العراق بين أمـن غائب ومصالحة مستحيلة..؟!
يموج المشهد العراقي بمزيج من الأمل الضعيف والحزن الشديد، ولحظات فرح شاردة وصور من العنف الوحشي المبني على رغبة انتقام وسادية تعكس برأي كثيرين تخطيطا مُـحكما لبناء عراق طائفي جديد.
وفيما يحق للأمريكيين ومعهم حكومة المالكي أن يشعروا ببعض الفرح لتمكنهم من أخطر أعدائهم، بيد أن هذا الفرح يجب ألا يذهب بعيدا..
يموج المشهد العراقي بمزيج من الأمل الضعيف والحزن الشديد، ولحظات فرح شاردة وصور من العنف الوحشي المبني على رغبة انتقام وسادية، تعكس تخطيطا مُـحكما ومنهجية في بناء عراق طائفي جديد خال من نصف أبنائه على الأقل.
وبينما يحق للأمريكيين ومعهم حكومة المالكي أن يشعروا ببعض الفرح، نظرا للتمكن من أخطر أعدائهم زعيم القاعدة في بلاد الرافدين، أبو مصعب الزرقاوي، بيد أن هذا الفرح يجب ألا يذهب بعيدا، فعودة الأمن للعراق الحزين ابعد كثيرا من مجرد قتل الزرقاوي، ناهيك عن أن وعود المصالحة الوطنية تصطدم بجبال من العوائق، وتدخلات الجارة الكبرى إيران تتصاعد إلى عنان السماء.
مقتل الزعيم أم مقتل الفكرة
عراق ما بعد الزرقاوي لم يتغير كثيرا عن عراق ما قبل مقتل الزرقاوي. فالرجل، وإن شكّـل موته خسارة كبرى لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، فقد أثبت التنظيم من قبل أن له رجالا كثيرون يمكنهم تعويض هذه الخسارة بشكل أو بآخر. فالمهم ليس مقتل زعيم، أيا كانت قدراته القيادية، بل قتل الأفكار التي تجتذب مثل هؤلاء ليتبعوا الطريق نفسه.
وللأسف الشديد، ورغم وضوح الفساد الديني والشرعي والأخلاقي لأفكار القاعدة ومن يتبعها، فهناك من يقعون فريسة لها وما زالوا، لأن الأمر ببساطة، وفي ظل ظروف العراق المحتل، تبدو بعض قناعات القاعدة متماسكة ظاهريا، لاسيما إن وجّـهت ناحية قوة تحتل أرضا إسلامية، وأيضا لأن سلوكيات قوة الاحتلال وبعض من يساندونها ويؤيدون وجودها تصبّ الزيت على النار، وتعلى من الطائفية، وتمجد الانتقام والثأر وتخلو من القيم النبيلة، وتفيض عُـنفا بغيضا.
خريطة معقدة للعنف
وإذا كانت خريطة العنف الدائر في العراق تشمل عناصر عدة، كتنظيمات لمقاومة الاحتلال وأخرى لإذكاء نار الطائفية، وثالثة لمتابعة ما تراه “الجهاد ضد قوى الكفر والرافضة”، ورابعة إجرامية تستفيد من تدهور بنية الأمن في ربوع العراق، وخامسة تستهدف تمهيد وترسيخ الأرض العراقية لنفوذ دولة كبرى جارة، وسادسة ترتبط بالاحتلال تدافع عن مصالحها الجديدة، فبالتالي، فإن ضعف أحد العناصر أو غياب قيادة مؤثرة لعنصر بذاته، لا يمثل نهاية المطاف لدائرة العنف والقتل اللعينة والمستشرية، بل ربما يزيد وتيرتها، خاصة من جانب هؤلاء الذين يعتبرون أن غياب قيادة عنيفة محسوبة قسرا على جزء من السُـنة، يوفّـر لهم فرصة لمزيد من الضربات وترسيخ الأقدام.
