السودان: بلد يتحول إلى كيانـين
اقتربت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان من إقرار اتفاق سلام ينهي أكثر من 20 عاماً من الحرب الأهلية في البلاد.
وفيما تزداد الضغوط الأمريكية على الطرفين للإسراع في توقيع الاتفاق النهائي، تُـشكّـك أطراف سودانية في إمكانية إحلال سلام دائم في الجنوب.
بدأ الجانبان العد التنازلي نحو المحطة الأخيرة بتوقيعهما في 7 يناير الحالي على اتفاق اقتسام الثروة في منتجع سيمبا بضاحية نيفاشا القريبة من العاصمة الكينية نيروبي.
وقد حسم الاتفاق أهم المشكلات التي أدت إلى اندلاع الحرب في شهر مايو من عام 1983. وتتلخص أبرز نقاط الاتفاق فيما يلي:
– نصّ الاتفاق على اقتسام عائدات النفط المنتج في جنوب البلاد مناصفة بين الجانبين أي بواقع 50% ونسبة 2% للمنطقة المنتجة بعد خصم نصيب الشركات المستثمرة فيه، مع العلم أن أكثر من 80% من النفط المنتج حالياً يستخرج من حقول تقع في جنوب السودان.
– إنشاء لجنة مستقلة (مفوضية للنفط) تشرف على الإنتاج والعقود والتسويق بإشراف الرئاسة (الرئيس عمر البشير ونائبه المرجح العقيد جون قرنق زعيم الحركة الشعبية) خلال الفترة الانتقالية التي تستمر 6 أعوام.
– الإبقاء على بنك مركزي واحد يعمل بنافذتين: نظام مصرفي إسلامي في شمال البلاد، وعالمي تقليدي في جنوبها.
– إصدار عملة موحدة في وقت لاحق مع استمرار العمل بالدينار في شمال السودان، واستمرار تداول العملات المعترف بها حالياً في المناطق التي تسيطر عليها الحركة في الجنوب (الجنيه – البر الإثيوبي – الشلن الكيني – الشلن الأوغندي – النقفة الإريترية، وذلك إلى حين إصدار العملة الجديدة.
– تمكين الولايات الجنوبية العشر، وحكومة الجنوب الإقليمية، والمناطق الأخرى المتأثرة بالحرب من توفير احتياجاتها وتقوية الخدمات.
وقالت الحكومة إن الاتفاق سيفتح الباب أمام مزيد من إنتاج النفط وجذب المستثمرين وإعفاء ديون البلاد الخارجية وتدفق العون. لكن الإنفاق على الطوارئ والدفاع لن يشهد تخفيضاً على المدى القصير، لأن وزارة المال ستصرف على فصل القوات وإزالة الألغام ودفع فوائد ما بعد الخدمة للعسكريين الذين سيُـسرحون من الجيش والقوات النظامية، حسب اتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية الموقع بين الطرفين العام الماضي.
ورأت الحكومة أيضاً أن الاتفاق سيؤدي إلى عجز في موازنة الدولة عند تنفيذه، الأمر الذي يتطلب تحركاً عاجلاً لسد العجز عبر توفير موارد جديدة والحصول على مزيد من الدعم من طرف المانحين.
ترحيب حذر.. وكيان جديد
أبدت أحزاب المعارضة الرئيسية، وهي حزب الأمة بزعامة الصادق المهدي، والحزب الاتحادي الديمقراطي برئاسة محمد عثمان الميرغني، وحزب المؤتمر الشعبي الذي يتزعمه الدكتور حسن الترابي، والحزب الشيوعي بقيادة محمد إبراهيم نقد المختفي منذ سنوات، ترحيباً حذراً باتفاق قسمة الثروة، واعتبرته خطوة متقدمة نحو إقرار السلام. لكنها رأت أنه اتفاق ثنائي لن يـُكتب له الدوام والاستقرار، إذا لم تجمع عليه القوى السياسية لأنها لم تكن طرفا فيه.
وأجمع خبراء ومراقبون للشأن السوداني على أن اتفاق قسمة الثروة أكمل الضلع الثالث (الاقتصادي) لتأسيس كيان جديد في جنوب البلاد، إذ أنه كرس موارد الجنوب له ولم يمنحه من الشمال شيئاً، هذا فضلا عن الاتفاق الإطاري الذي وقعته الحكومة والحركة الشعبية في بلدة ماشاكوس الكينية في 20 يوليو عام 2002، والذي حدد الإطار السياسي والدستوري للكيان بإقرار حق تقرير المصير وتشريعات للجنوب.
