العراقيون في سويسرا وصعوبة الالتقاء على كلمة سواء
دفع تصاعد وتيرة العنف الطائفي، المزيد من العراقيين إلى مغادرة بلادهم والبحث عن ملجإ آمن سواء في البلدان المجاورة للعراق أو إلى بلدان أوروبا.
ويبدو من خلال الإحصاءات، أن سويسرا أصبحت أحد مقاصد هذا النزوح، إذ تضاعف عدد اللاجئين العراقيين القادمين إلى سويسرا خلال السنتين الأخيرتين وبلغ عددهم إلى حدود موفى يناير الماضي 3657 لاجئ.
تتميّـز هذه الجالية العراقية، المقيمة في سويسرا، بالتنوّع العرقي والطائفي والحزبي، وهي تعكِـس في ذلك حقيقة المجتمع العراقي نفسه، وكان يمكن أن يكون هذا التنوع مصدر ثراء ومحط افتخار وسبب اعتزاز، كما هو الأمر في مجتمعات حديثة كسويسرا وكندا وغيرها، لكن يبدو أن المجتمع السياسي في العراق والقوى الإقليمية والدولية ذات التأثير أرادت غير ذلك.
ويؤكِّـد هذه الحقيقة كل من استطعنا استجلاء رأيه من أبناء هذه الجالية، فياسين أحمد، عراقي كردي مقيم في سويسرا منذ 10 سنوات يؤكِّـد بأنه “لم يكن أحد قبل حرب الكويت يتحدّث عن شيعة وسُـنة، وكان الجميع مُـتعايشين في وئام وانسجام إلى أن انفجرت انتفاضة الجنوب، ومن هناك بدأت المشكلة”، ويضيف “ما يحصل الآن في العراق بفعل أطراف معينة تؤجج الصراع الطائفي وتصنع الإرهاب للحفاظ على مصالحها”، على حد قوله.
ويشاطره الرأي أيضا حارث، ابن البصرة ومهندس بتروكيمياويات، حطت به الرحال في لوزان منذ سنوات قليلة، الذي يسترجع الماضي القريب: “كنا نتجاور ونتزاوج ونتقاسم مقاعد الدراسة. طيلة حياتي التي عشتها في العراق، لم يسألني أحد إن كنت سُـنيا أو شيعيا، لكن الأحزاب التي عادت إلى العراق بعد سقوط نظام صدّام حسين، هي التي أثارت النعرات ومارست الاستقطاب الطائفي من داخل أجهزة الدولة”.
ومع ذلك، لازال جزء هام من أبناء العراق يعتقدون بأن التاريخ الحضاري المشترك للعراق في مراحله المختلفة، كفيل برأب الصَّـدع الذي يُـصيب اليوم بلدهم.
فالسيد باسم الخبّاز، رئيس المركز الاجتماعي العراقي بسويسرا، يرى أن “العراق الموحَّـد كان قبل مَـجيء صدّام إلى الحكم وسيستمر بعده، والعراق موجود من قبل 5000 سنة”، ويتساءل مستغربا “لماذا تُـوضع وحدة العراق اليوم موضِـع سؤال، لم يكن في يوم من الأيام اتِّـجاه العراق اتِّـجاها دينيا وسبب ما يحدُث اليوم، هو استغلال الدِّين لأغراض سياسية”.
لكنهم ليسوا على رأي واحد، فهناك من يعتقد أن الطائفية حقيقة لا يمكن تغافلها، وأنها ظاهرة عربية وليست عراقية فقط، ويقول أحد العراقيين الذي طلب عدم ذكر اسمه “ما لم نكن قادرين على الاعتراف بهذه المشكلة، فلن نكون قادرين على حلها”، وبحسب هذا الرأي أيضا، “الدولة العراقية الحديثة، ومنذ 1921، كانت دولة طائفية وهيمنت عليها طائفة واحدة طِـيلة العقود الماضية”، وأن المشكلة الحاصلة اليوم هي نتيجة عدم قُـدرة العراقيين على إدارة اختلافاتهم، “إذ أن التغيير في العراق لم يحصُـل على أيدي العراقيين، بل فاجأهم، وهو تحوّل لم يحسم الصراع لطرف على طرف، وبالتالي، كان لابد أن يحصُـل هذا الصراع الذي تأجّل لوقت”.
