العقول .. أفضل استثمار للمستقبل!
قد يتبادر إلى الأذهان أن تشجيع البحث العلمي والإبتكار التكنولوجي في بلد مثل سويسرا من المسلمات التي لا يمكن أن تكون محل اختلاف أو تباين في وجهات النظر. لكن الأمر ليس بهذه البساطة..
فبعد أن أطلق خمسة وخمسون شخصية علمية بارزة صيحة فزع مدوية في صيغة نداء موجه إلى السلطات الفدرالية والمحلية والمؤسسات الصناعية الخاصة وأثرياء البلد يحذر من مخاطر تراجع مكانة الساحة العلمية السويسرية وقدرتها التنافسية دوليا، جاء الرد في ندوة تقويمية شاركت فيها نخبة البحث والابتكار العلمي في سويسرا صبيحة الخميس في برن.
النقاش الذي دار بين أصحاب القرار السياسي ممثلين في وزير الإقتصاد باسكال كوشبان ووزيرة الشؤون الداخلية روت درايفوس (المسؤولة عن التعليم والتكوين والبحث العلمي) وبين كل الأطراف المعنية بالملف كشف عن وعي الجميع بدقة الموقف لكنه أظهر في المقابل حدود “الإجماع” المعلن واختلاف الأولويات من طرف لآخر.
“التكوين والبحث والإبتكار” لا زالت قيما محورية في بلد لا موارد طبيعية له يعتمد اقتصاده على التصدير بالدرجة الأولى. وبدون استمرار توفر الظروف الملائمة والمشجعة التي تسمح لأكبر عدد من الأدمغة السويسرية بالبحث والإبداع، فإن ما يعرفه المجتمع من رفاهية ونمو وازدهار سيصبح مهددا على حد قول السيدة درايفوس التي ذكرت بأن الوعي بضرورة إصلاح القطاع بدأ منذ عام ثمانية وتسعين ولا زالت الجهود متواصلة بعد أن حققت بعض النتائج الجيدة حسب تقييمها.
التنافس الدولي يحتد..
وبما أن البحث العلمي يصبح شكلا من أشكال العبث أو الترف الفكري إن لم تتحول حصيلته إلى منتجات صناعية ذات قدرة تنافسية عالية تغزو الأسواق العالمية، فان وزير الإقتصاد حرص على الإحتفاظ بنبرة متفائلة على الرغم من إقراره بوجود تحديات جدية من طرف الدول المصنعة المنافسة للكونفدرالية بشكل مباشر.
السيد كوشبان ذكر مستمعيه بأن سويسرا لا زالت تحتل صدارة الترتيب فيما يتعلق بنسبة براءات الإختراع المحتسبة لكل مليون ساكن، كما أن نطاق التكوين المهني اتسع فيها ليشمل حاليا ثلثي الشبان أي ما يناهز المائتي ألف شخص، إضافة إلى النمو الجيد للمدارس العليا المتخصصة التي نجحت في استقطاب تمويلات القطاع الخاص لفائدة عشرات مشاريع البحث العلمي التطبيقية.
لكن الأرقام المنشورة يوم الخميس كشفت أيضا عن تراجع الإنفاق العمومي (بالأسعار الحقيقية) في حقبة التسعينات على قطاع البحث العلمي والتطوير بما أن المبلغ الإجمالي لم يتجاوز في عام ألفين ثمانمائة مليون فرنك أي نفس قيمة ما رصد عام ثمانية وثمانين!
ولم يسلم القطاع الخاص من الانتقاد حيث اتضح أن نسبة الموارد التي خصصها للبحث والتطوير مقارنة بإجمالي حجم الناتج الداخلي قد تراجعت في عام ألفين إلى أقل من اثنين في المائة (في عام 89 كانت النسبة 2.1 %) وهو ما سمح لدول منافسة لسويسرا مثل اليابان والولايات المتحدة وفنلندا والسويد بالتقدم عليها واحتلال المراتب الأربعة الأولى في الترتيب العالمي.
من هنا يمكن للمرء أن يفهم ما يشبه “الإجماع الوطني” الذي ميز مداخلات جميع الأطراف حول ضرورة تجاوز العقبات البيروقراطية وعقلية التقوقع المحلي المرتبطة بتاريخ نشأة الكونفدرالية.
فهناك مزيج من الشعور لدى النخب العلمية والسياسية والصناعية بأن موقع سويسرا الريادي كساحة علمية رئيسية ومتطورة في مجال البحث العلمي والتطوير التكنولوجي أصبح اليوم مهددا على الرغم من الإقرار الجماعي بقدرة وكفاءة البحاثة والعلماء السويسريين في كل المجالات.
إجماع حقيقي : هل يتحول إلى أفعال؟
ويزيد من حدة هذا الشعور تحويل كبريات الشركات الصناعية جزءا من أبحاثها العلمية من سويسرا إلى مختبراتها في الخارج واتساع ظاهرة هجرة العقول السويسرية في السنوات الأخيرة وانخفاض نسبة إقبال النساء على مجال البحث العلمي والمختبرات الأساسية، لأسباب متعددة لعل أهمها ما وصفه أحد المتدخلين في النقاش العام بـ “التابوهات” التاريخية المتمثلة في العقد التي تحكم العلاقة القائمة بين مختبرات البحث العلمي والجامعات والكليات والكانتونات والسلطات الفدرالية بشكل يحول دون انسياب المعلومات ويفقد العلاقة بين كل الأطراف المعنية المرونة التي لا غنى عنها في عصر لا يحتمل التأخير ولا التردد في اتخاذ القرار.
وعلى عكس ما كان متوقعا، لم يحتدم النقاش حول مسألة تمويل البحث العلمي التي تظل في نظر معظم المعنيين بالملف جوهر القضية. فوزير الإقتصاد لم يتردّد في التنويه بما أقدمت عليه فنلندا (المشابهة لسويسرا حجما وإمكانيات) من ترفيع كبير في حجم التمويل العمومي للبحث العلمي في العشرية الماضية، لكنه لم يقدم تصورا متكاملا للدور الذي يتوجب على القطاع الخاص القيام به في هذا المجال.
أما ما أعلنت عنه وزيرة الشؤون الداخلية روت درايفوس، من أن الحكومة الفدرالية ستقترح قريبا على البرلمان الترفيع سنويا بنسبة ستة ونصف في المائة في حجم نفقاتها المرصودة لمجالات التكوين والبحث والتطوير في السنوات الأربع الممتدة من عام 2003 إلى عام 2007، فلم يستجب لمطلب البحاثة السويسريين الداعي إلى زيادة سنوية بعشرة في المائة لنفس الفترة. لكن القرار في حد ذاته يعني أن برن استوعبت الإشارة ولم يعد بوسعها تجاهل النداءات الملحة الصادرة عن أكثر من طرف.
وفي انتظار معرفة الحجم النهائي للتمويلات العمومية التي سترصد للبحث العلمي في الأعوام المقبلة، فان مشاركة وزيرين فيدراليين في الندوة التي حاولت أن تقدم إجابة عن التساؤل الهام: “هل تستثمر سويسرا ما يكفي في البحث العلمي؟” بمشاركة نخبة المشرفين على البحث العلمي في سويسرا، تعني أن السلطات العمومية عادت لتحمل مسؤولياتها في هذا المجال بعد فترة من التردد. فهل ستنضم إليها مؤسسات القطاع الخاص المستفيدة الأولى من التطوير العلمي والإبتكار التكنولوجي؟ هذا هو السؤال.
كمال الضيف
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.