الديمقراطيون العرب أضحوا أكثر تواضعا.. لكنهم لم يفقدوا الأمل
هل يمكن أن تنجح قَـطَـر فيما فشلت فيه أمريكا والدول الغربية، وهل ستتمكّـن "المؤسسة العربية للديمقراطية"، التي أعلنت سمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند، حرم أمير دولة قطر عن ميلادها، من أن تخفِّـف من حدَّة الأزمة التي تُـعاني منها الآلاف من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بالدول العربية؟
كان ذلك آخر محاولات الديمقراطيين العرب لتجاوز حالة الإحباط، التي يواجهونها، بعد أن ظنُّـوا بأن الانتقال السلمي نحو الديمقراطية، سيناريو ممكن في العالم العربي.
كانت الجلسة الأولى “للملتقى الثاني للديمقراطية والإصلاح في العالم العربي”، الذي احتضنته العاصمة القطرية الدوحة ما بين 27 و29 مايو 2007، مثيرة ومربِـكة في الآن نفسه.
جلسة جمعَـت ضيفي شرف إعل ولد محمد فال، الرئيس الموريتاني السابق، وإلى جانبه الرئيس السوداني الأسبق الجنرال سوار الذهب، لقد تمّـت دعوتهما، باعتبارهما رمزا للتخلي طواعية عن الحكم، ونقل السلطة من العسكر إلى المدنيين وفتحا بذلك مجالا للشروع في تأسيس تجربة ديمقراطية ببلديهما السودان وموريتانيا.
لقد صفّـق المشاركون لهم كثيرا، لأنهما تنازلا عن السلطة طوعا وليس كُـرها. كانت لحظة مؤثرة، لكنها مربِـكة، إذ الرجلان هما في النهاية قادة عسكريون، وبالتالي، فإن تكريمهما قد يحمل رسالة مُـزدوجة، في وجه منها دعوة للحكام العرب لكي يقاوموا غريزة التمسُّـك بالسلطة إلى آخر يوم في حياتهم، لكن في الوجه الآخر، هل يمكن أن يذهب الظن بالبَـعض إلى الاعتقاد بأن العسكر قد يكونون الملجأ الأخير لتغيير الأوضاع في العالم العربي، بعد أن فشلت بقية الوسائل السلمية؟
وهناك من ذكر في هذا السياق بما حدث في البرتغال، حين وضع الجيش حدّا لحِـقبةٍ سوداء من تاريخ الاستبداد وقيام ثورة القرنفل، التي كانت تسربت لها تداعياتها إلى إسبانيا وبلغت آثارها اليونان، مدشِّـنة بذلك الموجة الثالثة من الديمقراطية في العالم، حسبما أوضحه الدكتور سعد الدين إبراهيم في إحدى تعقيباته.
ولعل كلمة ولد محمد فال قد رفعت شيئا من الالتباس، عندما ختم مداخلته بقوله أن “تجربتنا لا تعدو أنها حلا موريتانيا لمشكلة موريتانية، ولا نسعى من خلالها إلى أن نكون نموذجا أو نُـعطي دروسا لأيٍّ كان، فلكل بلد ظروفه وخصوصيته، وأيضا حلوله المناسبة”.
لا ديمقراطية بدون أحزاب…
كشفت أعمال اللِّـجان، التي انبثقت عن أشغال الملتقى الثاني للديمقراطية، عن وجود نزعة مُـراجعةٍ لدى عددٍ واسع من نشطاء المجتمع المدني العربي، واستعدادهم لممارسة النقد الذاتي.
ففي لجنة “المجتمع المدني والأحزاب السياسية”، تمَّ الإقرار بضُـعف القوى المدنية من جمعيات وأحزاب ومحدودية تأثيرها على الواقع السياسي، وذهب البعض إلى حدِّ التشكيك في وجود مُـجتمعات مدنية عربية.
وقيل بأن “مسؤولية الدولة عن إضعاف المنظمات غير الحكومية، لا تقل أهمية عن مسؤولية أعضاء المجتمع المدني أنفسهم”، ووجِّـهت لبعض المنتسبين إلى هذا المجال، انتقادات لاذعة تتعلَّـق بسلوكهم الاحتكاري وعدم الشفافية و”تحويل بعض المنظمات إلى أشبه بالدّكاكين، لتحقيق مصالح شخصية”.
كما شكَّـك المشاركون في مِـصداقية واستقلالية الكثير من الجمعيات، التي تتخذ طابع المنظمات غير الحكومية، في حين أنها تابعة للسلطة أو لأحزاب سياسية.
