الحوار مع “مسلحي العراق” بين الرفض والقبول
بينما ترتفع أعداد القتلى الأمريكيين يوما بعد يوم، تزداد وتيرة الحديث عن حوار مع مسلحين عراقيين، وهو التعبير الضمني لأطراف من المقاومة العراقية.
وكان البيان الصادر عن مؤتمر الوفاق الوطني العراقي الذي عقد مؤخرا تحت مظلة الجامعة العربية قد اعتبر المقاومة مشروعة من حيث المبدأ، وحقا لكل الشعوب إذا كانت موجهة ضد الاحتلال.
إن هذه التفرقة بين المقاومة المشروعة وبين الإرهاب، لا تعد مقبولة على إطلاقها بين كافة الفعاليات السياسية والدينية في العراق.
فهناك المتحفظون على أي عمل يرتبط بالعنف والأدوات العسكرية، حتى ولو كان ضد القوات الأجنبية، والحجة البارزة هنا أن هذه القوات هي قوات تحرير للشعب العراقي، أو لغالبيته التي عانت الأمرّين في عهد النظام البعثي السابق، حسب تصريحات مسعود البارزاني، أحد القطبين الكرديين الكبيرين، والذي دافع عن هذه القوات باعتبارها موجودة بناء على القرار الدولي رقم 1483، وعلى رغبة الحكومة الشرعية، ومن ثم، فإن أي استهداف لها سيكون بمثابة تناقض تام مع شرعية وجودها. واستطرادا، فإن أي عمل ضدها هو إرهاب مرفوض، وبالتالي، لا مجال لمقاومة عنيفة في العراق الجديد.
يشير المتحفظون أيضا من قبل حكومة إبراهيم الجعفري وقائمة الائتلاف الشيعي الموحد إلى أن هذه القوات تحمي الاستقرار في البلاد، وأنها ستخرج منه يوما بناء على طلب الحكومة الشرعية، وأن وقت خروجها لم يحن بعد، وأن المقاومين الحقيقيين هم من وقفوا ضد النظام السابق، وليس الذين يريدون عودة هذا النظام مرة أخرى.
رؤية المتحفظين إذن تقوم على أساس أن لا مجال للتفرقة بين القائمين بالعنف ضد القوات الأجنبية وبين هؤلاء الذين يوجهون العنف ضد أبناء الشعب العراقي نفسه ومؤسساته الجديدة وحكومته، سواء على أسس طائفية أو مقولات جهادية، فهم جميعا يقعون تحت طائلة الإرهاب المرفوض والمطلوب استئصاله، وليس الحوار معه بأي شكل كان.
نحو حوار مع المسلحين
هذه الرؤية الرافضة إطلاقا للقائمين بأعمال عنف على اختلاف توجهاتهم ليست الوحيدة في الساحة العراقية، حتى فيما بين رموز العراق الجديد أنفسهم.
وإذا كان منطقيا أن يصر سُـنة العراق على أن هناك مقاومة مشروعة ضد الغازي الأجنبي وفقا لتفسيرات دينية ليست محل شك، وأنها تختلف في مراميها وفي أهدافها عن هؤلاء الجهاديين القادمين من وراء الحدود بقيادة الزرقاوي والمرتبطين بأجندة خارجية بالأساس، وأن من حق المقاومة المشروعة الاعتراف بها والتعامل معها كجزء من القوى الفاعلة في العراق، فإن تحليلا مشابها بات مقبولا من كل من الرئيس العراقي جلال طالباني، ونائب رئيس الوزراء أحمد الجلبي، مع خلاف في الأهداف من وراء قيام نوع من التواصل مع هؤلاء المقاومين، أو بالأحرى المسلحين العراقيين، حسب تعبيرات كل من طالباني والجلبي.
مسلحون نعم.. زرقاويون لا
فبالنسبة لطالباني الذي يعتبر نفسه رئيسا لكل العراقيين، بغض النظر عن هويتهم العرقية أو الطائفية أو المناطقية، والذي يفضل حوارا مع مسلحين عراقيين، فثمة تفرقة واجبة بين مسلحين عراقيين لهم هدف وطني، وبين “جماعة الزرقاوي وأنصار القاعدة وأنصار الإسلام، والذين يعتبَـرون مجرمين وخوارج كفّـروا الجميع زورا وبهتانا، ولا حوار معهم بأي حال”، على حد قوله.
أما الفئة الأولى، فإن الهدف الأكبر من التواصل معهم فهو “إقناعهم أن العمل السياسي الجماهيري البرلماني الإعلامي هو السبيل الوحيد لتحقيق ما يريدونه، وأن حمل السلاح ضد حكومة شرعية انتخبت بأصوات أكثر من ثمانية ملايين عراقي ونصف المليون، هو عمل إرهابي لا يليق بأي وطني عراقي”.
رؤية طالباني على هذا النحو، تتضمن شقين متكاملين. الأول، التفرقة بين الفصائل التي تقوم بأعمال العنف. والثاني، شد المسلحين العراقيين الأقرب إلى توصيف المقاومة إلى مظلة العملية السياسية الجارية في البلاد، بل والاستفادة من قدراتهم في مواجهة أنصار القاعدة والزرقاوي.
يبدو التحليل ذاته هو الذي يستند إليه احمد الجلبي في تأكيده على إمكانية الحوار مع غالبية المسلحين، حسب حواره مع جريدة الحياة بتاريخ 5 ديسمبر الجاري.
