“الحركة على السطح .. دون تغيير في الجوهر”
ما الذي يحدث داخل حركة فتح؟ سؤال مطروح هذه الأيام بقوة بعد صدور بيان الكوادر المستقيلين، الذي لم تثبت صحته حتى الآن.
ومع وجود إجماع حول الدعوة إلى الإصلاح والتغيير في جسم وتركيبة فتح، يؤشر البيان إلى تداعيات عميلة التجاذب الجارية في صفوف الحركة، والتي تتعرض لمزيد من الضغوط الخارجية.
تعمل حركة فتح، كبرى الفصائل الفلسطينية والعمود الفقري لسلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفق آلية براغماتية فريدة تمنحها هامشا كبيرا من المناورة أمام مجموعة الضغوط الداخلية والخارجية التي لا تنفك تواجهها، لكن التراكمات والضربات المتلاحقة تترك آثارها بلا ريب.
وليس بيان كوادر الحركة الأخير، حيث أعلن نحو ثلاثمائة منهم عزمهم الاستقالة بدواعي الترهل والفساد الذي ضرب أركان الحركة، سوى مثال آخر على طريقة عمل هذا الفصيل الرئيسي القادر على التحول والتغيير، والتراجع والتقدم دون التعرض إلى خطر الانهيار.
فالبيان الذي لم يخرج أحد لتبنيه والإعلان عن تحمل مسؤوليته، لم يترك أي تداعيات أو آثار ظاهرة للعيان، بيد أنه وفي نفس الوقت وجد من يؤيّـده ويدعو له بالتأييد دون التزام مسؤوليته أيضا.
ولم يكن ممكنا كذلك، بالرغم من إشارات خجولة غير مؤكّـدة، تحديد منشأ البيان الذي صدر في كل من غزة ورام الله، المقرّين الرئيسيين لسلطة الحكم الذاتي، وحيث تعمل حركة قتح بمثابة الحزب الحاكم والمعارضة في آن واحد.
الاتهامات وجّـهت في الخفاء إلى أركان في الحركة، هي نفس الاتهامات وذات الإشارات الخجولة التي يجري تداولها دوما عند كل منعطف من هذا القبيل، وهي في معظمها تظل حبيسة الجلسات المُـغلقة، حيث تتحدث فتح بصراحة معاكسة لدبلوماسية العلن.
وليس في الأمر سوى تذكير وتأكيد على طبيعة عمل الحركة، ذات الجسم الهلامي والفعل القادر على التمدد والارتخاء في آن معا، ليس وفقا لخطة محسوبة، وإنما لطبيعة فطرية تتغلب على حسابات الدراسات والخطط.
السر في التركيبة
لم يكن محض صدفة خروج بيان استقالة كوادر حركة فتح الأخير، وبالرغم من عدم التحقق من مصداقية الأمر، فإن ثمة أمر واحد أكيد، ألا وهو الدعوة إلى الإصلاح والتغيير في جسم وتركيبة الحركة التي ظلّـت تصدر القرار الوطني الفلسطيني على مدار أربعة عقود.
وتزامن صدور البيان مع الكشف عن مطلب مصري نقله في اتصال هاتفي، استنادا إلى مسؤول في الرئاسة، الرئيس المصري حسني مبارك إلى الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ومفاده ضرورة إدخال تغييرات جذرية وإصلاحات في حركة فتح كشرط أساسي لإصلاح السلطة الفلسطينية التي تضربها الانتقادات من كل صوب وجهة بسبب اتهامات الفساد.
تحدّث المطلب المصري عن وجوب “إصلاح” فتح كشرط أساسي لا مفر منه من إحداث تغيرات جذرية في أجهزة ومؤسسات السلطة الفلسطينية، لاسيما تغيير قادة أجهزة أمنية تلبية لمطالب الإدارة الأمريكية وإسرائيل.
وبالرغم من أن المطلب المصري يُـعتبر غير مسبوق على صعيد الضغوط التي تُـمارس على السلطة الفلسطينية منذ أكثر من عامين، فإن فتح وحدها تُـدرك ماهية هذا الشرط وضرورة تنفيذه إذا ما أريد إدخال إصلاحات فلسطينية حقيقية.
