“الربيع العربي للديمقراطية” .. سراب أم حقيقة؟
يتواصل الجدل هذه الأيام في الشارع والفضائيات وداخل صفوف النخب العربية حول أبعاد التحركات والقرارات والإرهاصات التي تشهدها بعض بلدان المنطقة.
وفيما يرى البعض أن المسالة لا تزيد عن محاولات يائسة من طرف عدد من الأنظمة لتفادي الضغوط الخارجية، يعتقد آخرون أن ربيع الديمقراطية .. قد حل فعلا!
“الربيع العربي للديمقراطية” .. سراب أم حقيقة؟: سؤال طرحته سويس انفو على الدكتور سعد الدين إبراهيم، مدير مركز إبن خلدون للدراسات الإنمائية بالقاهرة، وأستاذ الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وداعية التحول إلى الديمقراطية في مصر وأحد مَـن تجاسروا على ترشيح أنفسهم لمنافسة الرئيس مبارك، والموجود حاليا في الولايات المتحدة.
أكد محاورنا في البداية أن الولايات المتحدة تُـدرك حقيقة أن مصر درجت على مدى المائتي عام الماضية، على أن تقود التحولات الكبرى في المنطقة، حضاريا وثقافيا، وتحدد إيقاع التغير والتحول في المنطقة سلبا أو إيجابا، ولذلك، فإن البدء بالتحول الديمقراطي في مصر يُـمكن أن ينسحب على ما أصبح يُـعرف بتعبير “ربيع الديمقراطية في العالم العربي”، بعد أن كان علماء السياسة والاجتماع السياسي في الولايات المتحدة قد وضعوا تعبيرا جديدا، يصف الحالة المستعصية على التغيير في العالم العربي هو “الاستثناء العربي” من القواعد التي تنطبق على مناطق العالم الأخرى، وخاصة فيما يتعلق بالتحول نحو الديمقراطية خلال الثلاثين عاما الماضية.
وقال، إنه، وإن كانت الإجابة على سؤال ربيع الديمقراطية العربي، هل هو سراب أم حقيقة ليست قاطعة، فإنه من المؤكد أن ما يحدُث ليس سرابا. ودلّـل على ذلك بأن مظاهرات ما سُـمي بثورة الأرز في لبنان، ضمّـت جموعا حاشدة من شباب الطبقة المتوسطة المرفّـه، الذي كان منغمسا في اللهو والعبث، ولم يكن يكترث بالشأن العام، وسرعان ما أظهر إصراره على المطالبة بالتغيير، وأنه لن يتوقف عن الاحتجاج، حتى يعود للبنان استقلاله وتخرج القوات السورية من لبنان.
وضرب الدكتور سعد الدين إبراهيم مثالا آخر على الرغبة في التغيير فقال، “إنه رغم وجود أكثر من سبعمائة حاجز للتفتيش في الضفة الغربية وقطاع غزة، أصر الشعب الفلسطيني، وتحت نير الاحتلال، على أن يقول كلمته في الانتخابات، وزادت نسبة المشاركة السياسية عن 65%”. وحتى الشعب العراقي الذي يئن تحت وطأة الوجود العسكري الأجنبي، وخرج لتوِّه من قبضة نظام حكم استبدادي ووحشي، خرج بأعداد زادت عن ثمانية ملايين ناخب ليخوض تجربة ممارسة حقه في الإدلاء بصوته.
إذن لا يستطيع أحد أن يزعم بأن ما تشهده المنطقة العربية من تحركات من أجل التغيير والتحول نحو الديمقراطية هي مجرد سراب، ولكن هل سيؤدي هذا الحراك إلى ربيع من الديمقراطية والحرية يغمر البلاد العربية؟ لا يمكن القطع بذلك حتى الآن.
وانتقل عالم الاجتماع السياسي من تحليله للتطورات في المنطقة العربية إلى التركيز على ما يحدث في مصر بالتحديد فقال: “إنه مع إفلاس النظام السياسي المصري خلال ربع قرن من حكم الرئيس مبارك، وتكرار وعوده بالإصلاح والتغيير دون إدخال أي إصلاحات حقيقية، لم يكن غريبا أن تعبر كلمة واحدة عما يجيش في نفوس الشعب المصري في سلسلة المظاهرات التي تشهدها مصر في الآونة الأخيرة تحت شعار “كفاية”، والذي سرعان ما انتشر كالنار في الهشيم من الشارع المصري إلى الدول العربية الأخرى وأصبحت “كفاية” تعبر في لبنان عن المطالبة بوضع نهاية للاحتلال السوري، وفي فلسطين كفاية للاحتلال والقمع، وفي العراق كفاية للعنف والفوضى والاحتلال، بل وصل شعار “كفاية” من الشارع المصري إلى الشارع السوري الذي شهد، ولأول مرة منذ قمع تمرد الإخوان المسلمين بالقوة المسلحة في حماة، احتجاج مائتي مثقف سوري على الأوضاع في سوريا.
