الدبلوماسية السويسرية، رحلة النجاح والفشل
يثير المعرض الذي ينظمه حاليا المتحف الوطني السويسري بزيورخ حول تاريخ الدبلوماسية السويسرية، بالتعاون مع متاحف الكانتونات ووزارة الشؤون الخارجية، العديد من القضايا.
كما يكشف الكثير من الحقائق، والحال، أن العمل الدبلوماسي بطبعه ميّال إلى السرية والتحفظ، ويفترض الكتمان والتستر والتحرك خلف الأبواب المغلقة.
تختزل اللوحات والصور والوثائق المعروضة جزءً من تاريخ الصورة التي تحملها البلاد عن نفسها وعن علاقتها بالآخرين. ويغطي المعرض فترة تمتد لثلاثة قرون، تعددت فيها النجاحات من دون أن تسلم من الأخطاء، وشهدت خلالها الحركة الدبلوماسية السويسرية فترات ازدهار ونشاط، كما عايشت فترات صعبة، خاصة عند المنعطفات الكبرى في تاريخ العلاقات الدولية.
فما هي الموجهات الرئيسية، التي تحكمت في عمل المؤسسة الدبلوماسية السويسرية، وكيف تفاعلت مع التحديات التي واجهت البلاد؟
تردد وتوجس من المهمة الدبلوماسية
بداية المعرض تؤرخ لبداية تاريخ الدبلوماسية السويسرية، ويبيّن الجناح الأول من المعرض كيف أن سويسرا، التي كانت تستضيف منذ منتصف القرن السادس عشر سفراء ومبعوثين دائمين، خاصة من فرنسا ودويلة الفاتيكان، قد أنشأت أول وزارة سويسرية للعلاقات الخارجية في بداية القرن التاسع عشر، وكان الهدف الأول لهذه الوزارة “ضمان استقلال البلاد عن كل تأثير خارجي والتأكيد على الحياد التام على الساحة الدولية”، وتمكنت الدبلوماسية الناشئة من كسب اعتراف القوى الدولية آنذاك بهذين المبدأين خلال مؤتمر فيينا سنة 1803.
ويكشف هذا التأخر في إنشاء الجهاز الدبلوماسي عن الريبة التي طبعت نظرة الشعب السويسري إليه منذ البداية، إذ اعتُـبر العمل الدبلوماسي تعبيرا عن الرغبة في التوسع والهيمنة، ومُـخالفا للديمقراطية التي على أساسها قام اتحاد الكانتونات السويسرية، والطريف أن المهمة الدبلوماسية في البداية كانت تسند لمتطوّعين، إذ لم يكن هناك دبلوماسيين محترفين بعد.
لكن الحاجة إلى هذا الجهاز ستتعزز شيئا فشيئا بعد الطفرة الاقتصادية التي عرفتها البلاد مع منتصف القرن التاسع عشر، وبعد موجة الهجرة الكبيرة للمواطنين السويسريين إلى أمريكا الشمالية وروسيا وبقية الدول الأوروبية.
أما المحطة الثانية، التي حظيت بتغطية هامة من المعرض، فهي الفترة التاريخية التي طغت عليها المنافسة الشديدة بين القوي الدولية من أجل الهيمنة والتوسع، وتفشت فيها الحروب والصراعات، سمح مبدأ الحياد في تلك المرحلة لسويسرا، بأن تلعب دور الوسيط بين تلك القوى، فظهرت في سويسرا أوّل هيئات تحكيمية، واستضافت أراضيها مؤتمرات دولية، وتعزز هذا الدور بعد أن إنضاف إليه بُـعدا إنسانيا مع نشأة اللجنة الدولية للصليب الأحمر على يد هونري دونان (من جنيف) سنة 1859، وإمضاء اتفاقيات جنيف الأربعة.
وضعت الحرب العالمية أوزارها سنة 1945، وتنبهت بعض القوى الدولية إلى أن سويسرا التي لم تشارك في الحربK كانت هي الرابحة الأولى، إذ كانت علاقاتها التجارية نشطة مع كل الأطراف المتحاربة، وظلت ألمانيا النازية الشريك التجاري الرئيسي لسويسرا، فاتهمت سويسرا بالانتهازية وتغليب مصالحها على حساب حقوق الإنسان وقيم الحق والعدل، وتبيّن للحكومة السويسرية أنه ليس لها أصدقاء من بين صفوف المنتصرين، فاختارت تغيير وجهة سياستها الخارجية.
