الحرب على العراق: بداية الاستباحة الكاملة!
تنطوي الحرب الدائرة في العراق على مشاهد عدة، سياسية وعسكرية، لكل منها نتائجه وتداعياته الآنية والبعيدة على العالم العربي.
الولايات المتحدة تقول إنها ستغيّر الشرق الأوسط بدءً بالعراق، والدول العربية لا تملك الوسائل السياسية والاستراتيجية لبناء منظومة متماسكة.
لئن كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التكهن بالمدى الزمني الذي سوف تستغرقه هذه الحرب، وبطبيعة المفاجآت العسكرية والسياسية التي قد تطرأ بين الحين والآخر، فإن اندلاع الحرب في حد ذاته، وبالطريقة التي تمت بها وفق إرادة أمريكية خالصة مدفوعة بأهداف ذات طبيعة إمبراطورية على نطاق واسع، ودون أي غطاء قانوني دولي لها، ورغم كل المعارضة الدولية الواسعة لهذا المسلك داخل الأمم المتحدة وخارجها، يقود إلى استنتاج بأن هذه الحرب مُصممة ـ أمريكيا على الأقل ـ بأن تحقق نتائجها وأهدافها أيا كان الثمن الذي يتوجب دفعه.
وأبرز تلك الأهداف ومحورها الرئيسي يكمن، وكما هو معلن صراحة، في الإطاحة بنظام الرئيس العراقي صدام حسين واستبداله بنظام آخر أكثر ولاء للولايات المتحدة.
والمسألة هنا، رغم كونها مُشبعة بأبعاد شخصية إلى حد كبير بين الرئيسين بوش وصدام، تبدو قائمة على افتراض إقامة نموذج سياسي بديل، يكون بداية لعملية تغيير شاملة في كل ربوع الشرق الأوسط حسب الطموح الأمريكي. مثل هذا النموذج يكتسب أهميته ودلالته من عدة حيثيات، أهمهما الشكل السياسي وقيمه الحاكمة، وحيثية السلام الإمبراطوري الأمريكي.
سيادة قُـطرية وانكشاف موضوعي
عربيا، تمثل الدولة القُـطرية ذات السيادة، الأساس الذي بنيت عليه منظومة التفاعل العربي المشترك والنظام الإقليمي العربي وكل التجارب الجزئية في التعاون الإقليمي لمناطق بعينها، كمنطقة الخليج ومنطقة المغرب العربي.
وثمة اتفاق قريب من حد الإجماع بين دارسي العمل العربي المشترك، على أن تشبث الدولة العربية بكل مظاهر سيادتها الشكلية، وكراهيتها الشديدة التنازل عن جزء من هذه السيادة لصالح أي عمل جماعي عربي إقليمي سياسى أو أمني أو اقتصادي، تمثل العامل الجوهري وراء كل حالات الإخفاق التنموي والعجز العربي سياسيا وأمنيا.
بيد أن هذا التشبث بالسيادة القُـطرية في مواجهة الدول العربية الأخرى أو في مواجهة الجامعة العربية، لم يكن بنفس القدر أمام التحديات والضغوط الخارجية. وكثير مما ترفضه الدولة القُـطرية عربيا، ليس كذلك دوليا أو في مواجهة الضغوط الخارجية، وهو ما اصطلح عليه بالانكشاف الأمني أو الاقتصادي والسياسي. ومن هنا، باتت الدولة العربية مُحققة سيادتها ظاهريا من خلال سطوتها الغالبة على شعوبها، ولكنها مُنكشفة موضوعيا، خاصة أمام ما هو غير عربي.
هذا الحكم العام حول الانكشاف العربي العام كحصيلة نهائية لتجربة الدولة القُـطرية ذات السيادة طوال العقود الخمسة الماضية، لا يجهل أن هناك نماذج سياسية مختلفة في تطبيق تلك السيادة القطرية، واستنادا إلى شعارات مختلفة ما بين قومية أو علمانية أو دينية أو عولمية أو خليط من هذا وذاك، وهو ما يعنى أن اختلاف النماذج التطبيقية للدولة القطرية لم يؤد إلى عائد تنموي أو أمني مختلف، وإنما إلى نفس العائد، أي الانكشاف الشامل، ولكن بدرجات وأشكال مختلفة.
ورغم مرارة هذا الانكشاف العربي العام، فإن الحرب على العراق، وبما تطرحه من خط فاصل بين ما قبلها وما بعدها، تثير بدورها ما هو أكثر من مجرد تعميق الانكشاف للدول القُـطرية العربية، إذ يمكن القول، إنها تستهدف تحول الدولة القومية ذات السيادة والمنكشفة جزئيا، إلى دولة ذات سيادة شكلية بل وهامشية جدا، ولكنها مُستباحة فعليا بكل المعاني.
