“العالم أرحب من العيش في جلباب واشنطن”!
فيما عدا الفضاءين، الروسي والسعودي، لم تلق الزيارة التي قام بها ولي العهد السعودي إلى موسكو ضجة إعلامية توازي وصف "التاريخية" الذي تم إطلاقه عليها.
فقد كان الأمير عبد الله بن عبد العزيز أول شخصية سعودية بهذا المستوى يزور روسيا منذ 70 سنة.
أثناء هذه العقود السبعة، مرت تحت الجسر مياه كثيرة، وهزته أمواج عاتية، ليس أقلها تأجج الصراع العسكري بين المعسكرين الشرقي والغربي، ثم مرحلة الحرب الباردة، ومن ثمة انهيار المنظومة الاشتراكية وانحسار الإمبراطورية السوفيتية إلى حدود روسيا الاتحادية.
وفي كل هذه المراحل، كانت الرياض تنظر إلى موسكو، تارة على أنها مركز الإلحاد الشيوعي المناقض لمركزها الإيماني، وطورا، على أنها دُبّ مقلمة أظافره في الشراك الأمريكي.
لكن خلال العقد الأخير، وتحديدا منه السنوات الثلاث من القرن الجديد، تغيّـرت المملكة العربية السعودية أيضا، ولم تعد الشريك الإستراتيجي المدلل للولايات المتحدة منذ لقاء الملك عبدالعزيز بالرئيس روزفلت عام 1945.
فقد كانت أحداث 11 سبتمبر وتبعات الزلزال الذي تحملت منه المملكة قسطا وافرا، علامة فارقة في العلاقات بين البلدين. وذهب بعض المراقبين إلى اعتبار ما حدث في الأثناء من مشاحنات بين الطرفين على أنه طلاق بائن، استمدت منه زيارة الأمير عبد الله إلى روسيا بعدا خاصا وقيمة سياسية استثنائية.
وإذا كان ذلك ما ذهب إليه أغلب المراقبين، إلا أن التصريحات الرسمية الصادرة من مسؤولي الطرفين خلال الزيارة، تعمدت إغفال هذا البعد بشكل ملفت للنظر، فقد خلت جميعها من أي إشارة من قريب أو بعيد إلى الولايات المتحدة، وتجنّـب الإعلام الرسمي السؤال عن المواضيع ذات الصلة بواشنطن رغم سخونتها الإعلامية.
البريسترويكا على الطريقة السعودية
وفي المقابل، لمحت جهات روسية غير رسمية إلى “التنوع” و”التوازن” اللذان باتا يصبغان التحرك الخارجي السعودي، ولم تتردد صحف سعودية في نشر تصريح لسفير روسي سابق في الرياض يؤكد فيه على هذا الأمر، في حين ذهب نائب رئيس أكاديمية القضايا الجيوسياسية، الجنرال ليوند ايفاشوف إلى التصريح بأن “الرياض تسعى بدأب لأن لا تكون رهينة دولة واحدة”، واصفا السياسة السعودية بأنها “منطقية تماما وتسعى إلى ضمان أمنها واستقرارها ومصالحها الوطنية المشروعة، في ظل رغبة الولايات المتحدة احتكار النفوذ في المنطقة”.
ولم يتوقّـف أمر التلميح والتصريح بعلاقة هذه الزيارة بالملف السعودي الأمريكي عند وسائل الإعلام والشخصيات التي احتفت بها، بل امتد حتى إلى زمرة وسائل الإعلام الروسية التي انتقدتها، مثل صحيفة “كميرسانت” المعروفة بولائها لرجال المال والأعمال الجدد الموالين للغرب، حيث عرضت التعقيدات في العلاقات السعودية الأمريكية، وإصرار واشنطن على الاستغناء عن مصادر الطاقة السعودية، وشددت على أحداث 11 سبتمبر 2001 وما سنته بالدور السعودي فيها، مشيرة إلى أنها كانت سببا في توتر المزاج الأمريكي من ناحية، وسحب الاستثمارات السعودية من الأسواق الأمريكية، التي قدرتها الصحيفة بحوالي 200 مليار دولار، تبحث عن أسواق استثمارية جديدة مرجحة أن تكون روسيا أحد مقاصد هذه الأموال.
