” الدول غير العربية” فى العالم .. العربى!
أعلن الدكتور حسين شهرستاني، نائب رئيس البرلمان العراقي، أن مسودة معدلة للدستور العراقي تنص على أن العراق "عضو بالجامعة العربية وملتزم بميثاقها، لإرضاء السنة العرب والجامعة العربية".
ورغم هذا التطور الذي طرأ يوم 14 سبتمبر الجاري، إلا أن الخرائط في المنطقة تتجه حسبما يبدو إلى مزيد من التغيير والتحوير..
أوضح شهرستاني في مؤتمر صحفي عقده في بغداد يوم 14 سبتمبر أن التعديلات التي أدخلت على النص تنحصر في 5 فقرات تتعلق بهوية العراق وموارد المياه وصلاحيات الحكومة المركزية والأقاليم.
وفي سياق شرحه لتفاصيل التعديلات، قال نائب رئيس البرلمان العراقي إنه تم الاتفاق في النسخة الجديدة من مسودة الدستور على “أن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب وهو جزء من العالم الإسلامي وعضو مؤسس وفعال في الجامعة العربية وملتزم بميثاقها”.
وأشار أيضا إلى أن هذا التعديل جاء لمحاولة إرضاء جامعة الدول العربية والسنة العرب الذين احتجوا على النص القديم وفيه “أن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية”.
وكانت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية قد تأخرت كثيرا قبل أن تتحرك للاحتجاج على مادة فى الدستور العراقى يُفهم منها أن العراق لم تعد دولة عربية بالمعنى السابق. وكان معروفا منذ فترة طويلة أن عراق مابعد صدام حسين يسير فى ذلك الاتجاه، وأن المسألة لم تعد تقتصر على تلك الحالة فقط.
دول يعاد بناؤها
فالسودان قد سبقت العراق بفترة دون إعلان، بل أن ما أثير مرارا عن أن اللغة العربية لم تعد اللغة الأولى، لصالح الأوردية، فى دولة مثل الإمارات العربية المتحدة، كان يمس تلك الظاهرة، حيث أن بعض الدول التى كانت – كواحدة من المسلمات المستقرة – عربية، لم تعد كذلك، بالمعنى التقليدى.
لقد كان مفهوما منذ بداية موجة التحولات الحادة الحالية فى المنطقة العربية، أن تلك الموجة ستمس النظم السياسية بشكل حاد فى إطار مايعرف بآلية تغير النظم Regime Change لكن لم يكن متصورا حتى وقت قريب أن تصل تلك المسألة إلى إعادة بناء الدول Nation Building ، وحتى فى تلك الحالة، كانت الاحتمالات تتركز فى أن هياكل الدول قد تمس فى اتجاه التحول من دول مركزية إلى دول لامركزية فدرالية غالبا، فى ظل التوجه العام نحو إعادة توزيع السلطة والثروة بين فئاتها المختلفة، لكن ليس بالمدى الذى يؤدى إلى تحولات جوهرية فى هوية الدولة ذاتها، وهو ماحدث.
إن مشكلة بعض الدول العربية هى أنها بالفعل متعددة القوميات، لكن النظم السياسية التى تولت الحكم فيها لفترات طويلة، لم تتعامل معها على أنها كذلك، وأدت سياساتها تجاه “الأقليات الكبرى” فيها إلى تفاقم تلك المشكلة وتفجرها على نطاق واسع، فى شكل تمردات مسلحة كما جرى فى جنوب السودان وشمال العراق، فبدلا من اتباع سياسات تؤدى مع الوقت إلى إمكانية أكبر لإندماج قومى سارت الأمور فى اتجاه توجهات متصاعدة نحو الانفصال السياسى، ولأن الانفصال – مثل الاندماج – ليس سهلا، بدأت صيغة “الدولة متعددة القوميات” فى الظهور.
السودان الجديد
لقد ارتبطت هوية السودان مثلا بسيطرة السودانيين العرب فى الوسط والشمال تقليديا على حكم الدولة فى ظل قضايا معقدة كانت تمثل إشكاليات حادة، فقد ظلت هناك إنطباعات سلبية لدى كبار السن فى الشمال تحيط بكلمة “سودانى”، وكان الأفارقة يمثلون 52 فى المائة من السكان، ولم يكن من السهل فى أى وقت حكم دولة مترامية الأطراف بحجم نصف قارة من خلال حكومة مركزية، وتفاقم الوضع بشدة مع وصول حكومة البشير عام 1989، وبداية مايعتبره كثير من السودانيين عبث الترابى، خاصة مايتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية فى ظل وجود 30 فى المائة من غير المسلمين، مما أدى فى النهاية إلى إفراز مشكلة تتجاوز هوية الدولة إلى “الدولة” ذاتها.
إن ماتم الاتفاق عليه بشأن هيكل الدولة يوضح ماحدث فى السودان، فهناك الوزراء السياديين وولاة الولايات والوزراء الولائيين وأعضاء للمجلس الوطنى (البرلمان القومى ومجالس الولايات) وبرلمانات الولايات ومجلس الولايات الذى يضم كل الولايات فى شمال السودان، ومن الصحيح أن دولا فدرالية أوحتى كونفدرالية كثيرة فى العالم تشهد ماهو أعقد من تلك التركيبة دون أن ينقص ذلك من كونها دولا قوية، وأن مايتم فى السودان يجرى تحت عنوان “الوحدة الوطنية”، وأن أحدا لايقول أن هوية السودان تغيرت، وإنما هناك فقط “السودان الجديد”.
