السودان ومحنة القرار 1593
أيا كان الموقف الذي ستتّـخذه الخرطوم إزاء القرار الدولي 1593 الداعي إلى محاكمة المتّـهمين بارتكاب جرائم حرب في دارفور في المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، فثمة تبِـعات جدّ خطيرة منتظرة في الأفق.
ولن يعدو الأمر سوى بعض الوقت لتتّـضح الطريقة التي ستلتزمها الحكومة السودانية رسميا، وعندها سيُـصبح لكل حادث حديث.
القرار 1593، هو أحد أوضح القرارات المعبّـرة عن تناقضات النظام الدولي القائم، وعن حالة التوافق التي بدأت تسري بين ضفّـتي الأطلنطي بين واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى، لاسيما باريس وألمانيا بعد عام من التوتر السياسي غير المسبوق، وأيضا عن سياسة المعايير المتعدّدة التي يتّـخذها الأقوياء والقائمون على إدارة شؤون العالم المعاصر، والتي تقابلها حالة تفتّـت وتشرذم وفردية مطلقة تتعامل بها الدول الصغرى قليلة الحيلة.
وفي كل الأحوال، فإن القرار يعكس طبيعة اللّـحظة الراهنة دوليا، حيث تَـحوّل مجلس الأمن إلى أداة يستخدمها الكبار في فرض ما يتوافق مع معاييرهم ورؤيتهم للقضايا الإقليمية المختلفة، دون اعتبار لرؤى وآليات القوى أو المنظمات الإقليمية الأكثر التصاقا وفهما وإدراكا لطبيعة ما يجري بالفعل.
ولعل الاتحاد الإفريقي، الذي ما زال يحبو في خطواته الأولى من أجل تدعيم آلياته الذاتية لحل الصراعات أو بناء السلام في البلاد الإفريقية، التي تتعرّض إلى أزمات داخلية أو صراعات أهلية، سيكون الخاسر الأكبر من القرار 1593، والذي حرمه عمليا من الاستمرار في جهود حل الصراع في دارفور، استنادا إلى فهم عميق لطبيعة الصراعات القبلية الممتدة في البلدان الإفريقية، وهو الفهم غير المتوفر في الأسلوب والطريقة الأوروبية والأمريكية.
وإذا كان قرار مجلس الأمن ومَـن وراءه، يتشدقون بالحفاظ على قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي، وعدم السماح للمجرمين المدانين بجرائم ضد الإنسانية بالإفلات من العقوبة، فإن القرار نفسه وبإقراره استثناء المواطنين الأمريكيين الذين قد يرتكبون أفعالا مجرمة من المثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، قد وضع قاعدة للتمييز بين الضعفاء، الذين لا خيار لهم سوى الانصياع، وبين الأقوياء الذين يستطيعون الهروب والتعالي بكل صفاقة على القانون الدولي نفسه.
من جانب آخر، فإن القرار 1593 يضع مسمارا آخر في نعش مفاهيم السيادة التقليدية، والتي باتت في ذمة التاريخ من الناحية العملية. فالأولوية أصبحت لمن يملكون القوة والنفوذ، يخترقون بها صناديق السيادة التي كانت في يوم من الأيام سوداء، ولكنها لم تعد كذلك في عالم اليوم.
رفض حكومي قوي.. ولكن!
هذه السِّـمات الكلية للقرار تضع أعباءً بالجملة على الحكومة السودانية، وإذا كانت حركتي التمرد في دارفور قد عبّـرتا عن سعادتهما بصدور القرار لأنه يحقّـق لهما خطوة أخرى على طريق التدويل الكامل للأزمة في دارفور، ويفتح الباب أمام عقوبات دولية وعزلة خانقة على الحكومة، ويحدّ من دور الاتحاد الإفريقي، والذي يرفضانه بشده تحت زعم الانحياز للحكومة السودانية، فإن المعضلة تبدو أكبر أمام الأخيرة.