في قلب الأعاصير الدولية
المحطة الثالثة الهامة في المعرض، كانت نشأة الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، في الخمسينات، في تلك المرحلة، اختارت سويسرا لسياستها الخارجية شعار “الحياد والتضامن الدولي”، وإن ظلت أقرب إلى الكتلة الغربية، دون أن تفقد العلاقة مع الكتلة الثانية، وكان هدف الدبلوماسية السويسرية في هذه المرحلة، الحفاظ على مصالح البلاد وتكثيف تدخلها على مستوى المساعدات الإنسانية.
وفي هذه الفترة بالذات، نشأت منظمة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم، وظلت سويسرا، التي خاب أملها في المنظمة السابقة، مترددة في الدخول في المنظمة الجديدة، وحسم الاختيار للبقاء خارجها مقابل الانخراط بقوة في الوكالات الدولية المتخصصة، الأمر الذي سيُـعاد فيه النظر بعد قُـرابة نصف قرن.
ويؤكد المؤرخ وأمين المتحف الوطني السويسري فرنسوا ديكابتاني “أن الحضور السويسري القوي داخل اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وفّر لسويسرا الإطار المناسب للتدخل دوليا من أجل احترام القانون الدولي الإنساني، ومراقبة احترام حقوق الإنسان زمن النزاعات المسلحة والكوارث الطبيعية”.
لقد حصل هذا زمن الحرب الأهلية اللبنانية، إذ أغلقت السفارة السويسرية أبوابها في غياب أي ضمانات أمنية، لكن المساعدات السويسرية تواصل تدفقها عبر المنظمات الإنسانية، ويعاضد هذا الانخراط الواسع على مستوى العمل الإغاثي، المساعي السياسية الحميدة الهادفة إلى وأد النزاعات في مهدها.
ومن المفارقة، أن قرار عدم الانخراط في منظمة الأمم المتحدة لم يمنع سويسرا من أن تتحوّل إلى عاصمة للدبلوماسية الدولية أو القيام بأدوار رائدة في الساحة العالمية.
فقد اختار الحلفاء سويسرا وسيطا، عندما أرادوا التفاوض مع اليابانيين على الاستسلام سنة 1945، ولعبت سويسرا دور الوسيط بطلب من الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار بين الكوريتين ومراقبة الالتزام به من الطرفين، وكانت هذه أوّل بعثة عسكرية سويسرية إلى خارج التراب الوطني.
واستضافت سويسرا لاحقا الوفد الجزائري المشارك في مفاوضات إيفيان من أجل الاستقلال، في وقت لم يكن ممكنا نزول هذا الوفد على التراب الفرنسي. ويتذكر الجميع اللقاء التاريخي بين رونالد ريغن وميخائيل غورباتشوف، وهو اللقاء الذي سرّع من ناحية في انهيار الإتحاد السوفييتي، وكان إعلانا صريحا ومباشرا بانتهاء زمن الحرب الباردة.
وكان لقاء طارق عزيز، نائب الرئيس العراقي الراحل مع جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، أيضا على التراب السويسري، وإن لم يكلل بالنجاح، فانتهي الأمر إلى ما انتهى إليه.
زمن المراجعات الكبرى
تحوّل المشهد الدولي جذريا بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، وتأكد الاتجاه أكثر بعد أحداث سبتمبر 2001، وأصبحت كل المواقف والمقولات والاصطفاف الدولية السابقة، محل مراجعة.
انتهت الحرب الباردة، فاهتزّ مفهوم الحياد، وأصبح العالم محكوما بقوة دولية واحدة، وبنظام كوني واحد، هو العولمة ونظام السوق، ما جعل مفهوم الاستقلال الوطني جزء من الماضي.