خصوصية الحالة العراقية
ويمكن القول هنا، إن الحالة العراقية بما لها من خصوصية، فإنها تجسد، وعلى نحو فج، نموذج الدولة العربية القطرية ذات السيادة المطلوب القضاء عليه تماما، ونموذج الدولة العربية المُستباحة المرغوب نشره أمريكيا في العالم العربي والشرق أوسطي أيضا، ويكمن توضيح ذلك في التعرف على ملامح تلك الخصوصية العراقية التي يجسدها نظام الرئيس صدام حسين، وتلك التي تبشر بها السياسة الأمريكية.
فنظام الحكم العراقي يُجسد منذ ثلاثة عقود ونصف نموذجا يمزج بين مجموعة من المقولات السياسية والاجتماعية تتعدى حدود العراق نفسه، منها مقولات قومية تتعلق بالوحدة العربية الشاملة، وأخرى ذات طابع اشتراكي تُعنى بهندسة المجتمع العراقي طبقيا من جهة أولى، وبتشكيل توازن جديد بين الأقليات العرقية والطائفية التي يتكون منها البلد من ناحية ثانية، ومقولات شمولية تقوم على سيطرة حزب واحد سياسيا وأمنيا، ناهيك عن نزعة تسلطية تستند على الدمج الكامل بين كل عناصر الدولة المؤسسية والرمزية وشخص الزعيم الواحد.
النموذج العراقي على هذا النحو، هو في حقيقته تجسيد لنماذج عربية أخرى سبقته زمنيا حينا وتبعته حينا آخر، وإن اختلفت معه في مدى تطبيق بعض الجزئيات أو مدى المرونة السياسية الداخلية والخارجية التي اضطر إليها هذا النموذج أو ذاك بحكم الضغوط المختلفة التي تولدت على مر السنين، ومن ثم، شكلت بدورها نماذج معتدلة حينا، أو مناقضة كليا على الصعيد الشكلي للنموذج العراقي حينا آخر.
ويظهر هنا على سبيل المثال، نموذج الحكم السوري، الذي يستند إلى شعارات “بعثية” وأخرى اشتراكية، مُشتركا في ذلك مع النموذج العراقي من حيث الجوهر، ولكنه يختلف في الأداء السياسي العام، الأمر الذي يجعله أكثر مرونة، وأكثر واقعية وأكثر مقبولية في العالم، وأقل تحديا، ولكنه أيضا واقع تحت الضغط الأمريكي لا محالة.
تحدي السلام الأمريكي
هذه السِّـمات الكلية لتجربة العراق، والمستمدة غالبيتها من مرحلة الحرب الباردة، والتي تتناقض مع الشعارات والمقاييس السياسية التي يروجها القطب الأوحد في العالم المعاصر بدرجة أو بأخرى، تجعل من النموذج العراقي حاملا لكل سمات التحدي للسياسة الأمريكية العالمية، والتي تحولت إلى سياسة إمبراطورية تحت التطبيق والإنشاء حاليا، تسعى إلى تشكيل حالة من السلام الأمريكي العولمي ذي النزعة العسكرية الفاضحة.
وهذا السلام الإمبراطوري الأمريكي فيه كلام كثير، يمكن تلخيصه في نقطتين بارزتين:
الأولى، أن يسود العالم نموذج حكم تعددي شكلا ينتج عنه بالضرورة ـ ولا شيء غير ذلك ـ قوى سياسية مؤمنة بالتفوق الأمريكي العسكري والسياسي والاستراتيجي.
وثانيا، أن ينسج هذا النموذج الحاكم في هذا البلد أو ذاك علاقات تكاملية وعضوية مع المنهج الأمريكي دون أي شك أو حتى تذمر خافي أو مكبوت.
من هذه الزاوية، فإن العراق بقيادة صدام حسين والمتعاطفين معه، أو الرافضين للسلام الإمبراطوري الأمريكي جزئيا أو كليا، هم أعداء يجب التخلص منهم تماما. لكن الحرب في جبهات عدة تبدو غير ممكنة عمليا، ومن ثم، ونظرا لنضج النموذج العراقي للمواجهة نظرا لسماته الفاقعة جدا، والتي تجعله يمثل تحديا مباشرا للأهداف الأمريكية، جاءت الحرب بكل هذه القسوة والضراوة.
