخابات 5 مارس من العام الماضي، لكن ما يروج في نواكشوط، هو أن الجنرال محمد ولد عبد العزيز، زعيم الإنقلابيين الذي كان عضوا في “المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية” برئاسة العقيد أعلي ولد محمد فال، لم يكن متحمسا لتسليم السلطة للسياسيين وكان يميل لتمديد الفترة الإنتقالية. لكن الباحث الفرنسي مكسيم ريفاي Maxime Riveil، شبّـه ما حدث في نواكشوط يوم 6 أغسطس الجاري، بانقلاب العسكر على الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد في يناير 1992، على رغم اختلاف السياق والملابسات، بالنظر إلى تشابه الدوافع المتمثلة في “تحجيم الحركة الأصولية المتنامية”.
وكان الرئيس المعزول ولد الشيخ عبد الله أقدم على خطوة مفاجئة في الربيع الماضي بالموافقة على انضمام عناصر من “التجمع الوطني للإصلاح والتنمية” (تواصل)، ذي التوجه الإسلامي إلى حكومة يحيى ولد أحمد الواقف، الذي يقود الحزب الحاكم (عادل)، قبل أن تنهار الوزارة ويُكلف الواقف بتأليف حكومة جديدة. واعتبر ريفاي، وهو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة مونبُـليي، أن وقوف العسكر وراء النواب الثمانية والأربعين الذين أحدثوا الأزمة السياسية الأخيرة، مؤشر آخر على أن المؤسسة العسكرية لا زالت لها اليد الطّولى في الحياة السياسية في البلاد، “فهي التي أعادت السلطة للمدنيين قبل أن تنتزعها منهم من جديد”، على حد قوله.
وفي هذا السياق، يمكن إدراج المواجهات التي شهدتها موريتانيا بين الجيش ومجموعات مسلحة تنتمي لتنظيم “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” بين ديسمبر وفبراير الماضيين في شمال البلاد، مما أدى إلى إلغاء سباق باريس – دكار للمرة الأولى في تاريخه. والأرجح، أن الجيش الموريتاني المنخرط في الحرب الأمريكية على الإرهاب والمشارك في جميع المناورات التي ترعاها الولايات المتحدة في منطقتي شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، لا ينظر بعين الرضى لتطبيع أوضاع التيارات السلفية، وهو يمنح أهمية قصوى لمكافحة تناميها داخل البلد وفي محيطه الجغرافي.
انعطاف حرب الصحراء
ويعزو داغوزان، الذي وضع مؤلفات عدّة عن الجيوش في المغرب العربي، من بينها كتابه “الحِـصن الأخير: القوات المسلحة والسياسات الدفاعية في المغرب العربي”، الصادر عن “المؤسسة المتوسطية للدراسات الإستراتيجية”، تنامي حجم الجيش في موريتانيا إلى الإنعطاف المتمثل في اندلاع أزمة الصحراء الغربية في أواسط سبعينات القرن الماضي.
واتفق الملك المغربي الراحل الحسن الثاني مع الرئيس الراحل ولد داداه على تقاسم الصحراء الغربية، بعد انسحاب اسبانيا منها في سنة 1975 ما سبّـب صِـراعا حادا مع الجزائر، التي كان يقودها العقيد هواري بومدين. ووضعت تلك الأزمة موريتانيا، ذات الموارد المحدودة والجيش الهزيل، في أتون صراع إقليمي لم تكن مُهيأة له، خصوصا في ظل تزايد المواجهات العسكرية مع قوات جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر، والتي دفعت قواتها في إحدى العمليات الجريئة إلى قلب العاصمة نواكشوط، حيث قضى القائد العسكري للجبهة الوالي مصطفى السيد.
ونتيجة لهذا المنعطف القاسي، تزايدت أهمية الجيش وتطوّر حجمه وتنوّعت أسلحته وعتاده، خصوصا أن فرنسا جيسكار ديستان كانت تقف إلى جانب المغرب وموريتانيا في مواجهة الجزائر. ويقول داغوزان، إن البوليساريو ركّـز هجوماته في الفترة بين 1976 و1978 على الحلقة الضعيفة، أي موريتانيا، من أجل إخضاع المغرب عسكريا، ولعل هذا ما يُفسِّـر انقلاب الجيش على الرئيس ولد داداه وإعلانه الإنسحاب من نزاع الصحراء.
