الشرق الأوسط ينتظر “الرصاصة الأولى”
"خطوط المجابهة رُسمت في الشرق الأوسط وانقضى الأمر، بقي إطلاق الرصاصة الأولى لتدشين مرحلة جديدة وساخنة من الصراع".
هكذا يبدو الوضع الشرق أوسطي هذه الأيام: مُـعسكران متقابلان مدجّـجان بكل أنواع الأسلحة العسكرية والإيديولوجية والاقتصادية، يقفان وجهاً لوجه فيما يُـمكن أن يكون، إما المزيد من “الحروب بالواسطة” (proxy wars) أو حتى الصّـدامات المباشرة.
في الضفة الأولى، تقف أمريكا وإسرائيل، وعلى مسافة غير بعيدة منهما، السعودية ومصر والأردن (وإن مع تبايُـن بين مواقف هذه الدول الثلاث، خاصة إزاء سوريا).
وفي الضفة الثانية، تنتصب إيران وسوريا، وعلى مسافة شديدة القرب منهما حركات شعبية عربية مسلحة أبرزها “حزب الله” اللبناني وحركتي “حماس” و”الجهاد” الفلسطينيتين.
ماذا يُـريد كلا الطرفين من هذه المُـجابهة الجديدة، وما فُـرص كل منهما لتحقيق النصر أو على الأقل الفوز بالنقاط؟
سنأتي إلى هذين السؤالين بعد قليل. قبل ذلك، وقفة أمام الجهود الكثيفة التي تُـبذل حالياً لإعداد المسرح والديكور والسيناريوهات الخاصة بالجولات الجديدة.
جولة رايس
أول ما يقفز إلى الواجهة هنا، هي الجولة التي قامت بها مؤخراً وزيرة الخارجية الأمريكية كونوليزا رايس في المنطقة، والتي جاءت بمثابة مُـفاجأة للجميع وفق كل المقاييس.
فالجولة أولاً، تقررت بطلب شخصي من الرئيس الفرنسي شيراك من الرئيس الأمريكي بوش للإيحاء بأن الغرب يسعى للسلام، وهو يخوض الحرب ضد المحور الإيراني – السوري.
ثانياً، كان يُـفترض أن تتضمّـن خطة جديدة لبعث خارطة الطريق في فلسطين من رقادها بإشراف اللجنة الرباعية الدولية.
وأخيراً، كان يُـنتظر أن تبـرّد أجواء المنطقة المُـلتهبة، مما قد يسمح بشيء من الحلول العقلانية، وإن مؤقتة، لمشاكل الشرق الأوسط المعّـدة وحروبه الأكثر تعقيداً.
أيُّ شيء من هذا لم يتحقق، فالعكس هو الذي حدث. في كل مكان توجّهت إليه كوندي (كما يطلق عليها الرئيس بوش)، كانت اليد العليا لروح المجابهة لا لمنطق التسويات.
ففي السعودية دعت وزيرة الخارجية الأمريكية إلى رسم دقيق ونهائي لخطوط الجبهات بين “قوى الاعتدال والتطرف” في المنطقة، وفي مصر، وبدلاً من التركيز على كيفية إعادة شيء من الاستقرار إلى البلدان العربية الملتهبة، دشّـنت زيارتها بلقاء مدير المخابرات المصري لبحث كيفية تأمين الاستقرار لإسرائيل. كيف؟ عبر إرضائها بإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الأسير في غزة.
وحين حطت رايس الرّحال في رام الله، كانت أهداف جولتها باتت فاقعة الوضوح، إذ يقال (والأرجح أن هذا الذي يُـقال صحيح)، أنها نقلت إلى الرئيس محمود عباس تهديداً من بوش بأن أي تسوية أو حل وسط يتوصل إليهما مع حركة “حماس” لا يتضمن اعتراف هذه الأخيرة بإسرائيل ووقف المقاومة، سيعني سحب أوراق الاعتماد الأمريكية منه، وكما قيل أيضا (والأرجح أن هذا الذي قيل مؤكّـد) أنها شجّـعت عباس على التحرّك لحلّ حكومة حماس والدعوة إلى انتخابات جديدة تُـجرى في أجل غير مُـسمى.
