العراق فوق فوهة بركان
كل شيء في العراق يدفع في اتجاهين ولكن بدون قواعد واضحة أو محددة.
فبينما كان من المتصوّر أن يؤدّي تشكيل الحكومة إلى احتواء العنف، انفجرت واحدة من أعتى موجات القتل منذ سقوط بغداد في أبريل 2003.
بينما أدّت تلك الموجة إلى إثارة “احتمالات جادّة للانزلاق نحو حرب أهلية”، تظهر تقديرات البعض أن الهجمات تعكس “توجُّـهات يائسة تطرح احتمالات نهاية ما لها”، فلا يوجد يقين سوى أن العراق لا يزال يسير في طريق مجهول لا توجد على جوانبه علامات محدّدة تشير إلى “محطة وصول”.
إن التناقض الشديد الذي تحمله تلك التطورات قد دفع ببعض القيادات الأمريكية إلى العودة للنظريات باعتبار أنها “الأسلوب الأكثر أمنا” للحكم على الأمور، في ظل واقع لا يقدّم مؤشرات يمكن الوثوق بها.
فتصريحات الجنرال ريتشارد مايرز، رئيس هيئة الأركان الأمريكية التي تشير إلى أن التغلّـب على “التمرد” قد يستغرق ما بين 3 إلى 9 سنوات تستند في الحقيقة على ما تشير الكتب إليه بهذا الشأن.
ويذكر ذلك التقدير بما قاله دونالد رامسفيلد ذات مرة في ظل موجة عنف مماثلة، بأن العراق لم يشهد استقرارا في تاريخه، و”لن يشهده الآن”.
فقد عاد وزير الدفاع الأمريكي وقتها إلى ما يتصور أنه التاريخ، وهو ما يعبر عن أزمة حقيقية أشار إليها تقرير نشرته مجلة “نيوزويك” مؤخرا حول دراسة يتم تداولها بين أجهزة “مجتمع الاستخبارات” الأمريكي بشأن عدم وجود نظام موحّـد لقياس الفشل والنجاح في مواجهة العنف المسلح، فلا أحد يعلم بالضبط – كما يشير التقرير- كيف تجري الأمور في العراق!!
التقديرات المفتقدة
إن العراق يبدو حاليا وكأنه بركان على وشك الانفجار. فهو يُـلقي بحممه بعنف في كل اتجاه، مسببا خسائر واسعة في ظل عدم وجود تقديرات محدّدة لما يجري فيه، بل يبدو في بعض الأحيان أن الصورة العامة للموقف قد أصبحت أقل وضوحا مما كانت عليه قبل بضعة أشهر فحسب.
فلم تكن هناك تقديرات محدّدة منذ البداية لحجم العناصر المسلحة، لكن المثير حاليا هو أن مدى التباين في تلك التقديرات قد أصبح واسعا لدرجة تُـشير إلى أنه لا تزال تلك التقديرات غير قائمة، رغم مرور أكثر من عامين على سقوط بغداد بأيدي القوات الأمريكية.
فهناك من يشير إلى أن الأمر لا يتجاوز حوالي 3000 عنصر مسلح، وهناك مَـن يؤكّـد أن الرقم يتجاوز 20 ألف عنصرا مسلحا، لكن الأهم أنه لا يوجد تقدير مُـحدّد بشأن ما إذا كانت تلك الأعداد تتزايد في ظل انضمام عناصر جديدة لها، أم أنها تتناقص في ظل الضربات الموجّـهة لها، وتأثرها بالأوضاع المحيطة بها.
كما أنه لا يزال ثمة جدل حول “تشكيلات” الجماعات العنيفة التي أصبحت شديدة التعقيد، فهناك عناصر النظام السابق، وتنظيم الزرقاوي، وجماعة أنصار الإسلام، تُـضاف إليها عصابات الجريمة المنظمة والميليشيات العشائرية، وجماعات مؤقتة تظهر وتختفي تحت مسميات مختلفة، لكن الأكثر أهمية أنه، رغم كل عمليات الاعتقال والتحقيق الجارية، لا توجد فكرة محدّدة حول الهياكل التنظيمية الخاصة بها أو العلاقات القائمة فيما بينها أو حتى ما إذا كان “الجسم الرئيسي” لها يتمثل في تشكيلات البعث أم تنظيم القاعدة، فلا تزال هذه الجماعات أقرب إلى “شبح” لا توجد ملامح محدّدة له.
