العرب والعثمانيون: مصير واحد؟
الشبه كبير حقا بين أوضاع المنطقة العربية هذه الأيام وبين الأيام الأولى لنهاية المنطقة العثمانية، وهو تشابه يخترق مجالات عدة في آن.
ففي أوائل القرن العشرين سقطت إمبراطوريات عظمى إثر حرب مدمّرة وحلت مكانها إمبراطوريات أخرى قديمة وجديدة، وفي أواخر هذا القرن، سقطت الإمبراطورية السوفييتية، وصعد نجم الإمبراطورية الأمريكية.
الشبه كبير حقا بين أوضاع المنطقة العربية هذه الأيام وبين الأيام الأولى لنهاية المنطقة العثمانية، وهو تشابه يخترق مجالات عدة في آن.
فعلى الصعيد الدولي، سقطت في أوائل القرن العشرين إمبراطوريات عظمى إثر حرب مدمّرة وحلت مكانها إمبراطوريات أخرى قديمة وجديدة. وفي أواخر هذا القرن، سقطت الإمبراطورية السوفييتية، وصعد نجم الإمبراطورية الأمريكية.
كما كان يحدث في كل التاريخ غداة التحولات الدرامية، أدت الانقلابات الدولية إلى انقلابات إقليمية. وهكذا، انتهى عصر النظام الإقليمي العثماني في الشرق الأوسط، وأقيم مكانه النظام الإقليمي البريطاني – الفرنسي، في إطار اتفاقيات سايكس – بيكو.
وألان، يجري التمهيد لإقامة نظام إقليمي جديد في المنطقة، متطابق مع مصالح وأهواء الإمبراطورية الأمريكية المهيمنة.
وعلى الصعيد الأيديولوجي، أدت هزيمة تركيا إلى سقوط فكرة الأمة العثمانية الجامعة، التي بذلت إسطنبول جهودا مضنية طيلة قرنين لجعلها بديلا عن الأفكار القومية المحلية الصاعدة. وألان، تبذل أمريكا جهودا مماثلة لإحلال فكرة شرق أوسطية ونظام شرق أوسطي، مكان فكرة الأمة العربية والنظام الإقليمي العربي.
وماذا أيضا؟ هناك التشابه الأهم: أطلق على الأمة العثمانية منذ القرن التاسع عشر إسم “رجل أوروبا المريض”. وألان يطلق على الأمة العربية التسمية نفسها، لكن مع شمولية أكبر: “رجل العالم المريض”.
والسؤال الذي يطرح الآن في أوائل القرن الحادي والعشرين، هو نفسه الذي كان في أوائل القرن العشرين: هل تنوي أمريكا قتل “رجل العالم المريض”، كما فعلت بريطانيا وفرنسا مع رجل أوروبا المريض، أم فقط التلاعب في جيناته مع الإبقاء على تركيبته العامة؟
إشارات ودلائل
كل الدلائل تشير إلى أن اليد العليا هي لمشروع القتل، وهذه بعضها:
· التمهيد لإعلان الوفاة السريرية لجامعة الدول العربية، التي كانت طيلة نصف القرن، التعبير الرمزي عن وجود النظام الإقليمي العربي. وفي هذا الإطار، كان مثيرا أن تبدي الولايات المتحدة انزعاجها من الجهود السعودية والمصرية والسورية لإصلاح وتطوير مؤسسة الجامعة العربية. لماذا؟ لأن هذه التطويرات سميت “الإصلاحات في الوطن العربي”، وليس “الإصلاحات في الشرق الأوسط الكبير”.
· تقسيم المنطقة العربية إلى ثنائيات جديدة متصارعة، تقف بموجبها “الدول الصغيرة”، التي تتبنى السياسات الأمريكية في وجه “الدول الكبيرة” العربية المقاومة لها.
بيد أن التقسيمات لن تتوقف عند هذا المنحى الأفقي، ثمة احتمال كبير بأن تكون عمودية أيضا، إذا ما تطلب الأمر، وهذا قد يعني تقسيم بعض الدول العربية إلى دويلات، في الغالب وفق أسس طائفية وقبلية أو حتى عرقية.
بالطبع، هذا التشريح الشامل لجثمان رجل العالم المريض لن يتم بين ليلة وضحاها، كما حدث مع رجل أوروبا المريض. فهذا الأخير كان دولة واحدة وكان يكفي سقوط عاصمتها كي ينهار بنياها برمته، بينما الأول كتلة من 22 دولة تتباين بحدة ظروف التغيير المحتمل في كل منها.
