الشرق الأوسط: عولمة و”غموض إيجابي”؟
لا أحد يعرف أي مصير ينتظر الشرق الاوسط: لا الأنظمة والحكومات، ولا المواطنين (أو بالأحرى الرعايا)، ولا المجتمعات المدنية.
هناك خريطة طريق أمريكية، لكنها لا تقود سوى إلى ترتيبات الحرب: أفغانستان والعراق أولاً، ثم حرب إعادة تفكيك وتركيب أنظمة المنطقة ثانياً. أما خريطة طريق ترتيبات السلام، فيبدو انها يجب أن تنتظر جلاء غبار المعارك العسكرية.
هناك خريطة طريق أمريكية، لكنها لا تقود سوى إلى ترتيبات الحرب: أفغانستان والعراق أولاً، ثم حرب إعادة تفكيك وتركيب أنظمة المنطقة ثانياً. أما خريطة طريق ترتيبات السلام، فيبدو انها يجب أن تنتظر جلاء غبار المعارك العسكرية.
هناك أيضا أفكار أوروبية حول الشرق الأوسط. لكن، وبرغم أنها تركّز على ترتيبات السلام أكثر من إهتمامها بالحرب، الا أنه خريطة بلا طريق: فلا الأوروبيون قادرون على فرض وجهة نظرهم على الأمريكيين حول ما يجب فعله في العراق وإيران وباقي أنحاء المنطقة، ولا هم على الأرجح يعرفون ماذا يريدون بالتحديد، عدا الاعتراض على ما يريده “الأخ الأكبر” الأمريكي.
ثم هناك مشكلة كبرى أخرى في الأفكار الأوروبية الشرق أوسطية: إنها أوروبية، وهذا كاف وحده ليستثير لدى شعوب المنطقة كل أنواع الهواجس وبعض أجناس الكوابيس.
فالذاكرة العربية حول الصورة الكريهة للاستعمار، ثم للأمبريالية الأوروبية، لا تزال طرية العود، والحداثة في شكلها الأوروبي طوّرت “الانا” أساساً، استناداً إلى الضد أو “الآخر” العربي والإسلامي، وهذا كان واضحاً في ذلك الكم الهائل من الاستشراق والنظريات الاستشراقية الأوروبية التي صوّرت شعوب المنطقة على أنها كافرة وبربرية في القرون الأوروبية الوسطى، ثم على أنها منتمية إلى أجناس عنصرية وحضارية دنيا في القرون الحديثة.
لكل هذه الأسباب، ليست أوروبا في موقع يساعدها على التحّول إلى بوصلة إيجابية قد تدل شعوب المنطقة على الطريق إلى الميناء السعيد، وهكذا يبدو الشرق الأوسط، وكأنه يسير خبط عشواء نحو هدف يجهله الجميع.
وهكذا أيضا، تبدو الأسئلة القلقة والحائرة والواجفة هي سيدة الموقف الآن في الشرق الأوسط منها على سبيل المثال: هل ستلجأ الولايات المتحدة حقاً إلى زرع شعاع ديمقراطي ينطلق من بغداد وبيروت والقاهرة (كما قالت) ليتمدّد لاحقا إلى كل أرجاء المنطقة، أم تعاود نشر براويز (بالاذن من الرئيس برويز مشرف) عسكرية وديكتاتورية جديدة تعيد إنتاج النبيذ القديم في قوارير جديدة؟
وعلى سبيل المثال أيضا: هل ستبقى الكيانات الجغرافية – السياسية الراهنة أم تفجّر إلى كيانات أصغر، (نموذج سايكس بيكو)، أم يوحّد ما سيتم تصغيره منها في كيانات أكبر (نموذج الامارات العربية)؟
وعلى سبيل المثال أيضا وأيضا: هل سنشهد بعد الحرب العراقية ولادة نظام أمني إقليمي جديد، يولد في رحمه الشرق ألاوسط الاقتصادي البيريزي الشهير، أم يستعاض عن ذلك بالحكم الأمريكي أو الأطلسي المباشر للمنطقة؟
المنطقة والعولمة
كل من يقول إنه يعرف الجواب على أي من هذه الاسئلة، يكون كمَـن يقفز إلى البحر للاستمتاع بالسباحة في خِـضمّ عاصفة عاتية الموج. فحين يكون التاريخ قيد الصنع، لا يستطيع المؤرخون والمتنبؤن سوى الاستعانة بالماضي لفهم المستقبل، وهذه مهنة عادة ما تمنى بالفشل.
