الحياة والسلام .. من جنين
تزور سويسرا حاليا أصغر فرقة مسرحية فلسطينية من جنين، لتعرض مشاهد من المعاناة اليومية للمواطنين هناك.
هذه الفرقة هي نواة أول مركز ثقافي متعدد الأنشطة في تلك المدينة، أقيم بجهود ذاتية سويسرية بمبادرة من المخرجة المسرحية تشرينا فون موس.
من لوكارنو إلى زيورخ ثم لوزان وجنيف، تتجول فرقة شباب جنين المسرحية في ربوع سويسرا لتعرض على الجمهور لقطات من الحياة اليومية للفلسطينيين.
هم خمسة فقط من بينهم فتاة، تتراوح أعمارهم بين الثانية عشر والسادسة عشر، يقدمون على مدى ثلث الساعة مشاهد من معاناة المدنيين على يد قوات الاحتلال، في حوار تلقائي، حيث لا داعي لكتابة النصوص الطويلة، فتكرار تلك المعاناة يرسخها في الأذهان وليس من السهل على من يعايشها أن ينساها.
ديكور المسرح بسيط للغاية، لأن الممثلين الصغار هم العناصر الأساسية على الركح الذين تتابعهم الإضاءة أينما تحركوا، في ظل خلفية سوداء قاتمة.
فمن مشهد لفلاح يزرع في حقله ثم يجد فجأة من يقتلع أشجار زيتونه، إلى آخر لمن يحلب بقرته فيأتي من يسرقها منها، إلى ذلك الذي لا يجد دواء لتضميد جراحه، أو ذاك الذي يموت هما وكمدا وحزنا.. وبعد كل ذلك، ماذا يتبقى في النهاية؟ لا شيء، سوى دوامة تتكرر كل يوم ومع كل ساعة.
من هناك كانت البداية
فكرة تأسيس هذا الفريق المسرحي الشاب الصغير وُلدت أثناء زيارة للمخرجة تاشرينا فون موس إلى المناطق الفلسطينية المحتلة، حيث توجهت إلى جنين قبل عامين لمعاينة ما خلفه الاحتلال والحصار والهجمات من آثار، وعاينت بشكل مباشر ما يمر به سكانها من هجوم وقلق وخوف وتوتر وهم أناس يعيشون حياة بسيطة للغاية، لا يرجون منها سوى الحصول على لقمة العيش والأمن.
وتروي تاشرينا لسويس انفو كيف رأت مجموعات الشباب الصغار في مقتبل العمر، لا يوجد لديهم أي نشاط ثقافي يجمعهم أو يهتم بهم، وهي تتفهم بالطبع أنه في مثل تلك الأوضاع المتوترة لا يمكن البحث إلا عن الأمن والاستقرار، ولكن ما المانع في أن يكون هناك نشاط ثقافي يجمعهم؟
فالشباب هناك لهم – على الرغم من كل الواقع المرير – أحلامهم وطموحاتهم وهوياتهم، لذلك كانت فكرة تشارينا مزدوجة الهدف، فهي أرادت من ناحية ملء وقت فراغ هذا الشباب بدلا من اللاشيء الذي يعيشون فيه، يشعرون من خلاله أنهم يقدمون شيئا وأنهم ليسوا دائما ممن يوصفون بالخاسرين، ورأت من ناحية أخرى، أن نشاطا من هذا القبيل سيدفعهم إلى الإلتفاف حول الثقافة وإلى مزيد من التوعية وتوسيع المدارك وفهم معطيات جديدة ومعلومات مختلفة.
من الفكرة إلى الإنجاز
بعد أن استقر الأمر على اختيار أعضاء الفريق المسرحي الشاب وكلهم من التلاميذ الذين تتراوح أعمارهم ما بين 12 و 16 سنة، لم تعترض الفريق صعوبة تُذكر في اختيار النصوص أو الموضوعات، فالحياة اليومية في مدينة فلسطينية مثل جنين بها الكثير من المعطيات والأفكار.
لذلك استقر الرأي على اختيار التعاطي مع مفردات حياة اسرة قروية بسيطة تعاني من بطش الاحتلال بشكل متواصل، وهي مثال لمئات الآلاف من الأسر، ويمكن لكل من يزور أراضي الضفة الغربية معايشة أحداثها عمليا، حسبما روت تاشرينا للحاضرين الذين تابعوا العرض مساء الجمعة 20 أغسطس في مسرح هورا بزيورخ.
وبعد فترة تدريب متواصل في جنين نفسها، (وخاصة ما يتعلق بمواجهة الجمهور)، وسلسلة من الجهود المبذولة في سويسرا لضمان تمويل زيارة الفرقة الشابة إليها، تضافرت جهود منظمة بروهيلفتسيا وهي مؤسسة فدرالية معنية بترويج الثقافة السويسرية، مع مجموعة “المسرح الدولي في زيورخ”، لإنجاز هذه الجولة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن “مجموعة المسرح الدولي في زيورخ” تركز اهتمامها على قضايا الشباب، وقدمت على مدى أكثر من عقدين أعمالا متميزة خصصتها لكشف تأثير السياسة على المجتمع والحياة الثقافية، كما أن اهتمام المجموعة بالشرق الأوسط أو القضية الفلسطينية تحديدا ليس جديدا، حيث قدمت مسرحية “الانفجار الرهيب” في عام 1982 لتجسيد مذبحة صابرا وشاتيلا بأسلوب مسرح الشارع.
