الشرق الأوسط يقترب من “البوابة النووية المدنية”
يتواصل في فيينا الاجتماع غير العادي لمجلس حكام الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول الملف النووي الإيراني الذي يطالب الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن بإحالته إلى المجلس الدولي.
وبينما يتابع الجميع تطورات نهاية أزمة برنامج اليورانيوم الإيرانى، يوشك الشرق الأوسط، بالتوازى مع ذلك، على دخول العصر النووى.
من المرجح الآن أن إقليم الشرق الأوسط في طريقه إلى “تعددية نووية مدنية” سوف تغير بقية خريطته، بإضافة ملمح جديد لها في المرحلة القادمة.
وحتى لو تم وقف تقدم إيران فى اتجاه القنبلة المفترضة، ستكون قد امتلكت بالفعل، وباعتراف دولى، أول برنامج نووى إقليمى ضخم لإنتاج الطاقة، وهو ما سيدفع فى اتجاه نوع آخر من الانتشار النووى، لكن من باب مختلف هو القدرات النووية، التى ستفرز مع الوقت تأثيرات إستراتيجية، لاتقل أهمية فى كثير من جوانبها عن تأثيرات الأسلحة النووية.
الانتشار الآخر
إن مسار انتشار الأسلحة النووية فى الشرق الأوسط قد توقف تقريباً عند حدود إسرائيل، أو على الأقل تم تعليقه إلى حين تصل مشكلة إيران النووية إلى نهاية محددة لها.
فقد انتهى البرنامج النووى العسكرى العراقى عملياً فى منتصف التسعينيات، ووضح أن ما قيل عن إعادة تنشيطه بعد عام 1998 كان “هراء”، كما قامت ليبيا بالتخلى من جانب واحد، كما قيل، عن قدراتها النووية التى كانت تشكل “برنامجاً عسكرياً” سرياً يعتمد على تخصيب اليورانيوم، وقامت إيران بتعليق الموقف النووى لها فى انتظار ما يمكن أن تسفر عنه مفاوضات الصفقة الروسية، فى ظل نوايا توحى بأنها لا ترغب فى المخاطرة.
لكن المسيرة النووية فى الإقليم لن تتوقف عن هذا الحد، فثمة مؤشرات معلنة بأن هناك انطلاقة واسعة فى اتجاه امتلاك عدة دول فى المنطقة برامج نووية مدنية قوية سوف تحدث تحولاً حقيقياً فى شكل الإقليم، سواء فيما يتعلق بإعادة تعريف القوى المحورية فيه، أو هياكل اقتصادياتها، أو تطورها التكنولوجى، وربما علاقاتها البينية.
والأهم هو أن تلك التطورات سوف تكون لها آثار إستراتيجية هامة قد تفتح الباب للتفكير بصورة مختلفة فى كيفية التعامل مع القضايا النووية المعلقة، ليس عبر ما تتضمنه تلك التطورات من احتمالات عسكرية، وإنما ما تضغط فى اتجاهه بشأن إعادة ترتيب الأوضاع النووية بين الدول على نمو يضمن استقراراً إقليمياً من نوع ما.
إن الأطراف المرشحة فى المنطقة خلال المرحلة القادمة لتكون “اللاعبين الرئيسيين” فى مرحلة “الانتشار المدنى” الجديدة هى إيران بالطبع، ثم تركيا، ثم ليبيا، ولدى إسرائيل مشروع مدنى أيضاً، وقد يجتذب ذلك المناخ أطرافاً جديدة، فهى تشكل ساحة لن تغيب عنها مصر على الأرجح، خاصة وأن لديها قواعد قوية لبرنامج نووى مدنى فى الداخل، و”صورة” دولية لن تؤدى إلى عراقيل كبيرة فى اتجاه “استئناف” قرارها المتعلق بتأجيل امتلاك “مفاعلات القوى النووى” التى ستنتشر فى المنطقة على نطاق واسع خلال السنوات الخمس القادمة، وبقدرات تتجاوز 1000 ميجاوات فى معظم الحالات.
النادى النووي المدنى
لقد أصبح من المؤكد أن إيران سوف تحتفظ ببرنامجها النووى المدنى الذى يعتمد على مفاعل بوشهر الأول، وهو على وشك الانتهاء، ثم مفاعل بوشهر الثانى الذى سيتم التحرك لإكماله تلقائياً بمجرد “تسخين” المفاعل الأول، فما يتم التفاوض حوله حالياً هو تخصيب اليورانيوم وليس المفاعلات المدنية.