لكن في الوسع على الاقل، التكهن بشيء يبدو مؤكدا من الآن: الشرق الاوسط سيدمج بشكل كامل وتام في منظومات العولمة كلها، خاصة منها الاقتصادية.
الكاتب الأمريكي (من أصل هندي) فريد زكريا كان أول من ألمح إلى هذا الخيار خلال بحثه عن أفضل الوسائل لتجفيف مستنقعات الإرهاب. لكنه حتما لن يكون الأخير. لماذا؟ لسببين:
الأول، أن النفط أصلاً متعولم منذ أمد طويل. لكن ثمة حاجة الآن إلى عولمة منطقته (أي المنطقة العربية). وبكلمات أوضح: بعد أحداث 11 سبتمبر، لم يعد بالإمكان عولمة اقتصادات النفط وترك السياسة والثقافة خارجها، أمن النظام العالمي بات يفرض ذلك.
والثاني، أن مثل هذه العولمة ستكون مستحيلة بدون إنتقال المنطقة بالتدريج من الاقتصادات الاقطاعية والريعية، إلى الاقتصاد الرأسمالي.
إذا ما كان التغيير الاقتصادي محتماً، ألن يعني ذلك تغييراً سياسياً محتماً أيضا؟ أكيد.
فالسوق الرأسمالية تتطلب سوقاً سياسياً. وكلا الاثنين يتطلبان بروز نخب حاكمة جديدة تحمل برامج سياسية جديدة، وهذا بالتحديد ما يجعل الخوف والتوجس يدبان في أوصال النخب العربية الحاكمة الآن، وهي على حق تماما في خوفها. فالامور بعد 11 سبتمبر لن تعود الى ما قبلها أبدا. الأعمال لن تستأنف بشكل طبيعي كالمعتاد، بغض النظر عما ستؤول إليه التطورات في العراق.
ولعل أبرز دليل على ذلك، هو إستمرار ظهور بقع سوداء داكنة في ثوب التحالف السعودي – الأمريكي التاريخي الشهير والأهم في المنطقة، برغم كل الجهود الضخمة التي بذلت طيلة الأعوام الثلاثة الماضية لغسل الثوب مع القلوب، من زيارات الأمير (الملك الحالي) عبد الله، وباقي القادة السعوديين إلى الولايات المتحدة، إلى مبادرة السلام السعودية مع إسرائيل التي تحوّلت لاحقا الى مبادرة سلام عربية شاملة في قمة بيروت العربية عام 2003.
ونحن هنا نشير بالطبع إلى التقرير الخطير الذي نشرته قبل نحو سنتين مؤسسة أبحاث تموِّلها الإدارة الأمريكية، تصف المملكة السعودية بأنها “عدو للولايات المتحدة”، وتوصي بالاستيلاء على حقول النفط والأرصدة المالية السعودية، “إذا لم يفعل هذا البلد ما هو أكثر لمقارعة الإرهاب”.
وبرغم أن وزارة الدفاع الأمريكية تبرأت من هذا التقرير، إلا أن الأجواء التي عكسها دلّت على طبيعة أنماط التفكير “الثورية” أو الانقلابية السائدة في واشنطن، وهذا تطور سيدفع بلا شك الانظمة العربية، كل الأنظمة العربية، إلى أن تتحسس رؤوسها لما قد يخبئه المستقبل القريب.
الحكومات والشعوب
هل هذا القلق والتوجس الذي تعيشه الحكومات العربية، يجب أن يسحب نفسه بالضرورة على الشعوب العربية؟ ليس بالضرورة، لا بل يبدو أن هذه الشعوب العربية لا تخشى شيئا لسبب بسيط: إنها تعيش الآن أصلا في قعر مستنقع الديكتاتوريات والاستبداد والتهميش الاقتصادي والاجتماعي، وأي حركة في المستنقع، مهما كان شكلها أو لونها، “قد يكون فيها بركة”، كما يقول المثل العربي.
الشعاران اللذان ترفعهما هذه الشعوب الآن هو: “دعوا الموتى يدفنون أمواتهم”، و”فلندع الأنظمة الاستبدادية تقلق ونبدأ نحن الحياة. فالآتي، مهما كان شكله، لا يمكن أن يكون إلا أفضل من الحالي”. وربما هذا بالتحديد ما يجعل الغموض الحالي الذي يلف مصير الشرق الأوسط برمته، “غموضاً إيجابياً” إلى حد بعيد.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.