عنف طائفي بغيض
ولعل الشهادات الدامغة التي تظهر بين الحين والآخر، وآخرها تصريحات نائب وزير العدل العراقي بوشو إبراهيم علي، (وهو بالمناسبة كردي) حول سطوة الميليشيات المحسوبة على تنظيمات شيعية، وتغلغلها فى بنية وزارتي الدفاع والداخلية، وارتباطات بعضها بدولة كبرى جارة، وسيطرة هذه الميليشيات الكاملة على سجون خاصة، وما تقوم به من أعمال تعذيب وقتل وجرائم ضد الإنسانية، والموجهة إلى السُـنة تحديدا، وحالات القتل ضد رموز سنّـية بارزة، وبما يعكس حالة انتقام طائفي منهجي، لا علاقة لها بالزرقاوي حياة أو موتا، بل هي مرتبطة بخطة جهنمية لإعادة صياغة العراق الجديد على نحو يلغي تماما دور ما لا يقل عن 40% من أبنائه، أو دفعهم إلى الهجرة هربا بحياتهم، أو تهميشهم سياسيا، وإذلالهم اجتماعيا وإنسانيا، إن قبلوا البقاء.
وفي المحصلة النهائية، فإن هؤلاء يرون في موت الزرقاوي تشجيعا لهم على المُـضي في طريقهم، لاسيما وهم الجزء الرمادي من السلطة الحاكمة، فلا هم قابلون للرصد، يمكن محاسبتهم، ولا هم خارج السلطة أو معارضون لها، فيمكن استهدافهم من الحكومة أو قوة الاحتلال.
والمشكلة هنا ببساطة تكمُـن في أن النسبة الأكبر من المُـسيطرين على السلطة الجديدة في العراق، هم طائفيون حتى النّـخاع، ويجدون في الزرقاوي وأمثاله، حيا أو ميتا، دافعا لمزيد من الممارسات الطائفية ـ حتى على الرغم من حقيقة أن أمثال الزرقاوي لا يفرّقون بين سُنّـة وشيعة ـ فى وقت تبدو قوة الاحتلال وقد فقدت سيطرتها على حركة الأحداث، فلا هي قادرة على استكمال مشروعها الديمقراطي المزعوم، الذي سقط في براثن الطائفية والعنف، ولا هي قادرة على الانسحاب، بعد أن مزّقت أوصال العراق وسلّـمت أقداره لغير شعبه، وأخلت بالتوازن الإقليمي على نحو جسيم.
مقاومون للطائفية ومشتتون
وما دام هناك طائفيون أقحاح، سيكون هناك أيضا مقاومون شرسُـون، ليس لغرض إعادة نظام سابق انتهى عمره إلى الأبد، بل من أجل، وهو الأرجح، بعض الحياة الكريمة والدفاع عن النفس، وكنوع من الرد على مشروع الطائفية والانتقام الذي ينسج يوما بعد يوم للعراق الجديد.
والمشكلة الأكبر، أن هؤلاء يبدون بلا مشروع سياسي موحد، وهم مشتتون أيضا، تتنازع بعضهم أفكار البعث غير “الصدامي” ومبادئ إسلامية تقترب أحيانا من أيديولوجية القاعدة، على الأقل من زاوية جهاد العدو القريب المدعوم بالعدو البعيد، وأحيانا أخرى تبتعد عنها جُـملة وتفصيلا، وتقدّم “عراقيتها” على ما عداها، ومنهم كذلك من يرتبطون بمبادئ الثورة لأجل الشرف والدفاع عن العشيرة والقبيلة ضد مقاتليها وأعدائها.
خطة أمنية وتحفظات
هذه الخريطة المتداخلة والمتشابكة تكشف بدورها عن أمرين: الأول، أن الخطة الأمنية التى أعلنت عنها حكومة المالكي كجزء من سياسة الحكومة الجديدة، والتي بدأ تطبيقها في العاصمة كمرحلة أولى بداية من 12 يونيو الجاري بمشاركة 40 ألف عنصر، ومساندة كبيرة من القوات الأمريكية، لن تحقق الكثير، ما دامت القوة المحرّكة للجزء المسيطر على مؤسسات الدولة العراقية الجديدة تحت الاحتلال، هي قوة الطائفية ونزعة الانتقام اللا محدودة.