إدانة للماضي وخيبة أمل في الحاضر
لم يحل بعد المسافات وتقادم الزمن ومشاغل العمل والمكابدة من أجل لقمة العيش، دون مُـقاسمة أهل الوطن آلامهم وأحزانهم. كيف والبعض من أبناء هذه الجالية مُـبتلى في عائلته وأهله الأقربين، الذين إما قضوا في أحد الحوادث الأمنية نتيجة اعتداء من هنا أو هناك أو اضطرهم وجودهم، لسوء حظهم، على حدود التَّـماس الطائفي لمُـغادرة الدِّيار، إما في حركة نزوح داخلي أو هجرة إلى أحد دول الجوار، وهذا الشعور مُـشترك بين الجميع.
فالشمالي يتحسـّر، لأن سنوات الاستقرار السياسي التي عاشتها منطقة كردستان لم تؤدِّ إلى تحسـّنٍ ملحوظ في حياة المواطنين. فالخدمات منعدمة والساسة منشغلون بصِـراعاتهم والشركات الأجنبية تنهَـب خيرات البلاد.
أما في المناطق الأخرى، فإن انعدام الأمن والتجاذب الطائفي وعبث المليشيات قد نغّـص على المواطن العراقي حياته. لقد غادر طالب أحمد، أب لثلاثة أطفال من منطقة الموصل هو وعائلته البلاد هربا من ذلك الجحيم، حيث طلب اللجوء في سويسرا، ومـُنح غرفة يتقاسمها مع أبنائه الثلاثة في منطقة كريسييه بكانتون فو، ويقول هذا العراقي، الذي يناهز عمره الأربعين سنة “لقد جئت إلى سويسرا لِـما اشتَـهرت به من احترام لحقوق الإنسان ومساعدة للأجانب، وأتمنّـى أن يتفهّموا صعوبة الوضع الذي يمر به العراقيون”.
ومع أنه مرت سبعة أشهر على وصول هذه العائلة إلى سويسرا، بعد رحلة شاقة وطويلة عبَـروا خلالها بُـلدانا عديدة إلا أنهم لا زالوا في مركز اللجوء ينتظرون السماح لهم بالإقامة.
كذلك يُـقر السيد باسم الخبّاز بأن “خيبة أمل العراقيين في عهد ما بعد صدّام خيبة أمل كبيرة. فالعراقيون كانوا يتوقّعون عراقا آمنا سعيدا، وما يحصل الآن هو عكس ذلك تماما، واليوم، ليس هناك أمن ولا استقرار في العراق، والمتسبب في هذا الوضع، دول الجوار وبعض الأطراف السياسية الداخلية التي تهتم بمصالحها الخاصة، قبل مستقبل العراق”، عل حد تعبيره.
لكن بعض أنصار العهد الجديد، مثل علي الشلاه، مدير المركز الثقافي العربي السويسري ومقره بزيورخ، وهو أيضا عراقي من مدينة الحلة بمحافظة بابل، فيدعو إلى التريُّـث في الحُـكم ويقول: “نعم العراق يمرُّ بكارثة وبوادر أزمة اجتماعية كبيرة تلوح في الأفق، لكن أنا لم أكن واهما بأن الأمور ستسير في يومين على ما يُـرام، وهناك مشكلات تفاقمت خلال عقود طويلة، ونحن في مرحلة انتقالية، والتحدّي الكبير هو الاحتلال الأجنبي”.
الحل في التعايش
عندما تسال أبناء الجالية العراقية في سويسرا عن الحلول التي يقترحونها لخروج العراق من أزمته، يبادرونك بتقديم وصفات تختلف في عُـمقها وجَـدواها بحسب حظ كل منهم من فِـقه الواقع وتعقيدات الظاهرة العراقية، لكن المجمع عليه هو ضرورة توافق الجميع على بناء دولة مدنية قوية تحفظ هيبة القانون وتمثّل مصالح الجميع وتقضي على الفساد، وأن يسبق الولاء للعراق على أي ولاء آخر.
لكن الدولة القوية، يقول حارث، “ليس بالضرورة أن تكون ظالمة، بل هي التي تحقِّـق العدل بين الناس وتكون ممثلة للشعب بأكثريته وأقلياته، وتُـعيد للناس الثقة في بعضهم البعض”.
وبعد هذه التجربة الصعبة التي تمر بها بلادهم، يبدو أن أبناء بلاد الرافدين قد توصلوا بعد هذه التجربة المريرة إلى أن “الفوضى أشدّ من الاستبداد”، وأن على الجميع القبول بأنصاف الحلول من أجل تجاوز رُكام الماضي وتربية الجمهور على احترام آليات الحكم الديمقراطي التعدُّدي، الذي يجب أن يحترم عقائد الناس وقناعاتهم.