ولقد كان من الواضح دائما منذ بداية الأزمة الحالية أن الاحتفاظ ببرنامج بوشهر النووى يمثل الحد الأدنى الذى بدا أن طهران كانت مستعدة للذهاب لمجلس الأمن إذا تم المساس به، على الأقل بفعل اعتبارات “الشرعية الداخلية” لفئات حساسة من المحافظين، وهو ماكانت الإدارة الأمريكية تدركه، وقد صدرت بالفعل تصريحات رسمية محددة بشأنه.
وعلى الرغم من أنه لا توجد علاقة معلنة بين هذا التطور، وإبداء تركيا نواياها فى امتلاك برنامج نووى مدنى، إلا أنه لا يمكن نفى تلك العلاقة فقد كان لدى تركيا دائماً مشروعاً نووياً سلمياً طموحا لم يتم التقدم فى اتجاه تنفيذه فى ظل حسابات كثيرة، وما يحدث حالياً هو أن تركيا قد قرأت المستقبل جيداً، وربما لم تر قياداتها داعيا للتأجيل بأكثر مما جرى بالفعل.
ويقع المشروع النووى المدنى الثالث فى “ليبيا”، التى تبدى نوعاً من التذمر من أنها تخلت عن برنامجها النووى العسكرى فى ظل تفاهم مع الولايات المتحدة وبريطانيا، ولم تحصل على شئ بعد ذلك. وفي الآونة الأخيرة، ظهرت “فرنسا” فى الصورة لتبدأ تفاهمات حول إقامة برنامج نووى سلمى فى ليبيا خلال الفترة القادمة.
إسرائيل أيضا ليست بعيدة عن الوضع الجديد، فقد أوضحت تقارير مختلفة أنها بدأت تفكر بجدية هى الأخرى فى تنفيذ مشروع مفاعلها السلمى المؤجل فى النقب، فى ظل عدم امتلاكها قدرات نووية مدنية تذكر، وقد لايمر وقت وقت طويل حتى تدخل أطراف أخرى إلى “النادى النووى المدنى” فى الشرق الأوسط، كالسعودية التى لن تحتمل أيضا الإبتعاد عن تلك الموجة الجديدة.
وقد شهدت مصر نقاشا فى الفترة الأخيرة حول تأثير مايحدث على أمنها، وطرح أحد كبار الكتاب فى صحيفة الأهرام سؤالا عن السبب الذى لايجعل مصر تفكر فى امتلاك سلاح نووى، لكن بعيدا عن تلك المسألة المحسومة فى السياسة المصرية، توجد مؤشرات جادة بأن مصر قد تستأنف برنامج مفاعلات القوى النووية، فالتطورات الاقتصادية- التكنولوجية لا تقل أهمية عن التطورات العسكرية، خاصة وأنها فى حاجة إليه لإمداد الساحل الشمالى بالمياه، وامتلاك بدائل الطاقة لاسيما وأنها ليست دولة بترولية، كما أنها تحتاج إلى الحفاظ على بنيتها النووية التى تتضمن كوادر علمية رفيعة، إضافة إلى حساسيتها بشأن دورها الإقليمى.
التأثيرات الإستراتيجية
لقد كان هناك دائما تيار فى تحليلات الانتشار النووى، يرى أن انتشار القدرات النووية Nuclear Capabilities، لا يقل أهمية عن انتشار الأسلحة النووية، بل أنه ربما يمثل الظاهرة الأهم فى مسار عملية الانتشار.
فبينما لم يتجاوز عدد الدول النووية فى النهاية 8 دول، وصل عدد الدول التى تمتلك برامج نووية مدنية كبيرة إلى 60 دولة، ووصل عدد المفاعلات النووية عموما إلى ما يزيد عن 485 مفاعل نووى، إضافة إلى 102 مفاعل تقريباً تحت الإنشاء، بينها 7 مفاعلات تعمل بالفعل فى الشرق الأوسط، في كل من إسرائيل ومصر والجزائر وليبيا وإيران، لكنها كلها – باستثناء دايمونا الذى وظف عسكريا – مفاعلات بحثية لا تتجاوز طاقة أكبرها 22 ميجاوات.