لكن الصورة أصبحت أكثر وضوحا بالنسبة لقدرات تلك الجماعات. فقد نشرت تقارير تُـشير إلى أن حوالي 124 معسكرا لجيش صدام كانت منتشرة في المثلث السُـني قد نُـهبت في فترة الفوضى التالية لسقوط بغداد.
وعليه، فإن تقديرات أعداد الأسلحة المنتشرة في العراق قد تضاعفت. كما وضح أن التمويل لن يمثل مشكلة في المدى القصير. فهناك حجم هائل من الأموال الحكومية قد انتقل إلى العشائر، وتدفّـقت أموال كثيرة من الخارج أيضا.
فالقدرات التسليحية والتمويلية لجماعات العنف – أيا كانت مسمياتها وتركيبتها – لا تزال كبيرة، وبالتالي، فإنه إذا كان الأمر يتعلق بنتائج محتملة لمعارك مسلحة، فإنه لا يمكن التنبؤ بشيء محدد.
توازن الضعف
الأهم، أن المسار الذي تشكَّـل خلال الفترة الماضية للعمل المسلح عبر الهجمات والمواجهات، يثير درجة عالية أيضا من الارتباك في التقييم، كما أنه قد يطرح احتمالات سيئة بالنسبة لمستقبل العراق.
فقد بدأ كل طرف في التكشير عن أنيابه للطرف الآخر، بفعل رغبة “جماعات العنف” في إثبات أن تشكيل الحكومة لم ولن يحل المشكلة، أو عقاب القائمين عليها الذين تعاملوا مع “السنّـة العرب” – من وجهة نظرهم – باستهانة، ورغبة قوات الاحتلال وقوات الحكومة في إثبات الوجود، وإحداث فرق.
لكن ما وُضّـح حاليا هو ما كان واضحا من قبل، وهو أن هناك حالة من “توازن الضعف” تحكم العلاقات القائمة بين أطراف العملية السياسية والأطراف المناوئة لها، وهذه الحالة تتضح على مستويين:
الأول، عدم قدرة الجماعات العنيفة على وقف المسار السياسي، فقد تصاعدت أعتى موجات العنف، قبل وبعد كل خطوة رئيسية تم اتخاذها في اتجاه بناء النظام السياسي الجديد، كما حدث خلال الانتخابات أو بعد تشكيل الحكومة، دون أن تؤدي تلك العمليات إلى وقف مسار العملية السياسية. فالانتخابات تتم والحكومة تتشكّـل، وإن كان ذلك يتم في ظل خسائر فادحة وصلت في الأسبوعين الأخيرين إلى ما لايقل عن 500 قتيلا بين العراقيين.
الثاني، عدم قُـدرة الأجهزة الحكومية المدعومة بالقوات الأمريكية على احتواء أعمال العنف، فلا تكاد توجد علاقة بين تقدم المسار السياسي وبين تقلّـص أعمال العنف، بل يبدو أن العكس صحيح أحيانا، ولا تتعلق المسألة هنا فقط بفشل أمني، وإنما عجز سياسي عن التعامل مع الجماعات التي يُـفتَـرض أنها تدعم العنف في المثلث السُـني، وإن كانت الجماعات العنيفة تتكبّـد أيضا خسائر كبيرة، كما وُضّـح من الهجمات التي شُـنّـت ضد الفلوجة وغرب بغداد ومعسكر “القائم”، على حدود سوريا.
في ظل هذا الوضع، تبدو السيناريوهات المحتملة لمسار الأمور شديدة التباين. فقد كان ثمة تصور بأن ما جرى في أعقاب العملية الانتخابية من اتصالات ومساومات فيما يتعلّـُـق أساسا بمشاركة السنة العرب في الحكومة، سوف يؤدّي إلى تقلُّـص أعمال العنف في وقت قصير نسبيا، إذ بدا أن “ثلث” المعسكر السُـني قد اتّـجه للتفاعل مع العملية السياسية، فيما أعربت هيئة علماء المسلمين عن انتقادها لبعض العمليات التي اعتبرتها “إرهابية”، كما ساد ضجر في بعض المناطق السُـنية تجاه عناصر العنف.