فعاليات الجالية ومحاولات لجمع الشمل
من المفارقات العراقية، أن جميع فئات المجتمع تتقاسم مَـرارة الغُـربة وبرد الملاجئ، وأن الذين يتقاتلون في الداخل، يتجاورون في أحياء السيدة زينب في دمشق ومراكز اللجوء في السويد وسويسرا والنمسا وغيرها، وربما شعروا برابط المواطنة وحق النصرة، عندما يعبرون حدود الوطن. إذ يقال إن العراقي شديد الحبّ لبلده، لا يغادره إلا ليعُـود إليه، على خلاف اللبناني، الذي يهاجر ليستقِـر وليُـعمّر.
الأزمة الحالية التي تعصِـف بالعراق والأحداث اليومية الأليمة التي تنقلها وسائل الإعلام تلقي بظِـلالها على العلاقات القائمة بين العراقيين في الداخل والخارج على السواء، فمن يتردّد على منتديات العراقيين على شبكة الإنترنت، يلاحظ تبادلا لاتهامات التَّـخوين والشتائم والعنف اللفظي، من الصعب فهمه خارج سياق التاريخ العراقي الحديث، ولعل هذا الوضع هو الذي صرف الجالية العراقية في سويسرا عن تشكيل إطار موحَّـد يلم شمل الجميع، فاكتفى البعض بالإنتماء إلى الأطر الحزبية الضيقة أو إلى التكتلات القريبة من طائفته.
أما من ن اتَّـسع أفق رؤيته وانفتح على الواقع الجديد في الكنفدرالية فكوّن مؤسسة اجتماعية ترفيهية تجمع العراقيين إلى جنسيات أخرى أو مؤسسات ثقافية مشتركة مع آخرين، ومن الأمثلة على ذلك “المركز الاجتماعي العراقي”، الذي يرأسه السيد باسم الخباز، وهو عراقي يقيم في سويسرا منذ أزيد من 20 سنة، وتنتسب إلى هذا المركز بعض العائلات العراقية وأخرى سويسرية، ويغلب على نشاطه تنظيم الحفلات الفنية وإحياء المناسبات، مثل أعياد الميلاد والأعياد الدينية، وكذلك “المركز الثقافي العربي السويسري” الذي يديره الدكتور علي الشلاه، وتدعمه مؤسسات سويسرية رسمية وينشط في مجال التبادل الثقافي بين سويسرا والعالم العربي، وله مقار في كل من بغداد وزيورخ.
فهل يمكن القول أن صعوبة التواصل مع ابن العم والقريب، فتحت الأعيُـن على الواقع وعززت فرص التواصل معه؟
عبد الحفيظ العبدلي – لوزان
أدى تدهور الوضع الأمني في العراق خلال الأشهر الستة الأخيرة إلى زيادة كبيرة في عدد اللاجئين العراقيين الفارين من أتون الحرب الأهلية، وبحسب المفوّضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تأتي العراق اليوم على رأس الجنسيات الأربعين التي تطلب اللجوء السياسي في أوروبا، وخلال سنة 2006، تضاعف ذلك العدد مرتين.
وتظل البلدان المجاورة، المقصد الرئيسي لهذا النزوح الجماعي، نظرا للتكاليف الباهضة التي يتطلبها السفر إلى بلدان أوروبا والقارة الأمريكية. ويقدّر عدد اللاجئين العراقيين في الأردن بحوالي 700 ألف لاجئ، وفي سوريا بما لا يقل عن 600 ألف لاجئ، وفي مصر تقريبا 100 ألف نسمة.
أما على مستوى أوروبا، فتوجد أكبر جالية عراقية حاليا في السويد، حيث يبلغ تعدادها 80.000 نسمة، وأغلبهم منحدرين من بغداد ومدن الجنوب، ويحصل 80% إلى 90% منهم على حق الإقامة، ثم تلي السويد بريطانيا وألمانيا.
ويعد وجود الجالية العراقية في سويسرا حديث العهد، مقارنة بالدولة المشار إليها آنفا، وأغلب العراقيين القادمين إلى سويسرا من الأكراد.
ودعت منظمة الأمم المتحدة إلى تنظيم مؤتمر للدول المانحة في شهر أبريل القادم وإلى جمع 60 مليون دولار كمساعدة عاجلة للاجئين العراقيين من أجل إعادة توطينهم.
كما دعت الدول الأوروبية والدول المجاورة إلى قبول اللاجئين العراقيين، نظرا للوضع الأمني المتفجّر في بلدهم، ولا يبدو في الأفق أي تراجع لعدد اللاجئين العراقيين، إذ بحسب المصادر الدولية، يغادر العراق كل شهر 100.000 لاجئ، هذا فضلا عن النازحين في داخل العراق.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.