أما بالنسبة للأحزاب العربية، فقد اتَّـهمت بالنُّـخبوية والطائفية في عديد الدول، مثل لبنان والعراق، واعتُـبرت أحزابا بدون برامج وبعضها “اصطنعته الأنظمة”، للترويج لتعدّدية مغشوشة.
كما اتهم الكثير منها، بأنه فاقِـد للديمقراطية الداخلية ولا يعرف التداول على المسؤوليات، ويعيش في قطيعة عن المحيط وعن الجماهير. ومع ذلك، يعتقد المشاركون بأنه لا ديمقراطية بدون أحزاب قوية ومجتمع مدني فاعل. ويظل السؤال المطروح هو: كيف يُـمكن أن يتجسَّـد ذلك على ارض الواقع؟
إشكاليات عامة
خلافا لبقية اللِّـجان التي انبَـثقت عن المؤتمر، وخروجا عن العادة، تجنَّـبت لجنة العلاقات الخارجية وضع توصيات للجلسة العامة واكتفت بوضع إشكاليات عامة، ولعل ذلك يعكس بُـعدا أساسيا في الحِـيرة التي تسود أوساط الديمقراطيين العرب.
فدور العامل الخارجي في إحداث التغييرات الكُـبرى ليس بِـدعة، خاصّـة في منطقة مثل الشرق الأوسط، حيث “جعلها موقعها الاستراتيجي بين 3 قارات، هدفا للقوى العُـظمى في العالم وأصبحت طوال القَـرنين المُـنصرمين، واقعة تحت هيمنة القوى السياسية الكبرى أكثر من أي منطقة أخرى في العالم، ولهذا، لا يمكن لأي طرف يرغب في دفع الأوضاع المحلية نحو هدف ما، دون ربط العامل الخارجي بالعامل الداخلي، مع محاولة المحافظة على استقلاليته النسبية والسعي لتغليب المصالح الوطنية على الأطماع الدولية.
ومن الإشكاليات التي طرحتها هذه اللجنة، معضلة المشروطية، أي ربط التعاون بالإصلاح السياسي. فالأنظمة القائمة لا تغيِّـر من سياساتها إلا تحت الضغط، وهذا الضغط، إما أن يكون داخليا أو خارجيا.
ونظرا لضُـعف القوى المحلية المطالبة بالتغيير، فقد اتَّـجهت الأنظار إلى الدول الكبرى، التي تستند عليها الأنظمة العربية المستبدّة للاستمرار في الحكم.
وهنا يطرح السؤال: هل الأوساط الديمقراطية مستعدّة لمطالبة الدول الغربية، وفي مقدمتها أمريكا ودول أوروبا الأساسية، بربط المساعدات التي تقدّمها للدول العربية، بانتهاج هذه الأخيرة سياسات إصلاحية جادة؟ هنا ينشأ الخِـلاف وتتباين الآراء وتنتقل الأزمة إلى الصف الديمقراطي؟
الإصلاح العربي.. مسألة داخلية
أما الإشكالية الثانية، التي طرحتها اللجنة، فتخُـص مدى استمرارية الدول الكُـبرى، ذات التأثير على المِـنطقة، في اهتمامها بقضية الإصلاح أم أن الذي يحكم سياستها، هو منطق مصالح اللحظة الراهنة، وهنا أيضا تأتي الوقائع لتربك الأوساط الديمقراطية، والتي تثبت أن الحسابات الصغيرة لا تزال تطغى على سياسات الدول الغربية، حيث تبدو وكأنها متوجِّـسة من التغيير الديمقراطي المحتمل، الذي قد يأتي بقوى سياسية واجتماعية غير مرغوب فيها، ومن هنا، سيطرت حالة التردّد والتراجع وتغليب موقف المحافظة على الموجود، خاصة بعد الدّرس القاسي للمثال العراقي.
يضاف إلى ذلك، ما لاحظته اللجنة أيضا من طُـغيان البيروقراطية في تعامل المؤسسات الأمريكية والأوروبية مع مسألة الإصلاح، وعدم وجود تواصل قوي وجادّ مع منظمات المجتمع المدني في دول المنطقة.
كل تلك التساؤلات كانت حاضرة في الأذهان عند صياغة البيان الختامي، الذي أكّـد فيه المجتمعون على أن عملية الإصلاح في العالم العربي “مسألة داخلية تقوم على التراضي الوطني، الذي يبني على مشاركة كل الفعاليات الوطنية الحكومية وغير الحكومية”.