وكما في السعودية ومصر والضفة، كذلك في لبنان، حيث تواترت معلومات بأن رايس دعت قوى 14 مارس إلى خَـوض المُـجابهة مع قوى 8 مارس حتى الثّـمَـالة، واعدة إياها، ليس فقط بفرض المحكمة الدولية بالقوة، بل أيضاً ببذل ضغوط قوية على سوريا لمنعها من دعم حُـلفائها المطالبين بتعديل الحكومة اللبنانية.
ماذا تعني كل هذه التطورات؟
شيء واحد: رايس حطّـت الرحال في المنطقة كصَـقر جارح لا كحمامة سلام، كمحرّضة على الحروب، لا كداعية لتسويات، كمُـشعلة للنار لا كفريق إطفاء، وهذه حصيلة لن تثير فقط القشعريرة في بدن شيراك وبقية القادة الأوروبيين، الذين كانوا يأملون بإضفاء شيء من العقلانية والاتزان على صراعات الشرق الأوسط، بل أيضاً خشية بقية دول العالم مما تُـعده الولايات المتحدة للشرق الأوسط من صراعات جديدة، وهو في الواقع تخوّف في محلّـه تماماً.
فحين يَـعتبر جورج بوش أن المأساة العراقية، والتي شملت حتى الآن سقوط أكثر من 120 ألف قتيل عراقي و2700 جندي أمريكي، “مجرد فاصلة” في كُـتب التاريخ المستقبلية، لا يعود مستبعداً أن تواصل الإدارة الأمريكية الحالية تنفيذ المزيد من أغرب السيناريوهات وأوحشها في كل أنحاء الشرق الأوسط، وجولة الحرب “الكوندية” الراهنة، تبدو جزءاً حتمياً من هذه السيناريوهات الحتمية.
التحّرك المضاد
هذا ما يجري إعداده على المحور الأمريكي. ماذا الآن عن المحور الإيراني؟ هنا أيضاً يبدو التحرّك كثيفاً للغاية وعلى جبهات عدة. ففي لبنان، حيث انتهت الحرب بالواسطة في 12 يوليو الماضي بين إيران وامريكا، عبر “حزب الله ” وإسرائيل بـ “التعادل” وعدم الحسم، يستعد حلفاء دمشق وطهران لتفجير الأمر الواقع الحكومي الراهن الذي تُـسيطر عليه قوى 14 مارس الصديقة لواشنطن.
كيف؟ عبر العمل على إسقاط الحكومة من خلال التحركات الشعبية، تحت شعار المطالبة بحكومة وحدة وطنية، وربما أيضاً من خلال سحب الوزراء الشيعة، مما سيخلق فراغاً حتمياً خطيراً في”الديمقراطية التوافقية” اللبنانية القائمة على المحاصصة الطائفية، ولا يُـستبعد أن يَـقدم أيضاً نواب حزب الله وأمل والتيار العوني ( نحو 39 نائباً) على الاستقالة من مجلس النواب، بهدف خلق فراغ دستوري يؤدّي إلى انتخابات جديدة، وبالتالي، ربما إلى موازين قوى سياسية جديدة.
الخطر في هذا التوّجه، أنه يجري في ظل تطوّرين خطيرين اثنين، أحدهما محلّـي والآخر إقليمي.
فالتطور المحلي يتمثّـل في تفاقُـم الاحتقان المذهبي – الطائفي في بلاد الأرز، مما يُـهدد في كل لحظة بتحويل الصّـراع السياسي إلى حرب طائفية، أما التطور الإقليمي، فيرتبط مباشرة بالعلاقات اللبنانية – السورية.
ساحة وساحات
لبنان إذن، سيكون على الأرجح الساحة الرئيسية للمجابهات الإقليمية – الدولية الجديدة، لكنه لن يكون المسرح الوحيد.
فثمة أحاديث كثيرة هذه الأيام عن أن المحور السوري – الإيراني يهّب وما يزال أسلحة متطوّرة إلى حماس والجهاد في غزة، بينها (على ما يشاع) الصواريخ المضادة للدبابات التي استخدمها حزب الله بنجاح ضد دبابات الميركافا الإسرائيلية.