فبعضها (كمصر) ضخم إلى درجة تحتم التعاطي معه بحذر وتؤدة، بصفته كيان تاريخي غير قابل للتجزئة، وبعضها (كسوريا والسعودية) كبير نسبياً أيضا، لكن مستلزمات الخرائط السياسية الجديدة قد تغري باستخدام مباضع التقسيم فيها.
وعلى أي حال، من المرجح أن تنحاز أمريكا إلى فكرة الكيانات الصغيرة في المنطقة، بعد أن حققت تحالفاتها مع الدول الصغيرة العربية منذ مطلع تسعينات القرن العشرين نجاحات باهرة (الكويت، قطر، البحرين، الأردن، تونس وموريتانيا.. الخ).
إضافة، لن يكون من السهل على الولايات المتحدة إقامة بنيانها الإقليمي الجديد قبل تصفية الحسابات مع بؤرتي صراع خطيرتين: فلسطين وإيران.
ففي فلسطين، أدرك أرييل شارون حاجة النظام الأمريكي الجديد الملحة لإغلاق ملف هذه الأزمة عبر إقامة نوع من أنواع الدولة الفلسطينية، فعمد إلى اتخاذ الإجراءات السريعة لمطابقة الحاجة الأمريكية مع الرغبات الإسرائيلية: الجدار الفاصل، الانسحاب من غزة والضم الرسمي لنصف الضفة.
لكن هل ستكون واشنطن قادرة على ابتلاع هذا الأمر الواقع “الشاروني” الجديد؟ وهل يمكن لهذه “الدولة اللادولة” الفلسطينية أن تحقق الاستقرار للنظام الإقليمي الأمريكي؟ هذا السؤال قد يحتاج الى سنوات عديدة للرد عليه.
وفي إيران، لا تبدو الصورة أقل تعقيداً، صحيح أن واشنطن تبدي رغبة علنية في إطاحة نظام الملالي وإحلال نظام جديد موال لها مكانه، إلا أنها لا تعرف حتى الآن ما هو السبيل الأمثل لتحقيق هذا الهدف، وقد تمر سنوات أيضا قبل أن تكتشف واشنطن هذا السبيل.
بيد أن هاتين العقبتين، وبرغم أنهما سيزعجان النظام الإمبراطوري الجديد، إلا أنهما لن يوقفا تبلوره، وهذا واضح على أي حال في مبادرة الشرق الأوسط الكبير التي كانت، بالمناسبة، أول وثيقة أمريكية رسمية تحدد طبيعة التوجهات في المنطقة الممتدة من باكستان إلى المغرب العربي، والتي ستكون الأساس الذي ستبنى عليه قواعد النظام الإقليمي – الدولي الجديد في هذه المنطقة الشاسعة، ربما بمشاركة أمريكية – أوروبية. كيف؟
تجاذبات وحصص
لابد من القول أولاً، أن التجاذبات لا تزال مستمرة بين أوروبا وأمريكا حول وراثة “رجل العالم المريض”، وحول حصة كل منهما في الوليمة الشرق أوسطية الجديدة.
لكن الشهور القليلة الماضية شهدت بعض خطوات التقارب بين المبادرات الأوروبية والأمريكية حيال المنطقة، وجاءت الخطة التي أقترحها جوشكا فيشر، وزير الخارجية الألماني أوائل الشهر الماضي، بمثابة البواكير الأولى لهذا التقارب.
فقد دعت الخطة إلى : بلورة مبادرة أوروبية – أمريكية مشتركة لتشجيع الإصلاحات الديمقراطية في الشرق الأوسط، والتنسيق بين برامج حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي في حوض البحر المتوسط، والتوسيع غير الرسمي للحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي جنوبا على قاعدة التعاون مع دول هذا الجنوب في مجالات الأمن وحكم القانون والتنمية الاقتصادية والتبادل الثقافي، وإقامة منطقة تجارة حرة عام 2020.
خطة فيشر هذه نزلت بردا وسلاما على قلوب الأمريكيين، لأنها قد تعني (في حال حصولها على دعم فرنسي) اندراج أوروبا في مبادرة الشرق الأوسط الكبير الأمريكية، وقد أصبح هذا البرد والسلام منعشا أكثر، حين أعلن الوزير الألماني أن “الفشل الأمريكي في العراق ستكون له مضاعفات علينا جميعا”، وهذا لسببين:
الأول، أن هذا الإعلان أزال الشكوك الأمريكية العميقة من أن الفرنسيين والألمان يتمنّـون أن تدمي واشنطن أنفها في العراق والشرق الأوسط، لأن ذلك سيمكّـنهم من تحدّي زعامتها في قارة اوراسيا.
والثاني، أنه أزال شكوك أوروبا من أن أمريكا تريد اجتياح الشرق الأوسط، ليس فقط للسيطرة على النفط، بل أيضا لتطويقها من الجنوب، وهذه في الواقع بدت لوهلة شكوكا في محلها. فلكي تتمكن واشنطن من إحكام قبضتها على أوروبا، لا مناص أمامها من استكمال نزع كل العقبات التي تحول دون بقاء الشرق الأوسط الكبير (وهو الحديقة الخلفية الكبيرة والمهمة لأوروبا) بحيرة أمريكية صافية.
“لعبة الشطرنج الكبرى”
وصف زبغنيو بريجنسكي في كتابه “لعبة الشطرنج الكبرى” هذه الخطة المزدوجة الأمريكية في أوروبا والشرق الأوسط الكبير، بأنها “السباق التاريخي للسيطرة على “كعكة قارة أورو- آسيا”، ومن يسيطر على هذه القارة يفوز بالكعكة وبزعامة العالم.
ويبدو أن بوش، قطع شوطا مهما في هذا السباق، فهو حيّـد الصين عبر الإغراءات الاقتصادية، وضم روسيا إلى معسكره من خلال “التحالف الاستراتيجي” الذي أبرمه مع الرئيس بوتين. وقد ينشط الآن لإنهاء مشاكل الهند في شبه القارة الهندية بهدف “تفريغها” للعبة موازين القوى في شرق وجنوب شرق آسيا، ثم جاء وقت أوروبا.
قبل سنة من الآن، بدا أن أمريكا وأوروبا بدأتا تسيران في خطين لا يلتقيان: أوروبا عملاق اقتصادي يبحث عن دور سياسي- أمني، فيما أمريكا عملاق سياسي- عسكري – اقتصادي يرفض أية أدوار غير اقتصادية لأوروبا.
وقبل سنة من الآن أيضا، لاحظ روبرت كاغان، ناشر دورية “بوليسي ريفيو”، أن الحلفاء الأطلسيين منقسمون هذه الأيام حول كل شيء، وأن الخلافات الراهنة حول مسألة تغيير النظام العراقي بالقوة العسكرية، هي النتيجة، لا السبب للخلافات بين الطرفين.
يدور السبب الحقيقي للصراع حول ما باتت تعنيه مفاهيم السلطة العالمية، وسيادة الدول، ودور القوة وموازين القوى في الشؤون الدولية، أيضا، ما بات يعنيه القانون الدولي، ودور المؤسسات الدولية في حل الصراعات، وفردية أو تعددية القرار الدولي.
لكن اليوم، وبعد الهزة الكبرى التي تعرّضت لها الزعامة الفرنسية – الألمانية لأوروبا على يد واشنطن، بدأت الصورة تنقلب رأسا على عقب: من الصراع في الشرق الأوسط وحوله، كمدخل للصراع على السلطة العالمية، إلى احتمال الحكم المشترك للشرق الأوسط (الكوندومينيوم)، طبعا بغلبة أمريكية فاقعة، وهذا سيحدث بسبب شعور الولايات المتحدة بالحاجة إلى دور أوروبي ما في الشرق الأوسط، ولأن أوروبا بدأت تعي بأن عليها أن تقبل ما تمليه عليها أمريكا كشرط لمشاركتها في الوليمة الشرقية الجديدة.
بالطبع،الوفاق الأمريكي – الأوروبي التام حول المنطقة لم يولد بعد. صحيح أن إرهاصاته بدأت وهي تتزايد يوما بعد يوم، خاصة بعد الصفقة الفرنسية – الأمريكية في لبنان وسوريا، لكنه سيحتاج إلى مزيد من الوقت كي يصل إلى مرحلة النضج، وربما يحتاج أيضا إلى إدارة أمريكية جديدة (ديمقراطية هذه المرة) تكون أقل نهما وانفرادية من إدارة بوش، وأكثر كرما و”عدلا” في توزيع الغنائم على المدعوين إلى هذه الوليمة.
كما هو واضح، المنطقة العربية ترقص على الإيقاع نفسه الذي رقصت عليه قبلها الدولة العثمانية قبل أن تمزقها أنياب سايكس- بيكو إلى دويلات وقوميات متناحرة ومتصارعة، وسيحتاج الأمر إلى معجزة حقيقية لإنقاذ الشرق الأوسط العربي من المصير العثماني.
لكن، ولأن عصر المعجزات ولّـى، لن يكون الآن في المنطقة سوى قرقعة المباضع وصليل السكاكين، حتى إشعار آخر!
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.