لم يعد خافِـيا أن إشكالية التمويل تُـمثل إحدى المعضلات، التي تواجهها الكثير من منظمات المجتمع المدني في العالم العربي. فبدون مال، لا تستطيع هذه المنظمات أن تعيش، وكثير من الحكومات تحتكر المال العام ولا تُـنفقه إلا على الجمعيات الموالية لها، أما إذا استعانت إحدى هذه الجمعيات المختصة بالمجال الديمقراطي وحقوق الإنسان بإحدى مصادر التمويل الأجنبية، فقد تُـتهم بالعمالة لهذه الدولة الغربية أو لتلك.
اختراق محتمل.. رغم التراجع والتصلب!
فهل يُـمكن أن تكون “المؤسسة العربية لدعم المجتمع المدني”، التي ولدت في قَـطر وبرعاية من الشيخة موزة، حلاّ لهذه الإشكالية؟ إذ يُـمكن أن يقال بأن الحكومة القطرية، التي تبرّعت بعشرة ملايين دولار لهذه المؤسسة، ليست لها أطماع، مثلما هو الشأن بالنسبة للحكومات الغربية، وإذ لم يصدر حتى الآن رد فعل من أي نظام عربي، لكن عواصم عربية عديدة تتعامل بحساسية شديدة مع النظام القطري، ولهذا، لا يُـعرف إن كانت بعض الحكومات ستغُـض الطرف أم أنها ستعترض على أي دعم يقدّم لإحدى منظماتها المحلية غير المرغوب فيها؟
هذا الأمر، يُـدركه القطريون جيدا، وهو ما جعلهم حذِرين في هذا المجال، فلم يوكِـلوا مسؤولية إدارة هذا الصندوق لشخصية غير قطرية، رغم أنهم عيَّـنوا في هيئتها شخصيات عربية وعالمية من الحجم الثقيل، مثل السيدة ماري روبنسن، رئيسة وزراء إرلندا والسيد يوريكا فيشر، وزير خارجية ألمانيا السابق، ووزيرة التجارة الدولية وشؤون أوروبا في الحكومة الإيطالية، والرئيس الموريتاني السابق علي ولد محمد فال، ورئيس وزراء لبنان الأسبق سليم الحص، إلى جانب د محمد عابد الجابري، والدكتور عزمي بشارة.
وبقطع النظر عن نوعية ردود الفعل المحتملة، فقد سبق أن دفعت القناة الفضائية “الجزيرة” معظم حكومات المنطقة إلى تغيير تعامُـلها مع إعلامها المحلي، مما وفَّـر فُـرصة لرفع سقف حرية التعبير في عديد من الدول العربية.
فهل يُـمكن افتراض أن تتكرّر التجربة مع المؤسسة العربية للديمقراطية، فتُـحدِث نفس الضغط المعنوي وتقوم بعض الحكومات بتعديل علاقاتها مع أحزابها وجمعياته، بأن ترفع عنها الحظر وتفتح أمامها الحق في التمويل العمومي! اختراق مُـحتمل، رغم حالة التراجع واستمرار التصلب.
مراسلة خاصة بسويس إنفو – الدوحة
شارك في الملتقى حوالي 350 شخصية يمثلون مختلف مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب والنقابات والجمعيات في جميع الدول العربية.
بحث الملتقى على مدار ثلاثة أيام موضوع تقييم الأوضاع العربية الراهنة وحالة المجتمع المدني والمنظمات الأهلية وكيفية بلوغ أهداف وغايات اتطوير والإصلاح في المنطقة العربية ونظمها السياسية كما تدارس مشكلات الدعم المادي لدعاة الديمقراطية.
انعقدت خلال أيام الملتقى ثمان ورش عمل متخصصة بحثت الموضوعات التالية : – المجتمع المدني والأحزاب السياسية – والدساتير وحكم القانون واستقلال القضاء والعدالة الإنتقالية – والمرأة والشباب والمشاركة السياسية – ودور وسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات في تعزيز الديمقراطية – والحكومات والبرلمانات والشفافية – وإشكالية الموارد ودور القطاع الخاص في تعزيز الديمقراطية – والدولة والإسلام والأقليات والديمقراطية – ودور القوى الخارجية في التحول الديمقراطي.
أشرف على تنظيم الملتقى الثاني كل من “اللجنة الدائمة لتنظيم المؤتمرات في وزارة الخارجية القطرية” و “اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان” في قطر.
عقد الملتقى الأول للديمقراطية والإصلاح في الوطن العربي في الثالث من يونيو من عام 2004 بمشاركة ما يقارب 150 مفكراً عربياً من العالم العربي والمهجر.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.