الأمل في ربيع حقيقي للديمقراطية
ورصد الدكتور سعد الدين إبراهيم ملامح تُـوحي بالأمل في أن تلك التطورات ليست سرابا ومنها:
أولا، كسر حاجز الخوف من قمع السلطة يوما بعد يوم، وهو مؤشر على بداية النهاية بالنسبة للنظم الاستبدادية وللطغيان.
ثانيا، تفشي ظاهرة التململ والاحتجاج من المستوى الشعبي العفوي إلى المستوى المهني، مثل احتجاج القضاة في مصر على محاولة استخدامهم كغطاء لأي تمثيلية هزلية لمراقبة الانتخابات مراقبة صورية، بينما تمعن السلطات في تزوير الانتخابات، وكذلك، احتجاج أساتذة الجامعات المصرية على تدخل الأجهزة الأمنية في الحياة الجامعية المصرية، بل وفي قيام الأساتذة بالدراسات والبحوث.
ثالثا، وإن كان ربيع الديمقراطية لم تظهر ثماره بشكل كامل في مصر والعالم العربي، فإن الشتاء الطويل القارس للاستبداد ونظم الحكم الشمولية قد قارب على الانتهاء.
وردا على سؤال عمّـا سيكون البديل لنظام الحكم في مصر، إذا كانت الأحزاب السياسية ورقية بشكل حال دون تمتع زعماء الأحزاب السياسية المصرية بأي مصداقية مع مسارعة السلطة ووسائل الإعلام، التي تديرها الدولة إلى دمغ الشخصيات الإصلاحية القيادية بأنها مخالب أمريكية للتدخل في الشأن الداخلي المصري، وإثارة المخاوف من أن البديل سيكون استيلاء الإسلاميين على الحكم، وبالتالي، وقف عملية تداول السلطة من خلال صناديق الانتخابات، قال الدكتور سعد الدين إبراهيم، “إنه يختلف مع من يُـثيرون تلك المخاوف لأسباب عديدة:
أولا، إذا كُـنّـا نؤمن بالديمقراطية، فيجب أن تشمل الممارسة السياسية الجميع، وألا يتم استبعاد أحد منها ما دام يقبل بقواعد العملية الديمقراطية، لأننا لو استبعدنا الإخوان المسلمين في مصر، نكون قد أقصينا قوة سياسية حقيقية في الشارع المصري.
ثانيا، إذا كُـنّـا نؤمن بالديمقراطية، فيجب ألا نخشى من الضغوط الأمريكية، ولا من الطائفية، ولا من المجهول والفوضى التي يخشاها البعض في أعقاب التغيير، لكي نمضي في طريقنا ونحدث التغيير والتحول نحو الديمقراطية.
ثالثا، إذا كُـنا نؤمن بالديمقراطية، فيجب التخلي عن الأساليب الشرطية التي تفاضل بين الحصول على الحرية والديمقراطية، أم تحقيق التنمية والتحرر الاقتصادي أو بين الديمقراطية، أم تحقيق العدالة الاجتماعية وتحرير الأرض العربية المحتلة، فلا شيء يحُـول بين السعي من أجل الديمقراطية وبين حرية الشعوب بعد ذلك في ترتيب أولويات أهدافها وسُـبل تحقيقها.
وخلّـص إلى أن أي قيادة تأتي عن طريق صناديق الانتخابات، ستكون أفضل في جميع الأحوال من نظام سياسي لم ينتخبه أحد ولا ينوي التخلي عن الطغيان وعدم السماح بالتداول السلمي للسلطة. ولخّـص ذلك بقوله: “إن الطغاة يُـولدون المتطرفين والغلاة، وهما معا يأتون لبلادنا بالغُـزاة”.
ونبّـه الدكتور سعد الدين إبراهيم إلى حقيقة أن الشارع المصري يُـظهِـر قُـدرته الفائقة على المشاركة بصوته وبنسب تزيد عن 75% عندما تتوفّـر الفرص الحقيقية في المنافسة، ويظهر ذلك واضحا في انتخابات النقابات، بل ومجالس إدارات النوادي الرياضية، حيث يدرك ما تتمتع به تلك الانتخابات من مصداقية، وما يتوفر فيها من تنافس حقيقي وشفافية في عمليات التصويت والفرز، ولكن نفس هذا الشعب لا يشارك إلا بنسبة مشاركة متدنِّـية في الاستفتاءات الهزلية على شخص واحد وبدون أن تُـسنح لأحد الفرصة في منافسته.
