مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

العراق: المصارحة قبل المصالحة

جندي عراقي يحرس مدخل شارع حيفا بعد مواجهات عنيفة بين مسلحين وقوات الأمن دارت رحاها وسط بغداد يوم الجمعة 23 يونيو 2006 Keystone

بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي، كان لابد للحديث أن يرتفع مجددا في العراق الجديد عن المصالحة الوطنية.

ويأتي الحديث هذه المرة، من طرف رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي تبنى شعارا دعا فيه إلى “استراتيجية فعالة لعراق ديمقراطي”..

بعد مقتل أبو مصعب الزرقاوي، زعيم تنظيم القاعدة السابق في العراق، الذي حث وساهم في إشعال فتيل الفتنة الطائفية في العراق، كان لابد للحديث أن يرتفع مجددا في العراق الجديد عن المصالحة الوطنية، وهذه المرة من رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي تبنى شعارا دعا فيه إلى “استراتيجية فعالة لعراق ديمقراطي”.

لكن… اختيار مواطن سعودي أو في رواية أخرى يمني أو ليبي، وحتى مصري أي “أبو حمزة المهاجر”، ليخلف الزرقاوي في قيادة القاعدة، أصاب دُعاة المصالحة مع المسلحين العراقيين بخيبة أمل، من واقع أن ما يسمى بتنظيم القاعدة لو عين عراقيا لقيادته باتجاه “عرقنة” العمليات المسلحة ليقتصر استهدافها في النهاية على قوات الاحتلال، لاعتبر ذلك إدانة، ولو غير مباشرة، لعمليات الزرقاوي التي كان ضحاياها في الغالب من العراقيين.

أرادت الولايات المتحدة، وباقي الدول الحليفة معها في العراق، أن تستفيد بأقصى الدرجات من تصفية الزرقاوي – مهما كانت ذرائع التوقيت الأمريكي لرحيله – وأوعزت كما يبدو إلى المالكي، في الزيارة النادرة والمفاجئة التي قام بها الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى بغداد بعد قتل الزرقاوي، بإعلان “المصالحة الوطنية” على أسس جديدة، لأن استكمال تشكيل “حكومة الوحدة الوطنية في العراق ” مباشرة بعد القضاء على الزرقاوي، من وجهة نظر المالكي وسلطة الاحتلال الحاكمة، كان نقطة بداية لمكافأة “التزام العراقيين بالديمقراطية”؟!.

الحوار قبل المصالحة

كما دفع الزخم الإضافي، الذي نتج عن غياب زعيم تنظيم “القاعدة” في بلاد الرافدين، للقيام بجهد نحو القضاء على الإرهاب والطائفية واستئصال شافتهما، ومن ثمّ الوفاء بما قطعته الحكومة على نفسها من تعهّـدات، وذلك عبر اعتماد استراتيجية وعَـد بها المالكي لإعادة البناء والمصالحة وتحسين الأمن.

وفي المصالحة، يرى المالكي أن الحوار أو المصارحة، أمر مهم جدا في التعامل مع الرؤى والمواقف المخالفة لرؤى الحكومة ومواقفها، والقوى السياسية المشاركة في العملية السياسية.

فالمصلحة الوطنية للشعب تلزم الجميع بوضع كل أوراقهم على الطاولة ليتصارحوا، وبالقلم العريض عمّـن يقف خلف الاغتيالات المُـريبة التي تتكرر كل يوم بنفس الطريقة، وتسجل ضد مجهول، وفي أحيان عدة، لا يُفتح تحقيق بشأنها فلا تسجل حتى ضد مجهول.

المالكي قيادي بارز في حزب الدعوة الإسلامية، ألد أعداء البعثيين، وقد سلّـطت محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين الأضواء على ما يقوله صدام وباقي المتهمين في قضية الدجيل المعروفة بخصوص دور هذا الحزب الذي يُقرن عادة في أدبيات حزب البعث والسلطة السابقة، بصفة “العميل” لإيران، وهو إذن أي المالكي، يملك موقفا ما من البعثيين، وقد لا يرغب (وهو الذي كان نائبا لرئيس هيئة اجتثاث البعث) في مصالحة حقيقية مع أعدائه السابقين.