ويرى المتتبعون للأوضاع في السودان أن الضلع الآخر حدده اتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية الذي وقعه الطرفان في ضاحية نيفاشا في 25 سبتمبر 2003، والذي منح الحركة الشعبية جيشاً وسيطرة عسكرية شبه كاملة على الجنوب.
وسيكون العقيد جون قرنق زعيماً بلا منازع على جنوب السودان الذي يجاور 5 دول ويحتل مساحة جغرافية تضاهي مساحة دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة، وهو لا يحتاج إلى انتظار الاستفتاء على مصير الجنوب بعد 6 سنوات إذا أراد الانفصال، وإنما لإذاعة بيان صحفي لأن الجنوب سيكون عندها كياناً مستقلاً في الواقع.
عشرة أيــــام!
وقد شهدت الأيام الماضية اتصالات أمريكية وبريطانية مكثفة بعلي عثمان محمد طه، النائب الأول للرئيس السوداني، وبزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان العقيد جون قرنق في مقر إقامتهما بضاحية نيفاشا.
فقد هاتفهما وزير الخارجية الأمريكي كولن باول ثلاث مرات خلال أسبوع واحد، وحثهما على تسريع محادثاتهما لحسم ما تبقى من القضايا المطروحة أمامهما، والمتعلقة بمستقبل المناطق المهمشة الثلاث (جبال النوبة، أبيي، وجنوب النيل الأزرق)، وعلى اقتسام السلطة خلال فترة زمنية لا تتجاوز عشرة أيام.
كما تلقى طه وقرنق اتصالاً مماثلاً من مستشارة الأمن القومي الأمريكي كوندوليزا رايس، وزارهما أيضاً المبعوث الرئاسي الأمريكي إلى السودان السيناتور جون دانفورث والمبعوث البريطاني إلى السلام في السودان السفير ألن غولتي في مهمة مشابهة.
وترغب الولايات المتحدة في إنجاز اتفاق قبل الحادي والعشرين من الشهر الحالي، وهو موعد إلقاء الرئيس جورج بوش لخطابه السنوي عن حال الاتحاد، والذي سيخصص فيه فقرة عن السلام في السودان.
ويبدو أن بوش يريد أن تكون مسألة السودان جزءاً من حملته الانتخابية لخوض منافسة الرئاسة. كما أن إدارته قد استكملت استعداداتها لاستقبال قادة الحكومة والحركة الشعبية في واشنطن، حيث سينتظم حفل توقيع اتفاق السلام في حدائق البيت الأبيض خلال شهر فبراير المقبل.
تساؤلات النّـخـب
ويرى المراقبون أن موضوع السودان بات بندا على الأجندة الأمريكية الداخلية بعدما تبناه أقطاب اليمين المتطرف في السنوات الأخيرة. كما أن بوش يريد من خلاله امتصاص شيء من الغضب العربي والإسلامي بتحقيق إنجاز سياسي، بعدما واجه صعوبات عسكرية وسياسية في أفغانستان والعراق.
وتعتقد نخب سودانية أن اتفاق السلام سيولد بصورة غير طبيعية، لأنه تم تحت ضغط وإرادة أجنبية وبين طرفين. ومع أنه يمكن أن يضع حدا للحرب، إلا أنه لن يحقق سلاماً عادلاً ومستداما لأنه تجاهل، بل وعزل معظم القوى السياسية التي لن تكون ملزمة به.
من ناحية أخرى، لم يخاطب الاتفاق جذور المشاكل المشابهة، لذلك، وقبل أن يصل إلى نهاياته، انفجرت الأوضاع الأمنية وتصاعدت المواجهات العسكرية في غرب البلاد. أما الأوضاع في شرق السودان فهي مرشحة أيضا للتوتر.
وتشير تلك النخب إلى أن الولايات المتحدة تستعجل دوماً في الخطوة النهائية، لكنها لا تملك في الواقع تصوراً شاملا للحل، وتضرب على ذلك مثلاً باتفاق أوسلو للسلام في الشرق الأوسط الذي جرى التوقيع عليه في البيت الأبيض وسط احتفالات ضخمة، لكنه لم ينجح في تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبالحملة الأمريكية على أفغانستان والعراق التي لم تخلف استقراراً وسلاماً في البلدين.
النور أحمد النور – الخرطوم
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.