فشل على عدة مستويات
توجهت سويس إنفو إلى الدكتور رشدي سعيد، عالم الجيولوجيا المصري الأمريكي، وعضو مجلس الشعب المصري السابق أيام حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وسألناه عن أثر التململ الشعبي في مصر في توفير قوة الدفع اللازمة لربيع حقيقي للديمقراطية في العالم العربي فقال: “إنه لمس شعورا عاما في مصر بأن النظام يمر بأزمة حقيقية، وأن انفراد الحزب الوطني الحاكم بالسلطة على مدى ربع القرن الأخير لم يحقق لمصر الرخاء أو لأبنائها العيش الكريم، حيث فشل النظام على كل المستويات.
ورصد الدكتور رشدي سعيد الملامح الأساسية للنظام السياسي في مصر منذ صدور دستور مصر الحالي في عام 1971 في عدة نقاط:
أولا، النظام السلطوي الأبوي: استند النظام إلى دستور يضع كل السلطة في يد رئيس الجمهورية بصلاحيات للسيطرة على كافة شؤون الدولة، فهو الذي يُـعيِّـن ويُـقيل رئيس الوزراء، ويُـقر القوانين، ويحتفظ بموقع رئيس الحزب الحاكم، والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ورئيس مؤسسة الشرطة، ورئيس الهيئة العليا للقضاء. وفي مقابل كل هذه السلطات، فالرئيس المصري ليس مسؤولا أمام ممثلي الشعب، وفوق كل هذا، فرض قانون الطوارئ الذي يُـعطي لسلطات الدولة سلطات واسعة تحد كثيرا من الحقوق المدنية للمواطنين المصريين.
ثانيا، العقد الاجتماعي: بينما رضي المصريون خلال فترة الستينات بالنظام السلطوي الأبوي مقابل أن يقوم النظام بتوفير فرص العمل من خلال الإشراف على الاقتصاد، وفتح أبواب الحراك الاجتماعي، فإن المواطن المصري بدأ يرفض ذلك النظام، عندما تخلى النظام عن مسؤوليته في إدارة الاقتصاد وتوفير المزايا الاقتصادية والاجتماعية للجماهير، وهو ما فطن إليه الرئيس السادات، فبدأ عملية الانفتاح السياسي من خلال المنابر ثم السماح للتيارات السياسية بتنظيم الأحزاب ووضع أسس التحكم التي توارثها من بعده الرئيس مبارك، من خلال الاحتفاظ بحق الاعتراض على إنشاء أي حزب لا يرضاه، وتقييد قدرة الأحزاب على الحركة بين الجماهير عن طريق حظر الاجتماعات العامة وحرمانها من الوصول إلى الشعب عن طريق الإعلام، الذي لا يزال تحت السيطرة الكاملة للحكومة.
ثالثا، الأحزاب الورقية: على الرغم من صعوبة الحصول على ترخيص بإنشاء الأحزاب من اللجنة المكلفة بهذا الأمر، والمشكلة من موظفين عموميين ينتمون إلى الحزب الوطني الحاكم، إلا أن عددها قد زاد عن ستة عشر حزبا، معظمها أحزاب ورقية ليس لها رصيد أو حضور لدى الجماهير، باستثناء ثلاثة أحزاب هي: الوفد، والتجمع، والناصري مع العلم بأن الوفد والناصري لم يستطيعا الحصول على الترخيص بالإنشاء، إلا بعد اللجوء إلى القضاء.
الإصلاحات الشكلية .. خطر!
وأمام ذلك الجمود والتردي، حدد الدكتور رشدي سعيد ملامح التحرك الشعبي والحكومي للتعامل مع التململ الشعبي في الشارع المصري، وتعالي أصوات المطالبة بالإصلاح والتحول نحو الديمقراطية في مصر:
أولا: “الإصلاح من الداخل أم الضغط من الخارج”.. مع تعالي الأصوات المطالبة بالتغيير والإصلاح في الشارع المصري، وتزامنها مع ضغوط خارجية، رأت في القمع السياسي والإحباط الاقتصادي سببا من أسباب استهداف الولايات المتحدة بهجمات سبتمبر الإرهابية، رفعت الحكومة المصرية شعار أن الإصلاح يجب أن ينبع من الداخل، فدعت بعض المفكرين لمناقشة الإصلاح في مكتبة الإسكندرية، وانتهى الأمر بإصدار توصيات ظلّـت حبيسة الأدراج، ومع استمرار الضغط الشعبي، فتحت الحكومة باب الحوار مع الأحزاب المعتمدة للاتفاق على أسس الإصلاح السياسي من الداخل، وانتهى الحوار، الذي استُـبعدت منه جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، بالاتفاق على تأجيل النظر في تعديل الدستور إلى ما بعد إجراء الاستفتاء على إعادة ترشيح الرئيس مبارك لفترة خامسة في خريف العام الحالي، بحجة عدم وجود وقت كاف لتطبيق نصوص الدستور المتعلقة بإجراءات تغييره.