أوراق اللعبة؟

لكن، هل يملك المالكي كل أوراق اللعبة؟ طبعا لا يدّعي، ولا أي مسؤول في العهد العراقي الجديد أنه يتصرف باستقلالية تامة عن سلطة الاحتلال، ومن هنا، فإنه يريد .. والاحتلال يريد .. والبعثيون وباقي الفصائل المسلحة يريدون شيئا آخر في صراع الإرادات القائم، وهو على أشُـدّه في العراق.

ولهذا، يمكن القول أن ما تسرب من معلومات عن مشروع المالكي بشأن المصالحة، يكشف عن تطور مهم في طريقة التعامل مع “هيئة اجتثاث البعث”، وتأكيد المالكي على إخضاعها للقانون والقضاء، وتجريدها من الطابع السياسي لتأخذ طابعاً مهنياً ودستورياً، أما الأكثر أهمية، فهو التزام الحكومة تأديّـة التزاماتها السابقة بالعمل على درس تعديل الدستور، وهو الشرط الذي وضعه الحزب الإسلامي العراقي “السني” للقبول بالاستفتاء على الدستور.

أهداف مشروعة!

وقبل ذلك، يريد المالكي إعطاء الأولوية للشروع في عملية إعادة إعمار شاملة، وهو يعتزم إطلاق مبادرة “تروم تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية”، على حدّ تعبيره، وزيادة قوة الجيش والشرطة وفعاليتهما، وينظر إلى المصالحة الوطنية، لعلاج ورأب الانقسامات والجروح التي يحصر أسبابها في ممارسات نظام صدام، وعمليات القتل والتفجير العشوائية، واستهداف العراقيين من قبَـل بعض الجماعات المسلحة، خاصة القاعدة، ويبدو أن المالكي يريد إنجاز المصالحة، لكي يتمكّـن من هذه الجماعات وملاحقتها، والقضاء عليها بشكل حاسم.

الخطة الأمنية في العاصمة تعكس أن مصالحة المالكي المدعومة من الدولة الأعظم في العراق (والعالم)، أي الولايات المتحدة، تنطلق بيد، وباليد الأخرى سلاح القوة العسكرية المستندة هذه المرة الى أجهزة الاستخبارات في البلاد والرغبة في تعزيزها، لأنها برأيه، “أفضل أشكال الدفاع ضد التفجيرات والهجمات المسلحة بكافة أشكالها”.

مصالحة المالكي هي وسيلة أيضا للوصول إلى مرحلة الحسم في المعركة التي يخوضها ضد المسلحين، من أجل تسلم المزيد من المهام الأمنية من قوات الاحتلال في المدن والمناطق العراقية.

ويحاول المالكي، وهو يدوس على “الجن”، تطبيق القانون 91 القاضي بضم المليشيات القريبة من العهد الجديد إلى قوات الأمن الوطني على نحو يضمن عدم تركيز أعضاء مجموعة واحدة في قسم أو وحدة معينة، ثم مراقبتهم بعد ذلك للتحقق من أنهم لا يدينون بالولاء لمنظماتهم التي قدموا منها.

إلا أن هذه الرغبات الجميلة لن تتحقق بالأمنيات، وحتى بالسعي والعمل إذا لم تتوفر الإرادة، وهي العقبة الأكبر التي تعترض طريق المصالحة الشاملة، وعلى هذا الأساس يعمل المالكي على ما يسمّـيه “خلق” إرادة تفكيك هذه المجموعات ذاتيا لدى الزعماء السياسيين لهذه الميليشيات.

تبسيط

مصالحة المالكي، التي تستثني من أسماهم “قتلة الشعب العراقي”، تتضمن إعادة الضباط السُـنة الكبار إلى الخدمة، وتأهيلهم للقيام بأدوار في الجيش والشرطة، وهو ما أثار خلافات داخل الائتلاف الشيعي، الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء، إذ تحفظ زعيمه السيد عبد العزيز الحكيم على بنود عودة البعثيين وكبار الضباط السابقين.

