“الصقر الأسود” يتّـجه إلى الصومال
استمرت القوات التابعة للمجلس الأعلى للمحاكم الإسلامية في الصومال تقدمها بعد أن تمكنت يوم 14 يونيو من الإستيلاء على بلدة جوهر الاستراتيجية وتعزيز سيطرتها على مزيد من المناطق في جنوب البلاد.
لكن ميليشيا المحاكم الإسلامية التي أحكمت السيطرة على العاصمة مقديشو الأسبوع الماضي تثير مخاوف وكوابيس في واشنطن.
على الرغم من أن الوجود الأمريكي المباشر في الصومال عام 1993 لم يستغرق سوى أقل من عام، كانت تلك الفترة كافية لتشكيل عقدة صغيرة تمّـت قراءة دروسها جيدا في مراكز القرار بواشنطن.
فلم يتوانى ما عُـرف مجازا باسم “الصقر الأسود”، لحظة واحدة عن الاهتمام بتلك الدولة المنهارة، التي يمكن أن تكون شديدة الخطورة من وجهة نظر صانعي السياسة في واشنطن، لكنه كان يعمل طوال الوقت وفق أساليب اقتراب غير مباشرة، تحقّـق نفس الهدف بتكلفة محدودة وبمخاطرة أقل وبنفس الفعالية، وهو ما يتعرّض لتحدّ هام في الوقت الحالي.
إن تاريخ الصومال يمثّـل نموذجا لتأثيرات العامل الخارجي، ليس فقط على شؤون الحكم، لكن أيضا على خريطة الدولة. فقد كان هناك صومال فرنسي وصومال بريطاني وصومال إيطالي، وصراعات متواصلة مع الجار الأقوى “إثيوبيا”، وتدخّـلات من اتّـجاه إريتريا وكينيا وجيبوتى، قبل أن يدخل الصومال الحقبة الأمريكية في التسعينات.
ولم تكن دوافع كل تلك التدخلات ترتبط بوجود موارد ذات أهمية، فلا توجد معلومات دقيقة حول مخزون من البترول أو اليورانيوم، وإنما هو موقع إستراتيجي تحاول الدول أن تسيطر عليه، حتى لا تسيطر عليه أطراف أخرى على الأقل.
هواجس صومالية
كانت الصومال تمثل بالنسبة للولايات المتحدة، “هواجس مقلقة” شكّـلت سياستها طوال السنوات الممتدة بين عامي 1993 و2006. فقد شهدت أراضيها واحدة من حالات التدخل السريعة، التي عادة ما تأمل الإدارات الأمريكية في أن يتم نسيانها من جانب الرأي العام، مثل كوبا وتشيلى ولبنان وغرينادا وباناما، وهي تلك الحالات التي خلفت صورا سيئة أو طرحت أسئلة متكرّرة لم تصل إلى مداها، بفعل الانسحابات السريعة التي نُـفّـذت في تلك الحالات، والتي كان من المُـمكن أن تشهد أعراضا فيتنامية، فيما لو تم الإصرار على الاستمرار في البقاء، كما يحدث في العراق حاليا.
إن وقائع عام 1993 تُـعتبر حالة نموذجية لما يُـمكن أن يؤدّي إليه التدخّـل المباشر في الدول الأخرى، خاصة تلك التي تنتشر فيها النزاعات القبلية والفصائل المسلحة والاقتصاد السري، بصرف النظر عن أية اعتبارات تتعلّـق بأهداف التدخل أو موازين القوة أو الغطاء الدولي.
فقد كانت كل الحسابات المسبقة تُـشير إلى إمكانية حدوث تجربة تدخل “معقولة”، لكن القوة الأمريكية فقدت هدفها لتجد نفسها في مواجهة تحالف “فارح عيديد”، والفصائل الداخلية، وكانت النتيجة مستنقع صغير أشبه بفيلم سينمائي يقدم مَـشاهد بسيطة مؤثرة سياسيا لسقوط طائرة (الصقر الأسود) ومحاولة إنقاذ ومقتل 18 جنديا و”سحب” جندي على الأرض، لكنها كانت كافية لاتخاذ قرار الخروج من هناك.