جاء رد الفعل الرسمي الأول والأقوى أيضا على لسان الرئيس عمر البشير، حيث أقسم على رفض تسليم أي مواطن سوداني للمحكمة الجنائية، جنبا إلى جنب تجميد إجراءات تطبيق اتفاقيات السلام في الجنوب. ومن وراء الرئيس، عدد من المسؤولين أشاروا إلى انتهاك القرار سيادة البلاد، وأنه يشجع المتمرّدين على رفض الحوار والحلول السلمية، وأن تفضيلهم هو لمحاكمة داخلية وفق القانون السوداني ولا شيء آخر.
ومع ذلك، يمكن القول أن الموقف الأخير للحكومة السودانية لم يتبلور بعد. ففي داخلها، كما في بعض تيارات وأحزاب المعارضة، من يرى الأمر غير ذلك، ويدعو إلى الالتزام بما جاء في القرار استنادا إلى ثلاث عوامل أساسية. أولها، أن القرار دولي وتدعمه قوى كبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة التي ترفض من حيث المبدأ المحكمة الجنائية الدولية، ولكنها تدعمها في حالة السودان، ومن ثم فإن الفكاك منه ومن تبعاته غير ميسر.
وثانيا، أن القرار الدولي استند إلى الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة، كما وصف ما يجري في دارفور باعتباره أكبر تهديد للأمن والسّلم الدوليين، وبما يعني أن عدم الالتزام الطوعي سيتبعه حتما عقوبات دولية جماعية لا يستطيع السودان بحالته الراهنة تحملها.
وثالثا، أن الربط بين الاعتراض على القرار وبين تجميد اتفاقيات السلام، من شأنه أن يُصعّـد الضغوط الدولية والإقليمية، وأن يدفع بالأطراف الجنوبية المتطلعة إلى السلام إلى التحوّل لخانة الخصوم، في وقت يتطلّـب زيادة عدد المؤيدين والمساندين للسودان.
اعتباران آخران
ويضيف البعض، لاسيما من خارج الحكم، عاملين آخرين. أولهما، أن التضحية بعدد من المسؤولين الفدراليين أو المحليين من إقليم دارفور وقبول استجوابهم والتحقيق معهم دوليا، هو أهون كثيرا من أن تقع البلاد بكاملها تحت طائلة العقوبات الدولية، التي تذهب بالأخضر واليابس كما جرى مع ليبيا والعراق.
وثانيا، وحسب تحليل الصادق المهدي، زعيم حزب الأمة، أن القضاء في السودان، مقارنة بالقضاء القائم في المحكمة الدولية هو أقل انضباطا بكثير، وفاقد لشروط العدالة التي تبدو أكثر توفرا في المحكمة الدولية، حيث القُـضاة أكفّـاء ومشهود لهم بالعالمية وحسن تطبيق القانون والبعد عن الأهواء والاعتبارات السياسية الجارية.
الأسباب الخمسة المذكورة والمستندة إلى نوع من العقلانية والأخذ في الاعتبار طبيعة الحالة التي يمر بها العالم عامة والمنطقة العربية خاصة، تميل إلى التعاون الطوعي مع التزامات القرار 1593، باعتباره أهون الشرور.
هذا الميل إلى تفضيل التعاون الطوعي، يحتاج بدوره إلى نوع من التمهيد للرأي العام، ولكن اللغة المستخدمة رسميا هي عكس ذلك تماما، على الأقل حتى الآن، ويدعمها نوع من التعبئة الحزبية والشعبية، بما يؤشر إلى أن الأولوية الآن هي للرفض، انتظارا لما سيكون عليه موقف المدعى الدولي العام الذي أعطى الأولوية لجمع البيانات والمعلومات الموثقة، قبل التقدم بقائمة الاستجواب للحكومة السودانية.
وتلك الفسحة من الوقت التي قد تستمر ثلاثة أشهر على الأقل، كفيلة بتغيير عدد من المُـعطيات الداخلية والخارجية، وعندها قد يصبح خيار السودان العملي ليس رفضا مطلقا أو تعاونا آليا وتلقائيا، بقدر ما هو نوع من التعاون الجزئي المرتبط بكل حالة على حدة.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.