ورأى حلفاء آخرون من الائتلاف أن هناك مقدمات ينبغي الإعداد لها من قبل القوى السياسية، قبل إطلاق مبادرة المصالحة، بينما قلل نافذون داخل الائتلاف من وجود مشكلة حقيقية تدعو إلى تحويلها إلى مصالحة وطنية، وذهبوا إلى أن تسمية المصالحة الوطنية بهذا المعني قد تُـسيء إلي الواقع العراقي، وتخدم برأيهم من يقول إن هناك حربا أهلية في البلاد.

خطاب المنتصرين أو من يظنون أنهم هكذا، دأب عليه نظام صدام المخلوع، عندما كان يرفض الاعتراف بوجود معارضة له، إلى أن سقط بدور بارز لعبته المعارضة عبر تعاونها مع الأمريكان.

واليوم، فإن مصالحة المالكي التي تأتي بفعل ضغوط أمريكية ودولية أخرى، تواجه معارضة من داخل الائتلاف الحاكم، والذي يختزل ما يجري في العراق بـأنه “إرهاب ضد الشعب بجميع مكوّناته، مدعوما من التكفيريين والصدّاميين، ولا توجد أية مشكلة بين العراقيين، بل أن العلاقات الاجتماعية لا تزال تجمعهم ضمن نسيج عائلي متجانس” حسب ما يردده أهم زعماء الإئتلاف.

رؤيتان

يفضل الحكيم وأنصاره مواجهة الخصوم بالقوة العسكرية، ويرفضون محاورتهم، والمالكي ومن يؤيده يعتقدون أن العمليات العسكرية تكسر شوكة الإرهاب، ولكنها لا تنهيه، ولهذا، يطرح مشروع المصالحة والحوار الوطني، رغم البون الشاسع بين ما يريده المالكي، وما تطلبه سلطة الاحتلال.

وربما يكون عدم التوصل إلى اتفاق كامل داخل الائتلاف، وحتى مع التحالف الكردستاني وباقي مفردات الحكومة العراقية بضمنها الرئاسة، هو ما دفع المالكي إلى إلغاء المؤتمر الصحفي، الذي كان من المقرر أن يعقده يوم الخميس الماضي لإعلان مبادرته حول المصالحة الوطنية، دون إبداء أي أسباب للإلغاء أو تحديد موعد آخر لإطلاق الخطة.

يواصل الرئيس العراقي جلال طالباني اتصالاته، التي بدأها منذ أكثر من شهرين مع عناصر الجماعات المسلحة، ممّـن لم يتورطوا في الجرائم، وأعلن موافقته، من حيث المبدأ، على أهم محاور خطة المالكي، ووصفها بالجيدة.

السنّـة والمصالحة

يعتقد السنّة العراقيون أنهم هُـمّـشوا في العهد الجديد، وأنه تم ربطهم جزافا بعهد صدام، وهم اليوم يدفعون ثمن ممارسات النظام السابق، وفي الوقت نفسه، يطرحون أنفسهم كقادة للمقاومة، سواء العسكرية منها، والسياسية.

وإذا لم يحصل السنّـة على دور يستحقونه، فإن الحديث عن المصالحة يظل لذر الرماد في العيون، رغم أنهم مشاركون اليوم في الحكم، وفي التحضير لعقد مؤتمر الوفاق الوطني العراقي، الذي أجّـل من 22 يونيو إلى أجل غير مسمّـى، بعد أن طلبت هيئة علماء المسلمين نقل المؤتمر إلى خارج العراق، والاعتراف بالمقاومة وجدولة انسحاب القوات الأجنبية من العراق، كشروط لمشاركتها في المؤتمر، وهي نقاط مهمة غابت عن مبادرة المالكي، الذي أشار في معرض دعوته للمصالحة الوطنية إلى أنّ دعوته موجّـهة لمن يرغب في المصالحة ويكون جادّا فيها.

جبهة التوافق العراقية السنّـية المشاركة في الحكومة، رحّـبت بعد أن قرن المالكي مبادرته بإطلاق سراح عدد كبير من السجناء.