كان الهاجس الكبير للسياسة الأمريكية في السنوات التالية للخروج من الصومال، هو أن تلك الدولة يُـمكن أن تتحوّل إلى ملاذ آمن آخر للعناصر الإرهابية التي تستهدفها، استنادا على مؤشرات ما يوجد خلاف حول تقديرها، لذا، تم وضع الصومال تحت المنظار الأمريكي من بعد، ومن قاعدة الاستخبارات في جيبوتى المجاورة، لمراقبة كل ما يحدث فيها، وتقدير تداعياته التالية، مع إتّـباع أساليب غير مباشرة في الاتصال والدعم لعناصر داخلية، دون التفكير فيما يتجاوز ذلك بكثير، وهو ما بدا لفترة سياسة مثالية.
سياسة “الوكلاء”
إن الفكرة السائدة بشأن السياسة الأمريكية في الصومال خلال مرحلة ما بعد عام 1993، هي أنها اعتمدت على سياسة الوكلاء من خلال دعم أمراء الحرب الذين قسموا الدولة والعاصمة على نحو يُـتيح لها الحفاظ على ولائهم لها، ومنع تمَـركُـز أية عناصر “إرهابية” في الصومال، ومقاومة الفصائل الإسلامية، التي يعتقد أنها تتبنى توجهات متطرفة، لكن الواقع أن ذلك كان يمثل “الأداة الرئيسية ” فقط. فهناك أشكال أخرى من التدخل غير المباشر، منها:
• تزويد إثيوبيا بمعدات عسكرية تتيح لها مطاردة و”ضرب” العناصر الإسلامية المتطرفة وقت الحاجة.
• نشر عدد كبير من سُـفن البحرية الأمريكية على الشواطئ المقابلة، للمراقبة والعمل في حالة الضرورة.
• إقامة قاعدة استخبارات متطورة في جيبوتى لمتابعة تحركات (واستهداف) العناصر المتطرفة في المنطقة.
• تنفيذ دوريات استطلاع مستمرة في أجواء الصومال، مع إخضاعها لمراقبة الأقمار الصناعية العسكرية.
• متابعة نشاطات شركات الاستثمار والمصارف، وتحويل الأموال بالتنسيق مع أطراف دولية أخرى.
لكن الواقع هو أن الأداة الأكثر فعالية كانت ممارسة أنشطة استخباراتية مباشرة داخل الصومال، بالتعاون مع أمراء الحرب الذين يمتلك بعضهم مطارات خاصة، من خلال عناصر تقوم بتتبّـع كل معلومة أو شخص يمكن أن يكون مُـنتميا إلى حركات متطرفة، مع تنفيذ بعض العمليات السرية أحيانا داخل الصومال، أو ضربات عسكرية أحيانا ضد الجزر الصومالية كما حدث عام 2003 أو التفتيش المستمر للسفن المتجهة من وإلى الصومال، أو إغلاق بعض الشركات التي تقوم بتحويل أموال إلى الصومال.
ولقد بدا أحيانا أن تلك السياسة مبررة “أمنيا”. فقد عملت عناصر تابعة لأسامة بن لادن في الصومال – انطلاقا من السودان – ضد القوات الأمريكية عام 1993، كما كانت هناك “علاقة صومالية” بتفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998، وكانت هناك توقّـعات بتحوّل الصومال إلى المحطة التالية لعناصر القاعدة بعد أفغانستان، قبل أن تتفجّـر مشكلة العراق، كما اتّـهمت حركة الاتحاد الإسلامي بأن لها علاقات مع تنظيم القاعدة، ويوجد بالفعل اتجاه تكفيري واضح لدى بعض العناصر الصومالية، على الرغم من نفي قادة إتحاد المحاكم الشرعية تبنّـيهم لنموذج طالبان.