مسارات مستقلة
غير أن مسار المؤسسة العسكرية الموريتانية يختلف عن مثيلاتها المغاربية، وهنا يشدّد داغوزان على أن الجيوش الخمسة غير متشابهة، لأن لكل منها مساره الخاص. ومن هذه الزاوية، لم تظهر في موريتانيا القوات الخاصة المعروفة في الجزائر بــ “نينجا”، التي قاتلت الجماعات الأصولية المسلحة طيلة التسعينات وكنست كل معارضة من طريقها، بما فيها رئيس الدولة محمد بوضياف، الذي صفّـاه ضابط صف في اجتماع سياسي في عنابة، شرق البلاد.
وذهب مراقبون إلى القول، أن ولد الشيخ عبد الله كان أسعد حظا من بوضياف، لأن العسكر اكتفوا باعتقاله ولم يغتالوه، وهذا يعني أن قادة المؤسسة العسكرية يريدون التأسيس لتجربة كمالية في موريتانيا ترمي أولا لتحصين الجيش من التأثيرات المتنامية للعناصر الإسلامية، وخاصة للمحافظة على ما يعتبرونه نهجا حداثيا للدولة.
وينبع هذا المفهوم من الثقافة الغربية التي تلقّـتها النّـخب العسكرية الموريتانية في الكليات الحربية الفرنسية، وبخاصة صفوة القيادات التي زاولت فترات تعليم وتدريب مديدة في البلد الذي كان يستعمِـر وطنها. وحرصت فرنسا بعدما منحت الإستقلال لموريتانيا من دون صراع دموي، على أن تبقى في مجال نفوذها، فسهلت للرئيس الراحل ولد داداه الوصول إلى السلطة، انطلاقا من الحكم الذاتي في سنة 1956 (سنة استقلال المغرب وتونس)، ثم إعلان الجمهورية الإسلامية الموريتانية في سنة 1958، وصولا إلى الإستقلال الناجز في 28 نوفمبر 1960، الذي عارضه المغرب بقوة.
ويعتقد محللون أن تلك الفترة الحاسمة أرست خارطة الدولة اليافِـعة، لأن موريتانيا لم تكن تملك جامعة عدا “المحاضر” التقليدية، بينما انطلقت بمساعدة فرنسا في تكوين نخبة عسكرية ستملأ الوظائف السامية في الدولة وتُلقي بظلالها لاحقا على تطور البلاد، لكن داغوزان يستشهد بقولة مأثورة، مفادها أن “الجيش لا ينبغي له أن يكون إلا ذراع الأمة وأن لا يكون أبداً رأسها المدبرة”، كناية عن استقلال الأدوار بين المؤسسات المدنية والعسكرية.
بهذا المعنى، خرجت موريتانيا من مربّـع العسكر في السنة الماضية، بعد حل “المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية” وانسحاب العقيد أعلي ولد محمد فال من المسرح السياسي طوعا، لكنها لم تغادره في الواقع، لأن العسكر لا زالوا يمسِـكون بالسلك الكهربائي ويمكن أن يوقفوا أي تجربة ديمقراطية يعتقدون أنها انحرفت عن الرؤية الحداثية التي يحملونها عن مستقبل البلد (أي المناهضة للتيار العروبي الإسلامي)، انطلاقا من أن “الجيش هو حارس الجمهورية وحِـصن الحداثة في الدولة والمجتمع”.
وعلى هذا الأساس، بدت ردود الفعل الأمريكية والفرنسية والإسرائيلية والعربية من الحركة الإنقلابية خاضعة لهذا التقابل، بين رؤية الإئتلاف الذي يرمز له ولد الشيخ عبد الله ونظرة الجيش الحداثية الصارمة، إلا أن هذا التقابل لا يعني عدم وجود منطقة وسطى وتباينات داخل كل فريق، خاصة أن الرئيس المخلوع كان هادئا ورزينا، مما أتاح لخصومه اتِّـهامه بالضعف لتبرير وصول رجل قوي إلى سدّة الحكم.
وما دامت المؤسسة العسكرية نفسها غير متجانسة في مسألة العودة إلى الشرعية من عدمها، وما دام مؤيدو العسكر أيضا ليسوا كلهم عسكريين، بل فيهم مدنيون كُثر وبرلمانيون وزعماء أحزاب، فالأرجح أن اللعبة ستكون مُعقدة وطويلة، لكن لا أحد يستطيع أن يجزِم بحسمها لصالح هذا الطرف أو ذاك، على رغم الدور المُـهيمن للمؤسسة العسكرية التي برهنت على أنه لا يمكن أن يتم أي شيء من دون موافقتها.