الأمر الثاني، التحفظات التي تُـبديها أطراف عراقية عدّة تُـجاه مسعى رئيس الوزراء المالكي لتطبيق خطّـة مصالحة وطنية تشمل إعادة النظر في عملية اجتثاث البعث التي طبّـقت كسياسة لا قانونية ولا إنسانية وذات طابع انتقامي بحت، وفتح حوار مع جماعات مسلحة ذات طابع عراقي تستهدف الاحتلال أساسا، ومزيد من استيعاب السُـنة في العملية السياسية، وإصدار عفو عام عمّـن لم يشتركوا في أعمال قتل يُـعاقب عليها القانون، ودمج الميليشيات وتفعيل قانون الإرهاب، وحل مشكلة منتسبي الجيش وقوى الأمن السابقة، وبنود أخرى.
تحفظات سُـنية
والظاهر هنا، أن أسباب تحفظ السُـنة والجماعات المسلحة المعنية بالمصالحة، تختلف تماما عن دوافع تحفّـظ، إن لم يكن رفض بعض قادة الائتلاف العراقي الموحد.
فالأطراف الأولى ترى أن الخطة لابد أن تحقق وقف سياسة العقاب الجماعي، وإعادة كتابة الدستور ورفض الطائفية كأساس لتوزيع المناصب، وتأكيد البُـعد العربي والإسلامي للعراق، ووقف العمل بسياسة اجتثاث البعث وإعادة الاعتبار للذين انتُـهكت حقوقهم، وفقا لهذه السياسة في السنوات السابقة، وأن يكون هناك برنامج زمن للانسحاب الأمريكي وفقا لما اتّـفق عليه في مؤتمر الوفاق العراقي، الذي عقد بالقاهرة، وأن تثبت الحكومة مصداقيتها ببعض المواقف التصالحية، ولا تنهج نهج حكومة الجعفرى السابقة، التي نقضت وعودها مع بعض قادة المقاومة، وقامت باعتقالهم بعد العودة من القاهرة.
وهناك ـ كهيئة علماء السُـنة ـ مَـن يرفُـض تماما مبدأ دمج المليشيات في الجيش والشرطة، لأن هذا سيوفّـر لهم بحسب رأيهم غطاء رسميا لممارسة القتل والتعذيب، وفق أهداف ومرامي غير وطنية.
تحفظات شيعية
في المقابل، تركّـز تحفظات قادة الائتلاف العراقي الموحّـد على أن المصالحة يجب ألا تشمل “الصداميين”، وأن تفرق بين الجماعات المسلحة وألا تمس الميليشيات الموجودة بالفعل، وألا تسمح بعودة قادة كبار من الجيش العراقي السابق إلى الخدمة مرة أخرى.
وهناك من يرى ـ كعبد العزيز الحكيم، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، أن مستقبل العراق بات مرهونا بقوتين، هما الولايات المتحدة وإيران، وأن الحوار بينهما هو ما سيُـحدد مستقبل العراق قبل أي شيء آخر.
لا خروج أمريكي الآن
وما بين التحفظات والتحفظات المضادة، ومطالب بعض نواب البرلمان العراقي من السُـنة في أن يستمر إشراف القوات متعددة الجنسيات على السجون العراقية، (بل وأن تعود إلى الإشراف على السجون التي آلت إلى وزارة الداخلية العراقية لوقف الممارسات اللاإنسانية، التي يتعرّض لها المُـعتقلون السُـنة على يد قوى طائفية تعمل تحت غطاء الداخلية العراقية دون أن تنتمي إليها نظاميا)، في الوقت نفسه الذي تمتنع فيه واشنطن عن تحديد برنامج معيّـن للانسحاب من العراق، تتعهّـد بالاستمرار في دعم مساندة حكومة المالكي، بل وتطلب من الأمم المتحدة أن تقود خطّـة دعم دولية اقتصادية لبغداد.
فيما ترد الأمم المتحدة، طالبة من المالكي، أن يوضح لها ماذا يريد تحديدا، ولكنها تربط ذلك بضرورة نجاح الخطة الأمنية التي تطبقها حكومة المالكي أولا، وهذه بدورها تبدو مهمة غير مؤهلة للنجاح، إن استمرت بمعزل عن مواجهة قوى الطائفية والانتقام المتسيدة في بنية السلطة العراقية الجدية والهشة معا.
فهل يفعل ذلك المالكي، أم يكون أول ضحاياها؟
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.