أما على المستوى السويسري، فقد وجدت البلاد نفسها في مرمى السهام من كل جانب، إذ طفى على السطح، ملف مطالبة المصارف السويسرية بتعويضات لضحايا الهولوكست، ووجهت إليها اتهامات بالتواطؤ مع النظام النازي، وأصبح دور الوساطة، الذي احتكرته سويسرا لزمن طويل، محل منافسة من دول أخرى مثل فيلندا والنرويج، إذ نجحت هذه الأخيرة في التوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فكان اتفاق أوسلو وقيام “السلطة الفلسطينية”. وفي نفس الفترة تقريبا، فشلت الحكومة في إقناع الشعب بالانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة.
في ظل هذه التحديات، كان استمرار الحال من المحال، وكان لابد من اتخاذ قرارات حاسمة. فكانت الخطوة الاولى الجريئة، الانضمام إلى منظمة الأمم المتحدة بعد استفتاء شعبي، وعندما توجهنا بالسؤال إلى المؤرخ وأمين المتحف الوطني السيد فرنسوا ديكابيتاني، إن كان ذلك القرار موفقا، خاصة وأنه جاء في لحظة فقدت فيها المنظمة الدولية حيادها وفعاليتها، وأصبحت تحت هيمنة الولايات المتحدة، أجاب: “لقد فهم الشعب أن أمورا كثيرة قد تغيرت، وأن البلاد والعالم قد أصبحا يواجهان أخطارا مشتركة، وأن خطر الإرهاب قد بات على مرمى حجر من الحدود السويسرية”.
وردا عن سؤال حول ماذا سيكون موقف سويسرا المعروفة بدفاعها المستميت عن الحلول السلمية للنزاعات الدولية، إذا ما تحولت مؤسسات الأمم المتحدة كمجلس الأمن مثلا إلى إدارة لعمليات الحروب المتتالية، وليس ضمانة من ضمانات السلام الدولي، قال السيد ديكابيتاني: “إن هدف سويسرا من دخول المنظمة الدولية، إحلال السلام واحترام حقوق الإنسان وتفعيل القانون الدولي ودعم الدول الفقيرة لتحقيق التنمية المستدامة”.
لكن بين الغايات والوقائع هوة من الصعب ردمها، وهو ما أدركه السيد فرنسوا غروس، رئيس التحرير بإذاعة سويسرا العالمية سابقا، إذ كان واقعيا في قوله: “حجم البلاد لا يسمح لها بإحداث تغيير كبير داخل دواليب منظمة معقدة، أصبحت تخضع أكثر من أي وقت مضى لرغبات القوى العظمى”، و أضاف: “سويسرا ستعزف مقطوعتها ضمن الأوركسترا…لا أكثر ولا أقل”، لكن ليت الأمر يتوقف عند هذا الحد!
الحلقة الأخيرة التي يتوقف عندها هذا المعرض حول تاريخ الدبلوماسية السويسرية، هي المرحلة الحيوية التي شهدها هذا القسم بوصول الرئيسة السويسرية الحالية لسدة وزارة الخارجية في يناير 2003، ومنذ البداية، وعدت السيدة ميشلين كالمي – ري بإعطاء فرصة أكبر للمرأة السويسرية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وبالعمل على الحفاظ على استقلال البلاد ورفاهية شعبها.
لكن ما الجديد أن هذا التوجه، والحال أن هذا هدف الدبلوماسية السويسرية منذ نشأتها؟ تجيب نتالي أونترناهرر Nathalie Unternahrer، أمينة بالمتحف الوطني بزيورخ عن هذا السؤال بالقول: “الجديد في الأمر، أن السيدة كالمي – ري ترى أن تحقيق تلك الأهداف يمر عبر انخراط سويسرا في الجهود الدولية المبذولة من أجل التعايش السلمي بين الشعوب، والكفاح للحد من الفقر واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية”، فإلى أي حد ستنجح هذه الدبلوماسية في تحويل هذه الشعارات إلى واقع؟ وهل ستصمد هذه الالتزامات أما بريق الدولار الأخضر والذهب الأسود والأصفر؟
يضع هذا المعرض تاريخ أحد المؤسسات الرسمية في سويسرا أمام الجمهور، وسيثير هذا الحدث، من دون شك، نقاشا عميقا حول توجهات هذه المؤسسة والأهداف المرجو منها تحقيقها، فضلا عن أنه سيمكِّـن الأجيال الصاعدة من تلاميذ وطلبة من الوقوف على مراحل وحقائق لم يعايشوها، فتكتمل الصورة في الذهن، وإن كان هذا المعرض يقدم قراءة من بين عدة قراءات أخرى ممكنة.