من الشباك إلى الباب
لكن في الوقت ذاته، كانت هناك انتقادات حادّة توجَّـه للسياسة الأمريكية من جانب الحكومات الصومالية المؤقتة المتتالية، جاءت في تصريحات رؤساء، مثل عبد القاسم صلاد، وعبد الله يوسف، مضمونها أن “أمريكا تتعامل مع المُـجرمين في الصومال للوصول إلى أهدافها”، وأنه “يتعيّـن على الأمريكيين أن يقولوا لأمراء الحرب، يجب عليكم تأييد الحكومة والتعاون معها، فنحن، (كما قال صلاد حسن)، الحكومة الشرعية، وسنساعد في مكافحة الإرهاب”، مطالبا الولايات المتحدة بالكف عن سياسة “الدخول من الشباك في البيت الصومالي”، والتوجّه نحو البوابة الشرعية المتمثلة في الحكومة الانتقالية.
كما تعرضت تلك السياسة لنكسة حقيقية، عندما تعرّضت قوات أمراء الحرب، والذين كانوا يشكلون ما يُـسمى التحالف ضد الإرهاب، لهزيمة كبيرة أمام ميليشيات المحاكم الشرعية التي سيطرت علي العاصمة مقديشو، التي حكموها على مدى 14 عاما، بعد أربعة أشهر من المعارك، على نحو أدّى إلى مطالبات مختلفة لواشنطن بالتوقف عن إتّـباع السياسة القديمة، والتّـركيز على تأسيس حكومة تلتزم بمساعدة الشعب الصومالي، في سعيه لإيجاد سلطة حقيقية، خاصة وأن “المحاكم الشرعية” أبدت رغبة في حوار يمكن من خلاله أن يختار الشعب الصومالي من مكونات المجتمع من يريده.
إن الإشارات الأمريكية الأولى تُـشير إلى استعداد لمراجعة السياسة القديمة. فهناك إقرار بأن السياسة القائمة على دعم “أمراء الحرب” ضد الميليشيا الإسلامية، قد فشلت. فتصريحات الرئيس الأمريكي بوش تؤكد “أن وجود فصائل مختلفة، وأمراء حرب، ليس حلا دائما”، وأنه سينهج إستراتيجية جديدة إزاء الصومال، وتم بالفعل اقتراح إنشاء “مجموعة اتصال” دولية، للقيام بتحرك منظّـم لدعم المؤسسات الاتحادية الانتقالية في الصومال.
لكن ليس من السهل أن يحدث ذلك عمليا. فإتحاد المحاكم الإسلامية لديه شروط، أحدها يتعلّـق بتطبيق الشريعة الإسلامية، ولن تتخلى واشنطن عن أوراقها مقابل “لا شئ” على الأرض، وقد تُـصر على الحصول على كل الضمانات الممكنة، قبل التحرك خطوة في الاتجاه الآخر، وسوف تحتفظ في كل الأحوال بإجراءاتها الخاصة بمراقبة الوضع على الأرض. فتصدع السياسة القديمة لا يعني بالضرورة ظهور سياسة جديدة، ولكن ربما بداية “فترة انتقالية أخرى” تشهد تداخلا بين السياستين معا، إلى حين لا توجد تقديرات زمنية بشأنه.
والمهم هنا أن لا تحدث أخطاء غير محسوبة تؤدّي إلى فقدان الهدف، بما قد يدفع “أمراء الحرب” إلى العودة لسياسة الأرض المحروقة التي اتُّـبعت من قبل. فخلال العامين الأخيرين (1989 – 1990) لحكم محمد سياد بري، شهدت الصومال مقتل 800 ألف شخص بسبب الحرب والمجاعة، وآخر ما تحتمله أوضاع الصومال، هو أن تتحول أراضيه إلى “حقول قتل” مرة أخرى.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.