العرب والمصالحة فى العراق .. حظوظ متباينة
استقبلت حكومة بغداد المؤقتة مساعد أمين الجامعة العربية بفتور واضح، وقال ليث كبة، المتحدث باسمها: "إننا لا نحتاج الي مؤتمر مصالحة وطنية".
ورغم هذه الأجواء المتلبدة، يرى مراقبون أن احتمالات نجاح مسعى جامعة الدول العربية في العراق تظل قائمة.
فى علم إدارة الأزمات الدولية نصيحة تقول أن تقديم مبادرات أو عرض وساطات يتوقف على عمق الأزمة وتصاعدها وانفلات الأمور من أيدى أصحابها..حينها يحتاج الجميع إلى دور طرف ثالث أو رابع، المهم أن يحمل معه مخرجا مناسبا، يوقف التصعيد ويحفظ ماء الوجه للجميع.
ولعل هذه النصيحة تنطبق جملة وتفصيلا على عرض الجامعة العربية باستضافة مؤتمر للمصالحة العراقية الشاملة بعد الاستفتاء على الدستور.
وهو العرض الذى بلورته لجنة متابعة وزارية عربية لدراسة الوضع العراقى فى اجتماعها فى مدينة جدة يوم 3 أكتوبر الجارى، وانتهت إلى استراتيجية عربية هدفها الحيلولة دون انهيار العراق أو خروجه من المنظومة العربية.
أهداف العرض العربى
وهنا يتضح أن العرض العربى له أهدافه الخاصة التى تتجاوز أهداف بعض القوى العراقية فى الداخل.
ولن نكون مجافين للحقيقة إذا أكدنا على أن هناك قوى داخل العراق، بعضها محسوب على الشعب العراقى نفسه وبعضها الآخر دخيل عليه، عملت جاهدة منذ اللحظة الأولى للاحتلال على تفريغ العراق من الوجود الدولى ممثلا فى الأمم المتحدة جنبا إلى جنب تفريغه من الوجود العربى الطبيعى، وهذه القوى ما زالت تعمل على استمرار هذا الوضع لأنه يمثل ثغرة كبرى يمكن من خلالها تمرير كل مشاهد الهيمنة الخارجية والاستفراد بفئات عراقية بعينها وعزلها عن محيطها العربى الطبيعى.
وللأسف بعض هذه القوى هى فى مراكز صنع القرار العراقى وتستفيد من هذا الوضع كثيرا فى إثارة الغبار على أى خطوة عربية إيجابية تجاه العراق، كما تعمل على تعقيد الأوضاع التى يسعى العرب للتعامل معها بغية إفشال مسعاهم، بل وتحميلهم وزر تردى الأوضاع الأمنية فى الداخل. وما الغموض حول مصير السفير المصرى إيهاب الشريف ببعيد عن الأذهان.
ليست المرة الأولى
وحين نتحدث عن عرض عربى باحتضان مصالحة عراقية شاملة، نشير إلى انه ليست هذه المرة الأولى التى تطرح فيها دعوات عربية بشأن الوضع العراقى.
ففى شهر يوليو من العام الماضى عرضت الرياض إمكانية إرسال قوات عربية وإسلامية لتحل محل القوات الأجنبية فى العراق. غير أن الصعوبات العملية وعدم توافق القوى السياسية العراقية لم يتح فرصة حوار جدى حول قيمة وضرورة هذا الطرح السعودى، وبالتالى انتهت المبادرة بأسرع ما يمكن.
كما أن مؤتمر شرم الشيخ الدولى الإقليمى الذى عقد فى مصر نهاية 2004 تبنى الدعوة إلى إجراء مصالحة عراقية بعد الانتخابات، وحينها طرح موضوع الجدول الزمنى للانسحاب ومدى قابلية مشاركة العناصر المسلحة. وكلا الأمرين مازالا مطروحين على مائدة المباحثات العراقية، مع اختلاف جذرى فى مواقف الأطراف.
الحاجة إلى تدخل حميد
وفى هذه المرة تبدو الأوضاع العراقية أكثر قابلية للتعاون مع رؤية عربية جماعية تهدف إلى الحفاظ على العراق موحدا ومستقرا ولاعبا رئيسيا فى الإقليم العربى.
وربما يقول كثيرون أن الدور العربى قد تأخر كثيرا، وانه يجئ فى التوقيت الخاطئ، وفى المقابل يقول آخرون أن المهم هنا أن العالم العربى بدأ خطوة جادة وكبيرة ينبغى تدعيمها وتأييدها، حتى ولو جاءت متأخرة.
إن رؤية ثاقبة لما يجرى فى العراق تقود إلى استنتاج واحد، وهو أن العراق بحاجة ماسة إلى تدخل حميد يعينه على تجاوز حالة المحنة والأزمة الداخلية الآخذة فى التعمق.
فالحكومة العراقية المنتخبة برئاسة إبراهيم الجعفرى تبدو غير قادرة على توفير الحد الأدنى من الأمن لكل العراقيين، وتتجاذبها حسابات مذهبية بالأساس فى علاقتها مع السنة على وجه الخصوص، وفى عهدها استشرت مظاهر التصفيات على أسس طائفية بطريقة غير مسبوقة، وبما ينذر بحرب أهلية إذا استمر مثل هذا الاتجاه فى التصاعد. أما مسودة الدستور التى وافقت عليها الجمعية الوطنية الانتقالية فهي مليئة بالثغرات والمواد الغامضة التى تزيد من احتمالات تفكك العراق.
وفى عهد هذه الحكومة تعاظم النفوذ والتدخلات الاستخبارية الإيرانية فى المناطق الجنوبية للبلاد بصورة غير مسبوقة. ويسود العرب السنة قدر كبير من الغضب وعدم اليقين إزاء المستقبل، ويرفضون فى غالبيتهم مسودة الدستور لأنها تتجاهل هوية العراق العربية، وتفتح الباب واسعا أمام تفكك العراق، وتفرض التعامل مع جزء من الشعب العراقى بطريقة غير منصفة بل تدفع إلى إقصائهم تماما من الحياة السياسية. غير أن قيادات السنة العرب لم يصلوا بعد إلى سياسة موحدة بشأن التعامل مع العملية السياسية والموقف من الاستفتاء على الدستور. ويبدو – من خلال أحدث المؤشرات – أن رغبة إسقاط الدستور والاستفتاء عليه بلا هى التي تشكل الغالبية في صفوفهم.
ترحيب غير مضمون
هذه الصورة المعقدة والمتشابكة تقول شيئا واحدا وهو أن الدور العربى الذى اتفق على ملامحه الأولية فى اجتماع جدة لوزراء لجنة متابعة الوضع العراقى، وسيبدأ خطواته الأولى عبر التمهيد لزيارة الأمين العام عمرو موسى إلى العراق شماله وجنوبه ووسطه وكل جزء فيه، لن يكون مُرحبا به من قبل البعض فى الداخل، بل ربما يجاهد هؤلاء لإفشال أى جهد عربى يسعى إلى مساعدة الشعب العراقى بكل أطيافه على تجاوز محنته الراهنة.
ولذلك فإن الإصرار العربى على استكمال المهمة واستعادة العراق إلى محيطه الطبيعى سيكون هو المحك والفيصل فى حماية العراق ووحدته، وفى منع المنطقة ككل من الانزلاق إلى مخاطر جمة لاحقا.
والحق أن طبيعة المبادرة العربية فى هذه المرة ما زالت تصطدم بتأويلات شتى فى داخل العراق. والأصل وجوهر المبادرة حسب ما انتهت إليه اللجنة الوزارية العربية الخاصة بالعراق هو مساعدة العراقيين على وقف حالة التفكك الجارية واستعادة الثقة بين كل القوى و التيارات العراقية بعضها ببعض، ومساعدة العراق على استعادة الأمن وتمكين السنة من ممارسة حقهم السياسى بما يتناسب مع نسبتهم العددية فى المجتمع ككل، وغلق أبواب النفوذ الإقليمى غير الطبيعية، والمساهمة فى إتمام العملية السياسية التى تسرع من إنهاء الاحتلال وفق جدول زمنى مناسب، ومساعدة الحكومة العراقية على محاصرة مظاهر الإرهاب والعنف المتصاعدة.
ومع أن هذه الأهداف تبدو طموحة للغاية، إلا أنها تضع إطارا عاما واضحا لحركة الجامعة العربية تجاه العراق.
النقطة الأهم
ولعل النقطة الأهم فى هذه الاستراتيجية العربية هى تحقيق المصالحة العراقية عبر الحوار مع كل القوى وتوفير لقاء مشترك بينهم ليضعوا بالتعاون مع الجامعة العربية خطة عمل لعراق موحد ومستقل. وبالرغم من الترحيب العام بعودة الدور العربى للعراق، فإن المواقف الحقيقية بين العراقيين أنفسهم تبدو متناقضة.
فالحكومة العراقية برئاسة إبراهيم الجعفرى ومن ورائها قوى الائتلاف الشيعى اعتبرت أن المقصود بالمبادرة العربية هو المساعدة فى إقناع السنة بالموافقة على مسودة الدستور فى الاستفتاء المقرر إجراؤه يوم 15 أكتوبر. وأنه لا يوجد ما يبرر الحديث عن أى مصالحة عراقية، بل عقد مؤتمر عام لدعم الدستور والعملية السياسية ودعم مشاركة السنة فى الاستفتاء.
هذا الفهم يعتبر تفريغا للمبادرة العربية من مضمونها، بل يعتبر محاولة لتوظيف الدور العربى لصالح فئة عراقية على حساب الفئات الأخرى. وهو ما المح إليه عمرو موسى بالرفض حين اعتبر أن المقصود هو عدم التأثير على الموقف من الدستور لان هذا شأن يخص العراقيين أنفسهم، وإنما المقصود هو قيام جهد عربى يؤدى إلى تطبيع العلاقات ويقيم الثقة بين العراقيين، وان مهمته المحددة بالتحضير لمؤتمر مصالحة عراقية ستكون بعد إجراء الاستفتاء وليس قبله.
ترحيب سنى .. وجدل
على الجانب الآخر عبرت الهيئات والمنظمات السنية عن ترحيبها بالدور العربى، باعتبار أن الوضع الداخلى بات معقدا جدا، وانه يحتاج إلى دعم الأشقاء ولان الجامعة العربية تملك الخبرات التى تمكنها من إقناع الجميع بالجلوس الى مائدة المفاوضات وتحقيق مصالحة تحمى وحدة العراق وتضامن أبنائه.
ولذلك فإن مشاركة الجميع فى هذا المؤتمر بمن فيهم من يحملون السلاح والبعثيين تبدو مسألة مبدئية لدى القوى السنية، ولكنها محل رفض من قوى الائتلاف الشيعى، خاصة الذين يصرون على الاستمرار فى سياسة اجتثاث البعث.
هذا الجدل بين العراقيين أنفسهم حول المطلوب من الدور العربى يعنى أن مهمة الجامعة العربية لن تكون يسيرة، بل ستتطلب جهدا مضاعفا، والاهم دعما عربيا جماعيا واضحا يربط بين تقديم كافة صنوف المساندة السياسية والاقتصادية والأمنية وبين سير العراقيين أنفسهم خطوات مهمة على طريق المصالحة الشاملة والإصرار على بقاء العراق موحدا غير قابل للتفكك والانقسام.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.