النموذج الأمريكي البديل
أمريكيا، يحقق إسقاط نموذج صدام حسين بسماته الشمولية داخليا وعنصر التحدي خارجيا، أهدافا عدة، إذ يجعل أصحاب النماذج الأخرى في المنطقة العربية والشرق أوسطية في إطار الدولة القُـطرية ذات السيادة المنكشفة، والقريبة في جانب أو آخر من النموذج العراقي، يجعلهم تحت ضغط مباشر، وتبدو أمامهم فرصتان، إما التغيير الذاتي وبما يقترب من الشروط الأمريكية، ولو بتدرج وبطريقة سلمية، ولكن في مدى زمني معقول وسريع نسبيا، وإما التعرض لما تعرض له العراق، أي الحرب والتغيير القسري والخضوع للاحتلال. ولكل طرف الخيار والمخرج المناسب.
ولكن يتعين هنا الإقرار بأن النموذج البديل الذي تُطرح إقامته بعد التخلص من نظام حزب البعث العراقي، والذي يوصف بأنه ديموقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان، وكل تلك الشعارات الجميلة، لن يكون قابلا للتطبيق في الواقع العربي.
وفى كل الأحوال، لن نكون أمام تجربة ديموقراطية كاملة تتيح لأية قوة سياسية منظمة ولها قواعد شعبية ومؤمنة بالقانون والمبادئ التعددية أن تصل إلى الحكم. فالأمر هنا، وإن أتاح التعددية الشكلية، فإنه سيشطب عمدا وبصورة استباقية قوى بعينها، وفي مقدمتها الإسلامية وكل من يرتبط بها، ومعها القوى القومية ذات التوجهات الوطنية عموما.
فهؤلاء تحديدا ما زالوا يشكلون معنى التحدي للسلام الإمبراطوري الأمريكي، ومن ثم فهم لا يستحقون نعيم النموذج التعددي الأمريكي الذي سيبدأ تطبيقه في الحالة العراقية حسب الافتراضات الأمريكية.
بعبارة أخرى، إن النموذج البديل سيكون مقتصرا على تعددية للقوى المتماهية مع الشروط الأمريكية جملة وتفصيلا. إنه نموذج بديل تعددي شكلا لتيارات بعينها، وديكتاتوري موضوعيا لتيارات أخرى، هي بمقاييس المنطقة العربية أصيلة أو تستند على شرائح عريضة من المجتمع.
ولكي يُشطب هؤلاء الإسلاميون أو القوميون من الخريطة السياسية العربية، لابد من تغيير شامل في المنظومة التعليمية وكل ما يرتبط بالتنشئة الاجتماعية، أي أن تصبح الدولة العربية القُـطرية ذات السيادة، والمنكشفة جزئيا بمقاييس الوضع الراهن، مُستباحة فعليا بمقاييس ما بعد الحرب على العراق، تقبل السلام الإمبراطوري الأمريكي من جانب، وتعيد إنتاج مجتمع سياسي داخلي يتناسب مع النموذج الأمريكي البديل من جانب آخر… وإلا فإنها الحرب.
وإذا ما نجحت الولايات المتحدة في فرض سيادة النموذج الإمبراطوري الأمريكي، سيصعب عندها الحديث عن وجود أو تعدد مراكز القرار في المنطقة العربية أو فعاليتها. فاندماج الكل أو توحده أو تشاركه في نموذج واحد مفروض بالقوة المسلحة وترعاه مصالح إمبراطورية ذات منحى هجومي، سيجعل الجميع في سلة واحدة، تحركها من بعيد قيادة مركزية أو من ينوب عنها في المنطقة.
ومن هنا، فإن مفاجآت حرب العراق، كصمود طويل نسبيا، وخسائر بشرية عالية في صفوف القوات الأمريكية والبريطانية، وتعطل نسبي في السلام الإمبراطوري، تحمل بدورها رسالة ذات مغزى. فتَحـوُّل النماذج العربية القُـطرية المُنكشفة، وعلى الرغم من ضعفها الهيكلي الكبير، إلى نماذج مُستباحة كليا، لن يكون مجرد نزهة أو حتى مغامرة محسوبة بدقة وقليلة التكاليف.
لكن من جانب آخر، فالحرب نفسها تعني أن الانكشاف القُـطري يُغري الطامعين ويُحفز المغامرين. فإذا كانت الدولة القطرية قد وصلت إلى نهاية النفق المسدود، والدولة المُستباحة عزيزة المنال ودونها ثمن كبير، فالدولة العربية القوية تظل بحاجة إلى نموذجها الذاتي الخاص، وتلك بدورها قضية أخرى.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.