ثانيا، بعد اتفاق الأحزاب على تأجيل النظر في تعديل الدستور، أعلنت جماعة الإخوان المسلمين مبايعتها للرئيس مبارك لفترة خامسة، تصل بفترة حكمه إلى ثلاثين عاما. غير أن الرئيس مبارك فاجأ الشعب والأحزاب بالإعلان عن طلب تقدَّم به لمجلس الشعب لتعديل المادة 76 من الدستور، بهدف تغيير طريقة اختيار رئيس الجمهورية من الاستفتاء العام على مرشح واحد يختاره المجلس إلى انتخابات يتنافس فيها أكثر من مرشح للرئاسة.
ثالثا، فقدت الأحزاب السياسية مصداقيتها بعد مشاركة رؤساء تلك الأحزاب في مهرجان الإشادة بحِـنكة الرئيس، ووصف اقتراح تعديل المادة 76 بأنه عمل تاريخي غير مسبوق، رغم إعلان رؤساء هذه الأحزاب قبل أيام عدم إمكان تعديل الدستور قبل انتهاء الدورة البرلمانية، كما تراجعت جماعة الإخوان المسلمين عن مبايعتها للرئيس مبارك. وكان رد الفعل الشعبي سريعا، فخرجت حركات شعبية من خارج الأحزاب إلى الشوارع تطالب بتغيير النظام، وكان من أبرزها حركة “كفاية” التي ضمّـت عددا من الناشطين السياسيين من مختلف التوجهات، والتي رفعت شعار “لا تمديد ولا توريث”. وتوالت مظاهرات الحركة في مختلف أرجاء مصر، ثم خرجت جماعة الإخوان المسلمين عن صمت فرضته على نفسها، فنظمت مظاهرة حاشدة تُـطالب بالتغيير، ولكنها لم ترفع هذه المرة شعار “الإسلام هو الحل”، ثم دخل المهنيون حَـلَـبة الاحتجاج، وارتفع صوت أساتذة الجامعات لوقف العمل بالنظام الأمني، الذي يحكم الحياة الجامعية، كما عبّـر رجال القضاء عن إصرارهم على تحقيق استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وخاصة في الرقابة على الانتخابات القادمة.
ورغم ذلك، توقع الدكتور رشدي سعيد أن ينجح ضغط أغلبية كوادر الحزب الحاكم في مصر في مسعاه، لاستمرار الوضع الحالي للنظام السياسي مع إدخال تعديلات شكلية في طريقة اختيار الرئيس، مع العمل على استمرار الرئيس مبارك لفترة خامسة.
وقال في هذا الصدد: “إن هذه الكوادر تحتل المراكز الرئيسية في الجهاز الإداري للدولة وأجهزة الإعلام، المسموعة والمرئية والمقروءة، وتسيطر على مؤسستي الشرطة والجيش، كما تلعب دورا رئيسيا في قطاعي المال والاقتصاد، ولقد رتّـبت كل هذه القيادات حياتها على رغد العيش المستند إلى سوء استغلال السلطة والفساد اللذين فاضا في مصر حتى أصبحا جزءا من نظامها المؤسسي، ومما يساعد في الدفع باتجاه المحافظة على الوضع كما هو عليه الآن، تأييد جزء كبير من الرأي العام في مصر لفكرة أن بقاء مبارك في السلطة أفضل من أن تأتي الانتخابات بإسلاميين إلى الحكم، أو أن تَـشيع الفوضى في البلاد، كما تابع الناس ما حلّ بالعراق وأفغانستان وغيرهما بعد سقوط النظام الحاكم”.
أخيرا خلّـص الدكتور رشدي سعيد إلى أن “تمكن النظام الحاكم في مصر من تقديم إصلاحات شكلية والاحتفاظ بالسلطة، سيكون له أثر سلبي بالغ على فرص بزوغ الربيع العربي للديمقراطية”.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.