الجماعات المسلحة

تنظيم القاعدة كان على الدوام يرفض المصالحة الوطنية في العراق، وهو ما شدد عليه زعيم التنظيم الجديد أبو حمزة المهاجر الذي أكد المضي على درب سلفه الزرقاوي والذي من جانبه دعا السنّة العرب لرفض المصالحة ومحاربة الشيعة في العراق ، ويصفهم بأنهم “أفاعي غير أوفياء” ويعتبر الدعوات للمصالحة الوطنية محاولات لدفع السنة إلى الاستسلام.

حزب البعث

“القيادة العامة لمجاهدي القوات المسلحة – قيادة عمليات عمورية”، الذراع العسكري لحزب البعث، وجّـهت رسالة إلى باقي المسلحين، اعتبرت دعوة المصالحة “لعبة أمريكية قذرة، تحيك خيوطها المخابرات الأمريكية وزالماي خليل زاد، المندوب السامي الأمريكي، وتنفذها المخابرات الأردنية والسورية والسعودية والخليجية، بحجة دعم المقاومة في العراق أو تحت ذريعة إنهاء الوجود الفارسي الصفوي”.

ورفض الحزب الانضمام إلى المصالحة ورأى أن “الهدف الأساسي من المبادرات واللقاءات والاجتماعات والمؤتمرات، هو كشف قيادات الجهاد والمقاومة وإخراجها فوق السطح، ليسهّـل تصفيتها والقضاء عليها أو تحييدها وجرّها إلى العملية السياسية من خلال أساليب الخداع والتزوير والتسويف”.

وبدلا من ذلك، أعلن البعث، الذي لم يتخل عن عقلية “الحزب القائد”، عن تشكيل جبهة وطنية لمقاومة الاحتلال بقيادته، واعتمد سياسة التصفيات مع كل من رفض العودة إلى التنظيم مرة أخرى، وهو يقوم بإعادة بنائه في مناطق العراق كلها. وقد تخلّـص، بطرقه المعهودة، من أعداد كبيرة من الذين سمّـاهم “الانتهازيين” الذين انضموا إليه بسبب مُـغريات السلطة السابقة.

لكن هذا لم يمنع من حصول اتصالات مع قياديين بارزين في البعث، وقيل في هذا الصدد، أن محمد يونس الأحمد، عضو القيادة القطرية، وافق على الانخراط في العملية السياسية، بعد أن تنضج، طالبا من الحزب الانفكاك عن أي تعاون مع الإسلاميين العرب والسلفيين.

قد تكون هذه مجرد أقوال، لم يسندها أي بيان رسمي، إلا أن ما يتردد عن فصل الأحمد من قيادة الحزب من قبل عزت الدوري، الأمين العام الفعلي لقيادة الحزب، ربّـما يؤيّـد تلك التسريبات.

استحقاقات وتحدّيات

يواجه المالكي محاولات لإفشال مشروعه في المصالحة، لأن معظم الرافضين لمشروعه، من أنصار العهد الجديد، يعتقدون أن إعادة الأمن المفقود لن تتم بمكافأة المجرمين، بينما معظم أنصار النظام السابق ما يزالون يعيشون عقلية الإقصاء، وينشطون مع آخرين من داخل النظام الحالي، ربما لإفشال حكومة المالكي في ضوء الأسئلة الصعبة التي تُثارُ حول خطّـته الأمنية، التي ترافقت بالمزيد من عمليات المسلحين بشكل لافت، سيما وأنه أعلن أن “القوة لوحدها لا يمكن أن تجلب الاستقرار الأمني”.

فالمالكي بدأ عهده بأكبر حملة عسكرية لم يسبق لها مثيل، وراهن بكل مستقبله، السياسي والأمني، على نتائجها، وعلى مبادرة المصالحة الوطنية التي سُـرعان ما اصطدمت برفض حلفائه في الائتلاف، يجد نفسه يوماً بعد آخر أمام استحقاقات كثيرة وتحديات أكبر وأخطر، لكن التحدّي الكبير هو كيفية إقناع حلفائه في الائتلاف العراقي الموحّـد في تهدئة التوتر الأمني في محافظات وسط وجنوب العراق، التي تغلي إلى حدّ بات ينذر بالخطر.

نجاح محمد علي – دبي

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية