“العراق في مواجهة لحظة الحقيقة”
سيواجه العراق خلال الفترة القادمة لحظة الحقيقة. فإذا كان هناك هدف أخلاقي إسمه انسحاب قوات الإحتلال من أراضيه، فإن ثمة اعتبارات عملية قاسية تُـحيط بتلك المسألة بصورة تجعل الانسحاب مشكلة، كما كان الاحتلال مشكلة.
فليس هناك تقدير واحد منضبط يشير إلى أن الانسحاب سيؤدي إلى وقف العنف أو حل مشكلة الأمن في العراق..
على الرغم من أن الرئيس الأمريكى جورج بوش لايزال يؤكّـد أنه لن يحدُث انسحاب مبكّـر من العراق، يوجد ما يفيد بأن “خيار الانسحاب” قد دُرس بجدية داخل الإدارة الأمريكية، وأن ملامح عامة له قد أقرت، رغم أنه (ربما) لم يتحول إلى خطة عملياتية، ولم يتّخذ قرار نهائي بشأنه، كما لاتزال هناك أسئلة هامة بشأن إطاره ونطاقه، والتداعيات المحتملة له.
خيار بلا قرار؟
كانت التأكيدات الأولى بشأن الانسحاب الأمريكى من العراق قد وردت فى الوثيقة البريطانية السرية التي تسرّبت عقب تفجيرات 7 يوليو الماضي بلندن، والتي حملت عنوان “خيارات مستقبل وضع القوات البريطانية في العراق”، إذ أشارت إلى خطط أمريكية لخفض القوات (المتحالفة) من 167 ألف جندي إلى 66 ألف جندي، في إطار تأكيدات بأن ذلك سيتضمّن سحب 5 آلاف جندي بريطاني، بحلول أبريل 2006.
وأكّـد وزير الدفاع البريطاني جون ريد وجود الوثيقة، مع إشارة إلى أنها خيار بلا قرار، كما أشار وزير الدفاع الامريكي دونالد رامسفيلد إلى الأرقام الواردة فيها دون تعليق.
التقارير الأكثر تحديدا نُـشرت في مجلة نيوزويك الأمريكية أول أغسطس الجاري لتؤكّـد أن البنتاغون يعتزم خفض عدد قواته المتواجدة في العراق (135 ألف جندي) إلى 80 الفا بحلول منتصف عام 2006، ليصل العدد مع نهاية 2006 إلى ما بين 40 – 60 ألفا، مع نشر معلومات محدّدة بشأن إبلاغ رامسفيلد ذلك إلى رئيس الوزراء العراقى إبراهيم الجعفرى، الذي كان قد صرّح أمام الجمعية الوطنية العراقية بأن “هذه القوات لن تبقى إلى الأبد (بالطبع)، غير أنه لا ينبغي أن تملي هجمات المسلحين عليها مثل هذا الانسحاب”، ولم يحاول أي مسؤول أمريكى أن ينف ذلك بشكل قاطع.
وفي الواقع، فإن السياسة الرسمية للإدارة الأمريكية، التي تؤكد أن القوات لن تنسحب قبل اكتمال مهمّتها في العراق، لا تتعارض مع تلك النوايا. فعلى الأرجح، سوف تعتبر الإدارة أن المهمّة الأساسية قد اكتملت بإنهاء الدستور العراقي في أغسطس، وإجراء الاستفتاء عليه في أكتوبر، وإجراء الانتخابات العامة في ديسمبر 2005، الذي قد تشهد نهايته بداية انسحاب القوات الأمريكية من العراق.
الفيالق الأخيرة
النقطة الأساسية هي أنه لا يتم الحديث عن انسحاب كامل للقوات الأمريكية (ولا البريطانية) من العراق، وإنما إجراء عملية سحب كبيرة لها إلى خارج العراق خلال عام 2006. ففي ذلك التوقيت، سيظل هناك ما بين 40 – 60 ألف جندي أمريكي بالعراق، وهي بالمناسبة الخطة الأصلية. فقد كان تصور البنتاغون منذ البداية هو إبقاء ذلك العدد بالعراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، ولا يتم الحديث بهذا الشأن عن مصير تلك القوات في الفترة التالية، وهنا يوجد إحتمالان:
الأول، أن هذه القوات سوف تتمركز في عدة قواعد ثابتة خارج المدن داخل العراق، على غرار ما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا، وأنها سوف تستمر في العراق استنادا على معاهدة تعاون دفاعي مع حكومة ما بعد ديسمبر 2005، وأن مهمتها الرئيسية سوف ترتبط بالمساعدة في الدفاع عن الدولة ضد أية تدخلات خارجية، خاصة في ظل التقارير التي تتحدث عن وجود مشكلات حقيقية تواجه عملية إعادة بناء الجيش العراقي، الذي لن يكون جاهزا حتى ذلك الحين لتولي المهمة. وعلى ذلك، فإن ما سيحدث في واقع الأمر هو عملية انسحاب لحوالى 65% من القوات مع إعادة انتشار للقوات المتبقية.
الثانى، أن يتم إستكمال سحب كل القوات الأمريكية إلى خارج العراق خلال عام 2007، ويتضمّـن ذلك تلك القوات المتبقية لعدم إيجاد ذريعة لعناصر المقاومة السُنية وجماعات الإرهاب لاستمرار عملها ضد الحكومة الجديدة والقوات الأمريكية، مع بناء “تسهيلات” عسكرية داخل العراق، تكون مؤهلة لاستقبال تلك القوات، مع إعادة تمركز تلك الوحدات (60 ألف جندي) في قواعد عسكرية ملاصقة للعراق، ربما في الكويت أو الأردن أو السعودية أو تركيا، بحيث تكون قادرة على التحرك نحو العراق بشكل سريع في حالة حدوث تدخل خارجي أو انهيار داخلي، وهو بديل يناقش حاليا.
كيف ستسير؟
فى هذا الإطار، تكتسب التفاصيل الخاصة بانسحاب القوات الأمريكية من العراق أهمية قصوى. فهناك إدراك عام من جانب كل الأطراف بطبيعة الصراع القائم في العراق، فهو يمثل صراع سلطة بقدر ما يمثل مقاومة ضد إحتلال، وبالتالي، فإن خروج القوات الأمريكية لن يحل المشكلة، بل أنه قد يؤدي بشكل مباشر إلى حرب أهلية عراقية، لذا تم تصميم العملية بحيث تمنع قدر الإمكان حدوث ذلك، لكن دون ضمانات محددة، على النحو التالى:
أولا، أن عملية الانسحاب سوف تتم بشكل تدريجي، دون جداول زمنية محددة لها، بصورة تُـتيح تعديلها في أي وقت، فسوف يتم في البداية سحب 20 ألف جندي، ثم يتزايد العدد بعد ذلك مع الوقت، دون تقديم أي انطباع بأن القوات الأمريكية سوف تخرج من العراق، على نحو يتيح “لعناصر العنف” بناء إستراتيجيات محدّدة لما قد يعتبر مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي.
ثانيا، أنه لن يتم سحب أية قوات دون أن تكون ثمة قوة عراقية من الجيش أو الأمن قادرة، عدديا على الأقل، على الإحلال محلها، أو القيام بنفس المهام تقريبا، وتم تحديد المناطق أو المحافظات التي سيتم الانسحاب منها أو المهام التي سيكون مطلوبا القيام بها، مع الإسراع في محاولة تشكيل القوات الكافية للتعامل معها، والضغط على الحكومة العراقية لإنهاء المشكلات السياسية التي تعوق بناء تلك القوات.
ثالثا، أن عملية الانسحاب سوف تركّـز على القوات المقاتلة، مع ترك عدد كبير من العناصر التي تقوم بمهام التدريب والتسليح والمستشارين لمتابعة عملية بناء القوات البديلة، وإدارة الصراع الداخلي، وحتى تلك القوات، لن تنسحب كلها – كما تمّت الإشارة – إلى خارج الشرق الأوسط، فسوف تتمركز في مواقع قريبة من العراق للتعامل مع سيناريوهات أسوأ حالة، في حالة حدوثها.