فهؤلاء المسلحون يندرجون تحت ثلاث فئات، أولها الفئة البعثية الصدامية، ذات الإمكانات والقدرات العالية، ولكنها المثقلة بجرائمهم ضد الشعب العراقي، وهي قليلة العدد. والفئة الثانية، فهم الجهاديون أو أتباع الزرقاوي والقاعدة، وتلكم خارج إطار أي حوار. أما الغالبية العظمى من المسلحين، فهم الذين يرون أنفسهم مهمّـشين ومستقبلهم السياسي مهدد، يرفعون السلاح. ولذلك، فهم هدف أي حوار.
فالحوار هنا، حسب رؤية الجلبي، يهدف إلى جذب هؤلاء الذين يلجأون للعنف ضد الحكومة وضد القوات الأجنبية إلى العملية السياسية بعد توفير الضمانات لهم بأن حقوقهم السياسية ستكون مُـصانة ومضمونة، وأن لا تهميش أو إقصاء سوف يصيبهم إذا ما تخلوا عن العمل المسلح.
التمعن في مثل هذه الرؤية ينتهي إلى الاستنتاج بأنها تنظر إلى دوافع العمل المسلح باعتباره مرهونا فقط بمصالح شخصية أو فئوية محدودة، وليس مرتبطا بدوافع وطنية عامة، كإنهاء الاحتلال وتحقيق سيادة حقيقية ومواجهة الغازي للديار وهكذا. وهنا يكمن أحد جوانب الضعف التي قد تقلل من قيمة أي حوار بين من يعتبرون أنفسهم منتصرين ويريدون مد المعادلات الجديدة على الجميع بكل الطرق، وبين هؤلاء الذين ينظرون إلى المعادلات الجديدة في العراق ككل، على أنها ليست شرعية ويجب مواجهتها بكل السبل.
خطة لحفظ ماء الوجه
ومع ذلك، يلحظ المرء تغييرا مهمّـا، فالاعتراف بأن هناك فئة من المسلحين مشروع عملها، ويجب التواصل معها، يعني أن مبدأ المقاومة في حد ذاته قد فرض نفسه على التفكير السياسي العام في العراق، وهذا التغيير ليس بعيدا عمّا يجري في داخل الولايات المتحدة، وذلك الشد والجذب بين الإدارة الجمهورية وبين الديمقراطيين الذين يضاعفون من ضغوطهم السياسية والمعنوية على الرئيس بوش لسحب الجنود الأمريكيين من العراق، في ضوء الميل المتزايد للاعتراف بأن قرار الحرب في العراق كان قرارا خاطئا من الناحية الإستراتيجية، وأنها قامت على أكاذيب مفضوحة وخداع صريح، وأن استمرار البقاء العسكري هناك سيؤدّي إلى مضاعفة الأخطار الإستراتيجية عما هي عليه بالفعل.
هذا الشد والجذب، لم يكن بلا أثر. فهناك رؤية جديدة آخذة في التبلور وتروِّج لها إدارة بوش، وتقوم على أساس أن مهمة القوات الأمريكية في العراق تقترب من الاستكمال. فهي مستمرة في تدريب قوات الشرطة والأجهزة الأمنية وإعداد جيش عراقي مناسب للدفاع عن البلاد، في الوقت نفسه، تستمر عملية سياسية لتشكيل جمعية وطنية دائمة وحكومة شرعية تمثيلية سوف تنبثق عن الانتخابات المقررة في 15 ديسمبر الجاري، وفي السياق ذاته، “تحقيق تسويات بين المجموعات العراقية المختلفة”، حسب تعبيرات ماكيلان، المتحدث الرسمي للبيت الأبيض.
وفكرة التسويات بين المجموعات العراقية تعني بالأساس فتح الحوار بين كافة المجموعات، سواء ارتهنت فقط بالعمل السياسي أو تستخدم العنف والسلاح، مع إقصاء جماعة الزرقاوي والجهاديين الإسلاميين من هذه التسويات لاعتبارات مفهومة، وبما يسهل عزلهم وضربهم لاحقا حتى بمساعدة الأطراف العراقية المسلحة التي سوف تمنح صك الشرعية وميزة الحوار حتى ولو كانت بعثية. وتمثل هذه الخطة، الأساس الذي تعمل وفقا له إدارة بوش لإعداد المسرحين العراقي والإقليمي معا لسحب القوات الأمريكية في وقت لاحق، ربما يبدأ مع نهاية عام 2006.
والهدف الذي يمكن استنتاجه، أن إدارة بوش تريد تشكيل توازن جديد في العراق يضمن مشاركة الجميع، بما في ذلك المسلحين “المقبولين” بعد التوقف عن استخدام السلاح والاندماج في العملية السياسية، وبما يوفر لها حجة، قِـوامها حفظ ماء الوجه، وبأن الحرب في العراق لم تكن عبثا، بل أسهمت في إعادة بناء العراق على أسس جديدة، وأنها لم تستثن طرفا منها، ولم تنصر طائفة على أخرى أو مجموعة عرقية على أخرى.
وفي جوانب الخطة، تبرز القاعدة المعروفة بأن ما لا يمكن الانتصار عليه عسكريا، يمكن تحقيقه عبر التفاوض، حتى ولو مع الشيطان نفسه. ولعل ذلك يفسر التوجيهات الرئاسية لخليل زادة، السفير الأمريكي في بغداد بالتواصل مع إيران، بالرغم من كونها محورا للشر، حسب رؤية بوش، من أجل العراق وأمنه، أو بالأحرى من أجل أمن القوات الأمريكية التي يُفضل لها أن ترحل، ولكن بعد أن تهدأ المدافع وتسكت طلقات قوى المقاومة العراقية التي فرضت شرعيتها قولا وعملا.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.