لكن ثمة إدراك أيضا بأن المسألة أعقد من ذلك، وأن الدولة تواجه الخيار بين تغيير الهوية أو إنفصال الأقاليم، وأن مشروع الراحل جون جارانج الوحدوى لم يكن يقوم فقط على حقوق المهمشين وإنما على إفريقانية السودان (الموحد)، وأن هناك قلقلة حقيقية فى الشمال ذاته وليس فقط الجنوب أو دارفور أو مناطق البجا فى ظل الصيغة الجديدة التى لم تعد توزيع السلطة والثروة فحسب، وإنما حولت هوية الدولة، على نحو ماتشير إليه انتماءات شاغلو المواقع السيادية الجديدة ذاتها، رغم حقهم المؤكد فى ذلك، وإجمالا يمكن القول أن السودان لم يعد كما كان عليه.
العراق الآخـر
كانت الصورة أكثر وضوحا فى العراق فيما يتعلق بهوية الدولة، حيث لم يتوقف الأمر عند حد تغيير علاقات السلطات فى النظام السياسى فى اتجاه شكل من البرلمانية، أو تغيير هيكل النظام السياسى فى اتجاه طائفى مشابه للنموذج اللبنانى، أو حتى تحويل هيكل الدولة الموحدة إلى فدرالية ضبابية على أسس عرقية أو إدارية أو حتى مذهبية تحت عنوان “عراق فدرالى موحد”، فواضعو الدستور الجديد أقروا مادة مفزعة للتيارات القومية فى العالم العربى، استنادا على قانون إدارة الدولة توضح طبيعة الوضع الجديد من زاوية الهوية.
إن تلك المادة التى أثارت الضجة لا تعتبر العراق ككل جزءا من محيطه العربي، بل تقصر ذلك على الشعب العربي فيه، إذ تنص على أن العراق “بلد متعدد القوميات و الشعب العربي فيه جزء لايتجزأ من الأمة العربية”، ويرى كثيرون أنه كان من الممكن تجنب الوصول إلى هذا الحد، فوجود أقليات كبرى كردية أو تركمانية لايغير هوية الدولة التى ترتبط عادة بعوامل تاريخية وثقافية عامة كما هو الحال فى دول أخرى، ترتبط مثل هذه الانتماءات فيها بقضايا ثقافية أو قانونية وليس سياسية، لكن هذا هو ماحدث.
المشكلة فى العراق أن هويته قد ارتبطت أيضا بحكم السنة العرب للدولة عبر تاريخها الطويل، ومايبدو هو أن بعض تيارات الإئتلاف الشيعى أو التحالف الكردى يريدون، ليس فقط تغيير السياسة وإنما تغيير التاريخ، فى ظل ماحاق بهم من “ظلم” فى ظل حكم البعث القومى، لذا لم يتم المرور على تلك المسألة كما حدث فى السودان، وأصر البعض على حسم كل شئ مرة واحدة، فإما تغيير الهوية أو – حسب إشارات مسعود البرزانى – الانفصال، الذى يجد صدى أيضا فى إقليم الجنوب.
خريطة مختلفة
لقد تم إدراك وجود تلك الموجة من تغير الهويات من جانب أطراف مختلفة فى المنطقة، فبدون مناسبة تقريبا أعرب السياسى اللبنانى وليد جنبلاط (وهو درزى)، فى تعليقه على نتائج التحقيق الدولى فى اغتيال الحريرى (أواخر أغسطس الماضي)، عن رفضه أن تؤدى تلك النتائج إلى تحويل لبنان عن مساره العربى، أو الهوية العربية، وهو تحليل مثير لتطور يراه ماسا بمستقبل دولة إرتبطت هويتها تاريخيا كذلك بمارون لبنان، قبل أن تتعدل التركيبة نسبيا، ليصبح لبنان نموذجا خاصا.
وفى ندوة عقدت بالقاهرة (فى نفس الوقت) حول تأثير التحولات الديمقراطية على هياكل الدول فى المنطقة، أشار أحد المشاركين فجأة إلى أنه يجب قراءة واقع المنطقة بشكل مختلف، فسوريا تحكمها طائفة شيعية، ولبنان تحكمه قيادة مارونية، أما العراق – حسب قوله – فإن للشيعة مرجعية فى إيران وللأكراد مرجعية فى محيطهم خارج العراق، أما السنة العرب فإن مرجعيتهم هى 20 دولة عربية، وهو حديث غير مترابط يفهم على أكثر من محمل، لكنه يشير إلى أفكار تتفاعل على الساحة.
إن خريطة “المنطقة” على وشك أن تتغير، فهناك من يتحدثون رسميا عن اتساع نطاق الظاهرة الشيعية التى تمتد من الشرق إلى المتوسط فى شكل قوس، وهناك من يشيرون إلى تلك الظواهر السكانية المختلة التى أفقدت بعض دول الخليج شكلها العربى، وحولت بعضها فى اتجاه “التدويل”، وتم الاعتراف فعليا بتعدد الثقافات فى المغرب العربى، والآن تدخل الدول متعددة القوميات إلى الصورة، ليبدأ طرح السؤال الكبير حول مستقبل ماعرف لفترة تاريخية طويلة باسم “العالم العربى”، وحسب بعض التحليلات، لم يعد الخطر يأتي حاليا من “الشرق أوسطية” أو “المتوسطية”، وإنما من الداخل نفسه.
د. محمد عبد السلام – القاهرة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.