وعلى الرغم من أن ذلك التيار يتعامل مع مشكلة انتشار القدرات النووية من زاوية احتمالات اتجاه الدول التى تمتلكها، خاصة فى ظل وجود التكنولوجيات مزدوجة الاستخدام، إلى تحويل برامجها النووية فى اتجاهات عسكرية، ظل هناك اتجاه هام يؤكد أن انتشار القدرات النووية فى حد ذاتها قد أدى إلى بروز أخطار نووية كتلك الناجمة عن محطات الطاقة سيئة التصميم، أو سيئة الإدارة، ومشاكل تصريف النفايات النووية، وأثار كذلك مشكلات كبرى تتصل باحتمالات الحوادث النووية أو التلوث النووى، كما ظهرت مشاكل تهريب المواد النووية أو الاستيلاء عليها والاتجار فيها، إضافة إلى انعكاسات عدم الاستقرار الداخلى على المساس بالمنشآت النووية.
إن معظم تلك المشكلات مثارة أصلا فى المنطقة، حتى فيما يتعلق بالمفاعلات الصغيرة القائمة، فكثيرا ماطرحت قضايا خاصة بتأمين المفاعلات فى حالة الجزائر أو التسربات الإشعاعية فى حالة إسرائيل، وقد أعربت دول الخليج العربية بشكل مبكر عن قلقها من مفاعل بوشهر الإيرانى، فيما يتعلق باحتمالات الحوادث النووية، حتى لو لم تكن له علاقة بالتسلح النووى، وحسب تعبير أمين عام مجلس التعاون الخليجى فى ديسمبر الماضى، فإن المفاعل “أقرب إلى دول الخليج منه إلى طهران ذاتها”، وسوف تتصاعد مثل تلك المشكلات بصورة حادة إذا ما انتشرت مفاعلات القوى فى المنطقة.
بوابة نووية في الأفق
لكن منطقة الشرق الأوسط قد تشهد ماهو أهم من تلك المخاطر، منها:
أولا، أنه قد تسود موجة من سباق القدرات النووية فى اتجاه امتلاك معدات ومواد أكثر تطورا بين الدول، خاصة وأن الجوانب القانونية لتلك الأمور، كما تؤكد حالة إيران، غير محسومة، على نحو يقلص الفاصل الزمنى والعملى بين امتلاك القدرة وامتلاك الأسلحة بحيث قد تجد دول معينة نفسها “دول عتبة نووية” دون أن تخطط لذلك، أو قد يعتبرها الآخرون كذلك، مما قد يؤدى إلى توترات حقيقية.
ثانيا، هناك مشكلة تتصل بطبيعة المرافق النووية كهدف target حيوى، أو بإمكانية استخدام “إفرازات” القدرات النووية عسكريا، فقد تطرح احتمالات جادة للاعتداء على المفاعلات النووية فى حالة الحرب، أو التوترات الحادة، وقد حدث ذلك فعليا مرتين من جانب إسرائيل ضد العراق ومن جانب العراق ضد إيران، وتطرح أيضا احتمالات إلقاء النفايات النووية المشعة لأغراض عدائية فى حالات التوتر المسلح.
لكن ربما يكون ثمة جانبا إيجابيا لذلك الوضع (المحتمل)، فما تثيره مشكلة انتشار القدرات النووية من “مخاطر” قد يدفع الدول المالكة لها، وفق محددات معينة، نحو التفاهم بهدف إيجاد ترتيبات أمنية تعاونية تتصل بالحد من تلك المخاطر، على غرار ما حدث بين الهند وباكستان من إجراءات ثقة تتعلق بعدم استهداف المفاعلات النووية فى حالات الصراع، أو التفاهم بين الدول على أطر معينة للتعامل مع النفايات النووية أو الكوارث النووية، وغيرها.
على أى الأحوال، فإنه سواء تعلق الأمر بإفراز توترات إضافية، أو تشكيل دوافع تعاونية، فإن إقليم الشرق الأوسط يسير على الأرجح فى طريقه إلى تجاوز “بوابة نووية” هامة سوف تغير يقينا خريطته، بإضافة ملمح جديد لها فى المرحلة القادمة، وسوف تكون لهذا الوضع نتائج جادة وأخرى غير متوقعة.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.