وفى نفس سياق التشكيك في أهداف اللقاء الروسي- السعودي، تمت الإشارة إلى مشاورات كان أجراها الرئيس الروسي مع رئيس الوزراء الإيطالي أثناء زيارة الأول لإيطاليا مؤخرا بشأن العلاقات الروسية – السعودية. كما قيل أن هذه العلاقات ستكون موضع بحث بين بوتين وبوش أثناء لقاء القمة الروسي- الأمريكي القريب في واشنطن.
واستنتجت أوساط روسية أن مثل هذه المشاورات بين موسكو وواشنطن، وبين الأولى وشركائها الغربيين تجرى من أجل استبعاد سوء الفهم من جراء تقارب موسكو مع الرياض.
وهكذا ظل الشبح الأمريكي يلاحق الزيارة من قلب صحراء الخليج إلى القطب الشمالي بشتى الأشكال والتخمينات، والتي لم تغب عنها فرضية التنسيق السعودي الأمريكي لأمر الزيارة اعتمادا على مكالمتين هاتفيتين مطولتين كان ولي العهد السعودي قد أجراهما مع الرئيس الأمريكي خلال العشرة أيام التي سبقت توجهه إلى موسكو، واعتبارا لقانون ما بعد الحرب الباردة، الذي أصبحت تصح معه قولة الرشيد إلى الغيمة “أمطري حيث شئت، فإن خراجك عائد لي”!
وإذا كان الظل الأمريكي حاضرا بالضرورة، سواء تجاهله الرسميون أو ركز عليه المراقبون، فإن من الواضح أن بين موسكو والرياض ملفات ساخنة تحتاج إلى تشاور ثنائي، وفي مقدمتها ملف الشيشان وما يحوم حوله من دور سعودي لم تخفه الصحف التي استنكفت من الزيارة.
مرونة الموقف السعودي؟
وقد طفا هذا الملف على سطح المحادثات الرسمية التي شارك فيها رئيس الاستخبارات العامة السعودية، بدءا من تصريحات تمهيدية للسفير السعودي في موسكو الذي اعتبر موضوع الشيشان “شأنا داخليا روسيا”، مرورا بتصريحات الأمير عبد الله الذي استعمل نفس تعبير سفيره، مضيفا أمله “بأن يتم حل الخلاف عبر الطرق الدستورية داخل إطار روسيا الاتحادية”، وصولا إلى الإعلان عن تشكيل مجموعة عمل مشتركة لمكافحة الإرهاب” خلال لقاء وزيري خارجية البلدين، بما يشير أن المملكة قد حسمت أمرها ووضعت النقاط على الحروف في هذا الشأن الذي لاحقها طويلا.
كما كان الملف الاقتصادي من أهم ما شخص إليه الطرفين بأنظارهما، وهو ملف يصيب الرئيس بوتين بالخجل عندما يتذكر أن حجم التبادل التجاري بين البلدين “القطبين” لا يتجاوز المائة والعشرين مليون دولار، حسب ما تم نقله عنه.
ولذلك، كان لوزيري الطاقة نشاطا خاصا خلال الزيارة التي أنتجت اتفاقا بإنشاء شركات مختلطة في مجالي البترول والغاز، واتفاقية للتعاون المشترك في المجالين بقيمة 25 مليار دولار أمريكي.
وسواء انطلقت العلاقات السعودية الروسية إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية، أم ظلت مناورة يهش بها الطرفان على واشنطن، فقد دشنت زيارة الأمير عبد الله إلى موسكو فصلا حذرا في العلاقات الدولية، مما دعا مصادر صحيفة “إزفستيا” إلى الميل للاعتقاد بأن نتائج الزيارة هي التي ستحدد اتجاهات الرأي بشكل عام، مفضلة عدم التورط في تكهنات يمكن أن تعمل على إعاقة توجهات السياسة الخارجية الروسية.
ومهما قيل حول الزيارة، فقد مكّـنت البلدين من القول عاليا “إن العالم أرحب من العيش في جلباب واشنطن” فقط!
فيصل البعطوط – الدوحة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.