وعلى الرغم من قلة خبرة الفرقة المسرحية الشابة، شدت عروض فرقة شباب جنين المسرحية انتباه المتفرجين بشكل كبير، سواء في لوكارنو أو زيورخ، فعلى الرغم من أن الحوار يدور باللغة العربية، إلا أن المنظمين حرصوا على توزيع ترجمة مكتوبة لحوارات المشاهد الخمسة، وعلى كل حال من يرى الأحداث على خشبة المسرح لا يحتاج إلى ترجمة، فالصورة أبلغ من أي كلام، ولغة العنف ضد الآمنين ليست بحاجة إلى من ينقل معانيها.
أسئلة بلا أجوبة
في المقابل لم يخف الممثلون توجسهم وهم يسافرون للمرة الأولى في حياتهم بعيدا عن جنين إلى سويسرا حيث يواجهون جمهورا لا يتحدث لغتهم ور يعرف الكثير عن ظروف حياتهم، ولكنهم كانوا على إدراك تام بأن عدالة قضيتهم لا تحتاج إلى وسطاء.
ويقول سامي سابانا المسؤول التنظيمي للمركز الثقافي الجديد في جنين، بأن حياة الشباب في تلك المدينة الفلسطينية فارغة تماما، حيث لا يجدون كيف بمضون أوقات فراغهم أو يجددون معلوماتهم أو يمارسون أية أنشطة، ويضيف بأن المركز جاء ليفتح لهم بابا جديدا في التواصل مع الحياة الثقافية والتعايش معها حتى ولو كان ذلك بإمكانيات بسيطة، وهو نفس مبدأ “المسرح الدولي في زيورخ” الذي يعتمد في إنجاز عروضه على أقل وابسط الامكانيات، فالمهم هو “الوصول إلى الهدف مهما كانت الصعوبات، والمحاولة خير من البقاء والانتظار” على حد تعبيره.
أخيرا، تجدر الإشارة إلى فقرة مثيرة تصحب عروض الفرقة الفلسطينية الشابة، تتمثل في ندوة الحوار التي يشهدها المسرح في ختام كل أمسية، حيث لا تصدر الأسئلة عن جمهور المشاهدين فقط، بل من طرف شباب جنين أيضا.
وفيما يعبر الجمهور عن مشاعر التأييد والتشجيع والتعاطف، لا يتوانى الممثلون الصغار عن توجيه أسئلة بريئة جدا وعادية جدا للسويسريين الحاضرين. فقد سأل أحدهم مثلا: “لماذا لا تساعدوننا سياسيا للتخلص من الاحتلال؟”، فيما توجه إليهم آخر قائلا: “لماذا تريدون ارسال قوات دولية إلى العراق وتعارضون ارسالها إلى فلسطين؟” والثالث سأل عن “تصور الحضور لمستقبل السلام في الشرق الأوسط”، إلا أن تلك الأسئلة (وغيرها) ظلت بدون إجابات، حيث كانت قاعة العرض تقبع في صمت، لا يقطعه سوى صوت سؤال آخر يبحث هو الآخر عن إجابة… لا تأتي.
تجربة مثيرة
ويقول افراد الفرقة المسرحية بأنهم يشعرون بالفخر وهم يؤدون تلك المشاهد أمام الجمهور السويسري، لأنهم ينقلون معاناة شعبهم اليومية إليهم، على الرغم من أن بعض الشباب قال أنه من المحتمل ألا يكونوا قد سمعوا بما يحدث في المناطق الفلسطينية، فيما اعترض آخرون بأن الأخبار باتت تنتقل بين جميع انحاء العالم بسرعة كبيرة، دون أن يعثروا على إجابة للسؤال المعلق: “لماذا لا يساعدوننا للتخلص من الاحتلال؟”.
لا شك في أن عروض شباب جنين ستترك أثرها على من سيشاهدها من السويسريين، فمن رأي ليس كمن سمع، وصِدق تعبير الصغار بلا مبالغة أو تكلف في الأداء ضمانة لتوصيل المعلومة، أما شباب جنين فسيعودون ومعهم أفكار أخرى حول أهمية الثقافة والتعليم والإطلاع وسعة الأفق، دون أن يفهموا لماذا ظلت اسئلتهم إلى الجمهور بدون جواب..
تامر أبوالعينين – زيورخ – سويس انفو
أمجد الشلبي وكريمة حماد وأحمد ومعتز الورتاني وأحمد صوص هم الممثلون في فرقة شباب جنين المسرحية
طارق زايد الإضاءة وعلاء الفارس الموسيقى ومحمد حماد الاخراج المسرحي
التنسيق والإشراف العام سامي سابانا.
تم عرض المسرحية بنجاح في لوكارنو وزيورخ وستتوجه المسرحية إلى لوزان وجنيف.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.