تونس – رشيد خشانة
نواكشوط (رويترز) – عين المجلس العسكري الحاكم الجديد يوم الخميس 14 أغسطس مولاي ولد محمد لغظف، سفير موريتانيا السابق في بلجيكا والاتحاد الاوروبي، رئيسا للوزراء.
وايد لغظف الذي عين بمرسوم نشرته وسائل اعلام رسمية من قبل كلا من الرئيس المخلوع سيدي محمد ولد شيخ عبد الله وحزب المعارضة الرئيسي الذي القى بثقله خلف قادة الانقلاب.
ووعد الجنرال محمد ولد عبد العزيز، الذي اطاح بعبد الله الاسبوع الماضي في انقلاب ابيض، بتعيين حكومة قبل اجراء انتخابات رئاسية جديدة في الدولة المنتجة للنفط في شمال غرب افريقيا.
وقال دبلوماسي إن تعيين دبلوماسي مرموق وافساح الطريق امام الاحزاب لدخول الحكومة خطوات محسوبة فيما يبدو لتعزيز قبضة الجنرال عبد العزيز السياسية على موريتانيا بالاضافة الى الفوز باستحسان دولي لانقلاب لا يحظى بتأييد في الخارج.
وأطيح بعبد الله اثناء ازمة سياسية عين خلالها حكومتين متعاقبتين في فترة قصيرة قبل ان يقيل قيادات القوات المسلحة الاسبوع الماضي. وهو محتجز في مكان سري منذ ذاك الحين.
وكان لغظف رئيس الوزراء الجديد قد أيد الحملة الانتخابية لعبد الله في أول انتخابات ديمقراطية حرة في البلاد العام الماضي. لكنه أيد ايضا من قبل حزب اتحاد القوى الديمقراطية المعارض الاساسي في موريتانيا الذي فقد زعيمه المخضرم أحمد ولد دادة جولة الاعادة في انتخابات اجريت في يناير كانون الثاني 2007 أمام عبد الله.
وكان دادة بين اوائل السياسيين الذين التقوا بعبد العزيز بعد انقلاب الاسبوع الماضي والتقى به ايضا يوم الثلاثاء في الوقت الذي بدأ فيه زعيم المجلس العسكري تشكيل حكومة.
وقال عضو من حزب تحالف القوى الديمقراطية تحدث شريطة عدم الاعلان عن هويته ان الحزب سيحظى بخمس وزارت في الحكومة.
وعمل لغطف سفيرا لدى بلجيكا وسفيرا في المفوضية الاوروبية في ظل الادارة العسكرية التي تشكلت بعد انقلاب حدث عام 2005.
ولقيت الانتخابات التي اجريت عامي 2006 و2007 ترحيبا واسعا باعتبارها تدشن حقبة جديدة بعد عقود من الانقلابات العسكرية والحكم السلطوي.
وقال دبلوماسي سابق، رفض اعلان اسمه، انه تعيين استراتيجي من وجهة النظر الدولية لان لغطف مؤيد لاوروبا وخبير بدهاليز العمل في بروكسل.
وتكتسب موريتانيا اهمية متزايدة للحملة التي ترعاها الولايات المتحدة ضد المتشددين الاسلاميين في الصحراء بعد موجة من هجمات لتنظيم القاعدة العام الماضي.
ولقي انقلاب الاسبوع الماضي انتقادات حادة من جهات كثيرة فعلق الاتحاد الافريقي عضوية موريتانيا بينما اوقفت الولايات المتحدة وفرنسا مساعدات التنمية.
لكن في موريتانيا ايد كثيرون الانقلاب باعتباره وسيلة لانهاء الرئاسة التي وصمت بفوضى مؤسسات الدولة والافتقار الى الشفافية المالية.
وارسل عبد العزيز أيضا وفودا الى دول عربية وافريقية، املا في ايضاح اسباب قيامه بالانقلاب. وردته بشدة الجزائر القوة الاقليمية الكبيرة، بينما قبله المغرب وجامعة الدول العربية، كزعيم للبلاد.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 14 أغسطس 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.