لكن وُضح أن هناك اتجاهات استئصالية تجاه البعثيين داخل الائتلاف الشيعي، وخلافات حادّة داخل السُـنة ذاتهم، وسطوة شديدة لبعض التنظيمات العنيفة في بعض المناطق، وأدى الفشل في التوصل لتسوية مُـقنعة للسُـنة إلى تلك الموجة العنيفة التي بدت وكأنها حالة حرب حقيقة تُـشنّ من الجانبين.
فقد وصل عدد الهجمات اليومية إلى ما يقرب من 120 هجوما، بعضها يُـسفر عن عدد من القتلى والمصابين، يقترب مما ينتُـج عن معارك الحدود، مقابل عمليات عسكرية نظامية أمريكية – حكومية عراقية تُـسفر عن تدمير لأحياء مدن كاملة.
السيناريو السيئ
لقد أدّت تلك الحالة إلى عودة السيناريو الأكثر سوءا، والذي يتعلق باحتمالات نُـشوب حرب أهلية في العراق إلى الظهور مرة أخرى. فقد عادت العمليات العنيفة التي تُـشن ضد مناطق الشيعة والأكراد إلى الظهور، واتّـسع نطاق قتل العراقيين في مراكز التطوع ومراكز الشرطة، ولوّحت بعض العشائر الشيعية بالرد على العمليات في ظل تقديرات تُـشير إلى أن كثيرا من تلك العشائر لديها ترسانات أسلحة ودبّـابات مدفونة في الرمال، وميليشيات مستعدة أيضا، وأنه لم يتم التمكّـن من منع حدوث بعض العمليات الانتقامية بالفعل ضد بعض العناصر السُـنية، وأن نطاق ذلك كان من الممكن أن يتّـسع، لولا ضغوط المرجعيات.
لقد وصلت الجدالات على هذا المستوى إلى درجة مثيرة. ففي أحد اللقاءات، نصح محلل شيعي أحد قيادات هيئة علماء المسلمين بعدم المبالغة في طلب جلاء القوات الأمريكية، لأن مهمّـتها التي لا يتم الحديث عنها، كما قال، هي حماية السُـنة العرب، وأنه إذا خرجت تلك القوات لن تتمكّـن العناصر المسلحة المدعومة سُـنيّـا من تكرار “هجوم الحلة” دون تحسب لوجود 15 مليون شيعي في العراق. فهناك حالة من نفاذ الصّّـبر التي قد تجد بعض تعبيراتها، إذا استمرت العمليات العنيفة في استهداف العراقيين بالصورة الحالية، خاصة في ظل توجّـهات الجماعات المسلحة الدينية تحديدا، والتي تشير بياناتها إلى تعصُّـب بلا حدود.
إن كل القوى العراقية تؤكّـد أن العراق لن يشهد مثل تلك السيناريوهات السيّـئة، لكنها كلها لا تخفي قلقها من حجم تأثير تلك الطائفية والعرقية والمذهبية والعشائرية، التي وُضّـحت خلال عملية تشكيل الحكومة الجديدة، والتي وصلت “المحاصصة” فيها إلى الوظائف الدنيا في المؤسسات الحكومية. كما لا يُـخفي أحد تلك الحساسيات الكامنة تُـجاه الأطراف الأخرى، مع تحذيرات من احتمالات فُـقدان السيطرة، إذا استمرت الضغوط المتبادلة التي تتجاوز اعتبارات السياسة أحيانا.
لكن كل ذلك لا يُـقارن بعد وجود تقديرات لدى أحد منهم، مثل الأمريكيين، بشأن ما يُـمكن أن تؤدّي إليه أعمال العُـنف المتصاعدة من انقلابات حقيقية في الأوضاع القائمة، مَـهمَـا بدا أنها في سبيلها للاستقرار. فالعراق لا يزال يعيش فوق فوهة بركان لم ينفجر بعد، رغم كل تلك التفجيرات التي تشهدها أراضيه يوميا.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.