عبد الحفيظ العبدلي – زيورخ
يستمر معرض تاريخ الدبلوماسية السويسرية بالمتحف الوطني بزيورخ إلى 16 سبتمبر 2007.
نشأت عصبة الأمم بجنيف سنة 1919، وفي جنيف يوجد اليوم المقر الثاني للأمم المتحدة، وتعقد فيه من المؤتمرات أكثر مما يعقد في مقرها بنيويورك.
تقدر الميزانية السنوية لوزارة الخارجية السويسرية بملياري فرنك تقريبا، ويتم تخصيص 1.3 مليار فرنك منها للتعاون في مجال التنمية.
توظّف وزارة الخارجية السويسرية 3150 موظفا، يعمل 2000 منهم في البعثات الدبلوماسية والقنصليات، التي لها حضور في 193 بلدا موزعة في أرجاء العالم.
توجد في سويسرا سفارات وقنصليات لأكثر من 171 بلدا.
لمعت في التاريخ الدبلوماسي السويسري أسماء نذكر منها:
جوهان رادولف فيتشتاين (1594-1666). كان عمدة بازل، وشارك في مفاوضات مؤتمر السلام الذي انعقد في فيستفاليا ممثلا لكانتونات زيورخ وبازل وشافهاوزن. وظّف جوهان خبرته الدبلوماسية من أجل تحقيق الاستقلال عن الإمبراطورية الرومانية ومن أجل الاعتراف بسويسرا كدولة ذات سيادة.
فيليب ألبيرتو ستافر (1766-1840)، كان أول وزير للثقافة والعلوم للجمهورية السويسرية من 1798 إلى 1803. عمل سفيرا لسويسرا في فرنسا في عهد نابليون بونابرت من 1800 إلى 1803. دعا فيليب السويسريين إلى اعتماد التكتم، وأدّى سن قوانين 1803 وقيام دستور جديد لسويسرا إلى انتهاء مهمته الدبلوماسية.
شارل بيكتات دو روشمون (1755-1824)، ولد في جنيف، وتمكن من خلال خوضه لمفاوضات مع الفدرالية السويسرية إلى التحاق جنيف بالفدرالية. كما اختارته سلطات بلاده للتفاوض باسمها من أجل اعتراف القوى الدولية آنذاك باستقلال سويسرا عن أي تأثير خارجي وبمبدأ الحياد المطلق. كان ذلك خلال مؤتمر فيينا سنة 1803.
جوهان كونراد كيرن (1808-1888)، هو أول دبلوماسي للدولة الفدرالية السويسرية الجديدة، وكان يدافع عن مصالح سويسرا خلال ما كان يُسمى بنزاع نوشاتيل. وفي سنة 1856، فشلت ثورة نوشايل ضد مملكة بلاروسيا، عندئذ أرسلت سويسرا كيرن إلى باريس للتفاوض حول التحاق نوشاتيل بالفدرالية السويسرية، كدولة ذات سيادة وبذلك، تم تجاوز أزمة دولية.
جون هانري دونان (1828-1910). بعد إفلاس حملة هانري دونان، مؤسس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أجبر على مغادرة جنيف وعلى الاستقالة من اللجنة الدولية سنة 1867، وواصل عمله من أجل مساعدة الفقراء في فرنسا وبريطانيا، وعمل أيضا من خلال التحالف الذي أنشأه سنة 1871 على حماية القوى العاملة، ومن أجل تأسيس محكمة عدل دولية لحل النزاعات بين الدول، قضى هانري بقية حياته في هايدن، بكانتون أبّنزال، وحصل على أول جائزة نوبل للسلام سنة 1901.
ماكس هيبر (1874-1960)، لعب دورا هاما في إعادة تشكيل مفهوم الحياد عندما انضمت سويسرا إلى عصبة الأمم سنة 1920، وأشرف على وفود سويسرية مرات عديدة وفي لجان عمل مختلفة داخل عصبة الأمم، كما قام بدور مؤّثر جدا في تطوير القانون الدولي الإنساني، مستفيدا من خبرته القانونية والأخلاقية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.