إنها فتح، في كل مكان فلسطيني، على رأس قيادة منظمة التحرير، وعلى رأس سلطة الحكم الذاتي. إنها فتح أيضا التي تدير جميع الأجهزة الأمنية والوزارات والمؤسسات المدنية التي يعمل فيها عشرات الألوف من الفلسطينيين.
وفتح أيضا، صاحبة المصادر المالية الرئيسية وصاحبة النفوذ الأوسع لدى القطاع الخاص في المناطق الفلسطينية، وهي كذلك التي تملك غالبية الأصوات في المجلس التشريعي وفي المجلس الوطني (البرلمان في المنفى).
وأكثر من ذلك كله، فإن حركة فتح تملك ذراعا مسلحا جناح مقاومة من أبرز المقاومين للاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب أجنحة المقاومة الإسلامية، ومن خلاله تملك نفوذا شعبيا يحجب اتهامات الفساد التي توجه إليها.
لهذه الأسباب مجتمعة أو منفردة، تبقى فتح عُـرضة للضغوط، وهدفا للمواجهة، وفرصة للتحرك في نفس الوقت، ولهذه الأسباب أيضا توسم فتح بتهم الفساد، وتحظى بالأمان من أي هجوم داخلي أو خارجي.
وعلى هذه الخلفية، تمكّـنت حركة فتح طوال العقود الماضية من حماية نفسها، وبسبب هذه التركيبة المتناقضة والمتماسكة في آن واحد، كانت فتح دائما تُـحاور نفسها. فهي مصدر التمرد ودعوات الإصلاح ومصدر الفساد والتسلط أيضا.
تقليد فتح ..
المفارقة، أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي، منح حركة فتح فرصة الاستمرار أيضا. فهي ما زالت الفصيل الوحيد القادر على التفاوض مع إسرائيل ومقاومة الاحتلال في نفس الوقت، وهي ذات النظرية التي قاد مروان البرغوثي الانتفاضة على أساسها.
ولإدراك إسرائيل أن فتح هي الطريق إلى تقويض المقاومة والطريق إلى السلام، فإنها عملت خلال العامين الماضيين على إضعافها من خلال محاولة الإطاحة بالرئيس عرفات، والعمل من خلال الضغط الدولي بقيادة الإدارة الأمريكية على إيجاد بديل له عن طريق منصب رئيس الوزراء الجديد.
لكن العملية ذاتها أسفرت في النهاية عن الخروج بموقف فلسطيني “فتحاوي” واحد خلف عرفات، بيد أن مواصلة الحصار وانسداد أفق استئناف العملية السلمية، خلق شرخا في صفوف أركان وقيادة فتح.
وأخذت قيادات شابة تدعمها أخرى من الحرس القديم في العمل على طرح مبادرات جديدة، ودفع قيادة عرفات إلى التخلي عن سياستها الحالية، ومنح رئيس الوزراء صلاحيات سياسية وأمنية أوسع، لكن هذا الاتجاه توقف مع خروج محمود عباس ودخول أحمد قريع إلى منصب رئيس الوزراء.
وعلى مدار الأشهر الماضية، انتقل التململ من أركان القيادة إلى مستوى أقل، عندما راح أصحاب نفوذ ومراكز قوى يسعون للتأثير على مستويات الحركة الميدانية والتنظيمية في محاولة للتأثير على قيادة عرفات المحاصرة، والتي تواجهها الضغوطات المختلفة.
واستنادا إلى بعض المصادر، فإن بيان الكوادر المستقيلين، وإن لم تثبت صحته حتى الآن، فإنه يخفي وراءه نتائج تداعيات لعميلة التجاذب الجارية في صفوف الحركة، والتي تؤثر فيها أيضا الضغوط الخارجية.
وبالرغم من اعتراف الغالبية في فتح بضرورة تنفيذ إصلاحات جذرية في الحركة، فإن العملية الجارية لا تكاد تخرج عن تقليد فتح: الحركة على السطح، دون التغيير في الداخل والجوهر.
هشام عبدالله – رام الله
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.