خطوط حمراء
لكن الأهم، أن وزارة الدفاع الأمريكية ستكون شديدة الحرص على أن لا يبدو انسحاب تلك القوات من العراق على أنه هزيمة أو فرار، فهذه المسألة تمثل “خطا أحمرا” لدى الإدارة الأمريكية التي تدرك تماما معنى حدوث ذلك، إذ أنها قد تخلّت عن هدف هزيمة ما تعتبرهم “المتمردين” أو الإرهابيين، في ظل إدراك بأن المسألة ستحل سياسيا في الأساس، لكنها لن تبتلع أبدا فكرة أن تبدو وكأنها هُـزمت، أو أن تترك العراق بالفعل، أو أن لا تفكك جماعة الزرقاوي، على الأقل قبل خروجها، أيا كان حجم الخسائر البشرية التي يمكن أن تتكبّـدها، والمسألة هنا هي كيف يمكن أن يطبق ذلك عمليا؟
إن الإدارة الأمريكية قد إرتكبت أخطاء تقدير هائلة في العراق، خاصة بعد نهاية الحرب النظامية، وهو ما عبر عنه دوغلاس فيث، وكيل وزارة الدفاع الأمريكية بقوله “لا أستطيع تأكيد أننا قمنا بفعل الصواب. ما أقوله هو أن الأمر معقّـد للغاية لأحكم على ما إذا كان الطريق الذي سلكناه بكل حسناته ومساوئه هو الأفضل”، وأدّى ذلك إلى سقوط أعداد هائلة من القتلى قدّرت أعدادهم بحوالى 25 ألف شخص عراقي، وما يقترب من 1850 قتيل أمريكى بعد الحرب، وليس هناك ضمان بأن لا تكون خطة الإنسحاب الحالية أو الأسلوب الذي سيتبع في تنفيذها سوء تقدير آخر، يؤدي إلى تحول العراق إلى حقول موت مفزعة.
إن مشكلة هذه الخطة هي أنها قد تترك الساحة العراقية في حالة فراغ تؤدي إلى حالة من “الصوملة” أو الحرب الأهلية. فحكومة الجعفري تضم أجنحة إستئصالية متطرّفة لن تجعل حل المشكلة السُنية سهلا، كما أن الجيش يعاني من قلة عدد، وعدم وجود “نظام” للدعم والإسناد يمكنه من أداء عمله كمؤسسة، وتعاني قوات الأمن من مشكلات لا حصر لها، في حين تتصاعد شراسة عمليات العنف المسلح المضادة بصورة يصعب السيطرة عليها، كما أن الأطراف الخارجية مثل إيران تمثل مشكلة حادة، وقد بدأت بعض الفصائل الشيعية تكشّـر عن أنيابها تجاه بعض التجمعات السُنية، لتثبت أنها ليست أقل تهورا.
إن العراق سيواجه خلال الفترة القادمة لحظة الحقيقة. فإذا كان هناك هدف أخلاقي إسمه انسحاب قوات الإحتلال من أراضيه، فإن ثمة اعتبارات عملية قاسية تُـحيط بتلك المسألة بصورة تجعل الانسحاب مشكلة، كما كان الاحتلال مشكلة. فليس هناك تقدير واحد منضبط يشير إلى أن الانسحاب سوف يؤدي إلى وقف العنف أو حل مشكلة الأمن في العراق، ولن يكون هناك يقين حول طبيعة مشاكل ما بعد إنهاء الاحتلال، مقارنة بمشكلات استمرار الاحتلال، إلا بعد تنفيذ الانسحاب بالفعل، أما في الوقت الحالي، فإن احتمالات “الوفاق” الداخلي تتساوى مع احتمالات “الحرب” الأهلية.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.