وثمة أحاديث أخرى أكثر تواتراً، عن أن لهيب المعارك سينتقل هذه المرة إلى سوريا. كان تحذير الرئيس المصري حسني مبارك من “دفع سوريا إلى الانهيار”، عيّـنة أولى على هذه الأحاديث وتلميح الصحف الإسرائيلية إلى وجود رغبة مشتركة بين واشنطن وبين المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لتوجيه “ضربة ماحقة” لسوريا، كان عيّـنة ثانية. وأخيراً، تحذير دمشق نفسها من أن “الأجواء الراهنة في المنطقة تشبه المناخات التي سبقت حرب أكتوبر عام 1973” وتلويحها بمقاومة سورية على النمط اللبناني، كان عيّـنة ثالثة.
لمن اليد العليا؟
نعود الآن إلى سؤالينا الأوليين: ماذا يريد كلا الطرفين من هذه المجابهة الجديدة، وما فُـرص كل منهما لتحقيق النصر أو على الأقل الفوز بالنقاط؟
ما تريده طهران ودمشق واضح: اعتراف واشنطن بدورهما الإقليمي وتقديم ضمانات لهما بعدم العمل على تغيير نظاميهما. وما تريده واشنطن أكثر وضوحاً: رفض هذين الطلبين، لأنهما يتناقضان مباشرة مع مشروعها الطموح لفرض السيطرة الكاملة والمباشرة على كل نفط الشرق الأوسط، وأيضاً لدمج “الشرق الأوسط الكبير” في منظومتها الإستراتيجية العالمية العامة في قارة أوراسيا.
ولأن أهداف الطرفين على هذا النحو من التناقض والتباعد، خاصة حين نضيف إليها البُـعد النووي العسكري الإيراني، تبدو المجابهة بينهما خاضعة إلى حدّ بعيد لقانون لُـعبة المحصلة صفر، حيث الخسارة الصافية لطرف، يجب أن تكون ربحاً صافياً للطرف الآخر، وهذا سيبقى صحيحاً، حتى لو توصّـل الجانبان لاحقاً إلى اتفاقات ما، لأن هذه الأخيرة ستبقى مؤقّـتة وهشّـة (كما حدث قبل ذلك في “إيران غيت” وعشية الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق)، ولن تتمكّـن من حل جوهر النزاع.
ويبقى السؤال: من ستكون له اليد العليا في الجولات الجديدة المتوقعة؟ إذا ما بقيت المجابهات في إطار حروب الواسطة، سيكون في إمكان المعسكرين معاً تبادل النصر والهزائم: مرة لك ومرّة عليك. لكن، في حال توّسع نطاق النزاع، يمكن حينها أن تفرض صيغة “الغالب والمغلوب” نفسها، ولأنه من المُـستبعد أن تقدم أمريكا وإسرائيل على ضرب إيران في المستقبل القريب جداً على الأقل، تبرز سوريا، ليس فقط بصفتها هدفاً مُـغرياً، بل أيضاً الجائزة الأثمن التي تُـمكّـن من يفوز بها من حسم الصّـراع لصالحه، على الأقل في المشرق العربي. فخطوط المجابهة رسمت، يبقى انتظار سماع صوت الرصاصة الأولى.
سعد محيو – بيروت
المعنى الظاهر، أن جولة رايس تدخل في سياق علاقات عامة دبلوماسية، هدفها مُـحدَّد في تنفيذ أولويات أمريكية، تتقاطع جزئيا بالقبول مع تطلُّـعات عربية وفلسطينية، وبعضها الآخر، وهو الأكثر والأصعب، يتقاطع مع الرفض العربي، ليس لأن العرب أقوياء، ولكن لأنهم يَـرون في مطالب أمريكا منهم هلاكا لهم وضياعا لمصالحهم.
وكما ستحاول أمريكا الضغط، سيُـحاول عرب الاعتدال المناورة والشرح وبيان مَـكامن الإخفاق الأمريكي، لعلّ وعسى تتغيّـر الإدراكات الأمريكية أو بعضها، وهو ما يدخل في باب الأمنيات غير القابلة للتحقّـق، على الأقل فيما بقي من عَـهد إدارة الرئيس بوش.
من تقرير د. حسن أبو طالب: جولة رايس.. هل ثمّـة فُـرصَة للسّـلام؟ نُـشر يوم 3 أكتوبر 2006.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.